أشباح حسين البرغوثي

أشباح حسين البرغوثي
بقلم: صفاء حميد- خاص اليمامة الجديدة
يصف حسين البرغوثي نفسه في إحدى فقرات كتابه الأشهر “الضوء الأزرق”، قائلاً:
كنت عاقلاً، ومثقفاً وطالباً في الدراسات العليا، وكلُّ شيء يبدو على ما يرام، وفي الداخل صحراء فيها كائن قاعد على ركبتيه في الفراغ و”يأكل قلبه” كما يقول الشاعر الإنجليزي، فسألته “هل هو مر؟”
“مر جدا يا صديق”.
حسين البرغوثي الحالة الأدبية النادرة والمبدع الذي يُكتشَف اكتشافاً، الذي كلما تقدمت في إثر كلماته تشعر أنّه يخاطبك أنت، ويتحدث عنك أنت، عن أعمق مخاوفك وأقسى خيباتك وأشدّ رغباتك بساطةً أو وحشية.
ولد حسين جميل البرغوثي في قرية كوبر في مدينة رام الله في فلسطين عام 1954.
انقسمت طفولته بين رام الله حيث تعيش والدته وبيروت حيث يعيش والده.
حصل على بكالوريوس الأدب الإنجليزي من جامعة بيرزيت، وعمل فيها مدة قبل أن يلتحق بالولايات المتحدة ليحصل على شهادتي الماجستير والدكتوراة في الأدب المقارن وذلك في الفترة ما بين 1985-1992.
عاد بعدها إلى فلسطين ليعمل أستاذاً جامعياً في النقد الأدبي للفلسفة والدراسات الثقافية، ثم أستاذاً للنقد الأدبي والمسرح.
بعيد عن التعليم والعمل، ولد حسين آخر، حسين الأديب والشاعر، صاحب القلم السحري المختلف والذي قلّما نتذوق قلماً مثله في عالمنا العربيّ.
مؤلفات حسين تتجلى لقارئها كنسيجٍ من عالمٍ آخر، تلتقي فيه الكوابيس بالأحلام وتختلط الحقائق بالوهم، فتصير قارئاً مشدوهاً يجرّه كاتب ساحر نحو حافةٍ قد لا يكون بعدها إلا الجنون.
يتجوّل حسين البرغوثي في ذاته، ولا أجد لمؤلفاته وصفاً أصدق من هذا، وفي ذاته هذه حانات ومتصوفة ومجانين وقصص حب ومشردون وغجريات ومرايا، وفيها كذلك شكل فريد من فلسفة الحياة، شكل قد لا ينقذك من أن يمسك شيء.
كتب حسين عن نفسه قائلاً:
قالت: “أنت تحيا داخل رأسك”
صدمتني دقة الجملة.
“أحيا في رأسي”.
أي لستُ حتي نصف حيّ، أي في صحراء أو جثة، لا فرق.
من الخارج كنت مرحًا، واثقًا من نفسي، وأفيضُ بالحياة، أدّعي ذلك أو أتظاهر به، ولا أدري أين نفصل بين الإنسان وما يدّعيه عن نفسه، ويتظاهر به.
في كتابي سيرة ذاتية هما: الضوء الأزرق وسأجون بين اللوز، وصف حسين حياته بطريقة تجعل من المستحيل على القارىء أن يميّز الحقيقة من الوهم فيها، وصفها بطريقة تحيي في داخل أي واحد منا أشباحاً كثيرة تطارده ويطاردها، وكما يقول حسين:
كل فرد في العالم يقاتل أشباحاً خاصة به.
كتب حسين البرغوثي شعراً فكان شعره عذباً وسحرياً كنثره، شعراً ينبش في العمق، عمق النفس البشرية، لا النفس المصطنعة، بل النفس الهشّة المعرّضة للصدمات والكسور والألم، النفس التي نسعى لإخفائها عن العيون، بينما يسعى حسين للاستعراض بها، ليقول ها هي ذي الحقيقة، ها هي ذي انعكاساتكم في مرايا سائلة، لم تدق بحجر الورد ولا بأحجار الزيف.
كما كتب حسين ناقداً في سقوط الجدار السابع، حمل نقده رغم كونه مقتطفات قصيرة، أفكاراً عظيمة ونظرة مغايرة للصراعات النفسية لكثير من الأدباء وشخصياتهم الروائية.
أخيراً، وبعد معركة مضنية خسرها حسين وبالمقابل خسرناه جميعاً أمام سرطان بشع تمدد سريعاً في رئتيه فقتله.
وقد ترك حسين آثاراً كثيرة وأشباحاً كثيرة تلمس كل من يقلّب صفحات كتبه ويلتمس أن يعرف حكايات حياته، ولذكراه الحية نُحيي له أخيراً قوله:
“الحزنُ ضعف، ولو صرت به شبه إله.
والشعورُ بالذنبِ ضعف، ولو صرت به قديساً.
والشفقةُ على أيّ شيءِ وعلى نفسك ضعف، ولو صرت بها مسيحاً.