ثقافةمقالات

الوشوم المعنوية أكثر إيلاماً من الوشوم على وجه وكفيّ جدتها 

الوشوم المعنوية أكثر إيلاماً من الوشوم على وجه وكفيّ جدتها

بقلم: خولة سامي سليقة/ كاتبة سورية 

(خلق الإنسان من عجل) سورة الأنبياء- الآية ٣٧

إذن متى وكيف تعلّم الانتظار؟

المؤرخ يوهانس فنسنت رأى أنه (من يجعل الآخرين ينتظرون، تكون لديه سلطة عليهم). ولأن الانتظار على الأغلب لا يعني اللا عمل عند فئة، فنجدها تمارس الصّبر ولا تعترف بالسكون، بينما يتوقف عند فئة أخرى عن كونه تدرّجاً في البناء أو فعلاً مستمراً، فتفقد الأمل وتتلاشى عندها الحركة ويصدأ محرّك الحياة.

والعجلة التي هي طيننا، تبدأ الحياة بعركها من جديد، فنتقن انتظار الفرج، وانتظار الغائب يعود، وانتظار الرزق، والحب، والزواج والإنجاب والشفاء وأشياء كثيرة، لكأن امتحاننا في الحياة هو الانتظار! وتغذي العقائد أحياناً هذا الجانب ليشعر المرء أن تعلّم الانتظار يعني تعلّم فنّ مداراة الحياة.

ربما يسأل قارئ: ما علاقة هذا برواية باقي الوشم؟

عبد الله الحسيني قال هذا، عندما افتتح العمل بعبارة (مثل نبي يكذبه قومه، كانت جدتي حمضة السّحاب) ص٩ ، إنها السبعينية الصبورة التي لم يعييها الانتظار، لكن اليائسين حولها أتعبوها، وكانت رسالتها أن تعلّمنا الانتظار. كما نراه يختتم العمل (ربما كان الربيع في الغد، أو بعد غد) ص١٧٣ ، فالربيع قادم قادم عنده، لكنه يشكّ في الوقت لا أكثر. لقد تعلّم الانتظار وفهم رسالة حمضة السّحاب، وهو الذي أعلن على لسان محمد ووالد محمد، أن لا حلّ سوى الانتظار (فلننتظر، كرّر محمد، مستعيراً الجملة من لسان أبي، شنو عندنا نخسره؟ )ص١٧١، وكذلك (إن كان أبي حرّيف صبر، فهي ليست كذلك)ص٩٠، والراوي أيضاً رغم حداثة سنه (لم نكن غشيمين عن الانتظار، لكنه كان وما يزال في كلّ مرّةٍ يباغتنا، مثل لكزةٍ في الخاصرة). ص١٧٢

عمل جاء في مئة وثلاثة وسبعين صفحة، لم يحزني كثيراً رغم ما فيه من مواجع، لأننا أبناء منظومة عالمية نخضع لقوانينها وسياساتها وقد تعلّمنا الانتظار حتى نهاية العرض، فلا دمع بعد لنسفحه من أجل أي شيء، وقد خبرنا كل شيء.

جعل هذا الشاب من الصوت، اللون، الرائحة، المذاق، عوالم تنضح ذاكرة وتقوم كراوٍ مساند أبدع في سرده. كما حكى بسلاسة عن العلاقات والمصالح والأمراض المجتمعية بلا تكلف أو زخرف لفظيّ، رغم وجود ومضات من الاستعارات والتشبيهات، والكنايات المقطوفة من الموروث الشعبي، ليزين بها أوجاع أبطاله (انقلب محمد إلى شخص ساكت، لكنه سكوت الجرس قبل أن يضغطه أحد) ص١١٧، (الأسى يجيء صادماً، دون نذير، لا فرصة لتوقع مجيئه كموت الغفلة، كالغبار إذ يهبّ) ١٢٩، (كنا هكذا، لا نفعل شيئاً في جلساتنا إن طالت، سوى أن نحرث في ماضينا) ص١٠٩، (ذبلت استقامتها)ص٦٠، وغيرها من العبارات التي خدمت النص ببساطتها وجمالياتها.

وبذكاء أغلق كاتبنا دائرة الانتظار، عبر حلّ تفرضه الحياة على أبنائها، هو النسيان. فالكون يعمل بعقلية واحدة والسياسات جزء منه، حيث تراهن على أن الانتظار الممضّ لن يصبّ إلا في بحيرة النسيان، والحياة تعطي دروساً في هذا (رأينا قبوراً بتواريخ قديمة، وكان العشب قد نما فوقها، مثلما سينبت، قريباً، فوق قبر حمضة، دون أن يحتاج إلى سبعين سنة أخرى)ص١٦٠ ، ليغدو كل شيء عابراً بلا ذكر ولا ذاكرة.

ويصف الكاتب رحيل حمضة على رأي درويش (تُنسى كأنك لم تكن)، رحيلاً بلا ضجيج ولا متاعب ولا إعلانات. ولأن القضايا الوجودية لا تعبرنا من غير أن تختبر سلامنا الداخلي وتقوّضه أحياناً مهما كان قوياً، فحمضة التي لم تكتب في قائمة الوفيات ولا استخرج لها شهادة وفاة، هي عينها التي رآها محمولة جثة هامدة في الإسعاف، وكاد يلحق بها ليناولها شالها، لأنه شهد كيف كان الصقيع يسكنها على الدوام. نعم لقد عبرت من حياة الجميع هكذا (كأنها محض خيال في رؤوسنا)ص١٦٩.

وجدلية النسيان بين الفاعل والمفعول به، وعابر بينهما يدّعي النسيان، لا تتنازل عن الأثر الذي يحتاج زمناً طويلاً طويلاً ليُمحى، والذي استعمل له رمزاً خطيراً هو (الوشم) ليجعله شهادة صادقة على بداوة حمضة وأصلها الواضح، ووثيقة إدانة عند من أراد إنكار الماضي فراح يزيل الوشم بالليزر والطرق العلاجية الأخرى، وليربط ذلك برغبة ومحاولات من يملك الحل، طمس هويات حقيقية بإزالتها وأشار إليها بلفظة (باقي).

وأجمل ربط بين العتبة النصية الأولى في العمل وهي العنوان (باقي الوشم)، ومتن العمل الذي كان محرق السرد فيه (الوشم المعنوي ) الملتصق بالفئة المقصودة من العمل، مع الخاتمة التي اقتبس فكرتها من مستهلّ معلقة طرفة بن العبد: (لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد)

فيقول في الصفحة ١٧١: (كانت آثار جلستها، في الحوش، باقية، مثل أطلال تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد). ولفظة (باقية) جعلها تأكيداً على أننا أمام أمر لا يزول بمجرد رغبتنا في إخفائه، ولفظة (ظاهر) زادت الأمر تأكيداً، فلسنا أمام وشم خفيّ كالذي رآه أسفل عنق حمضة يخفيه ثوبها، نحن أمام ظاهر اليد والحقيقة الواضحة.

والوشم المعنوي ترك أثراً عميقاً في نفوس الأبناء، من خلال رغبتهم الحثيثة في تغيير لهجتهم، حتى لا تجعلهم مختلفين عن المحيطين بهم، وتصمهم بالعار. ومريم التي كانت تخفي وجهها خلف النقاب حتى لا تُطبع بوشم

يقلل من احترام معارفها لها، أو يمنعها من الزواج في المستقبل، وهي التي رفضت عمل جدتها في السوق لأن الوشوم المعنوية أكثر إيلاماً من الوشوم على وجه وكفيّ جدتها.

كنت أقرأ ويدي على قلبي أحياناً؛ أن يسقط هذا الفتى المشاكس عن الحبل الذي يسير فوقه، بين يومياتٍ بسيطة حدّ التفاهة أحياناً، كإطلاق الألقاب المضحكة، فيما بين أفراد الأسرة الواحدة، مثل لقب مريم (الهايشة) فتغدو وشوماً معنوية في مجتمع لا يتوقف عن ابتكارها، وحواراتٍ يحسبها العابر سطحية مكرورة، ولغة سهلةٍ، وعلى ساعديه عبء إنسانيّ بكل ما فيه من المرارات والخيبات عجزت عن حمله سواعد كثيرة. وإن كانت الخاتمة غير صادمة، والموت يسابق حمضة إلى حلمها، كقول درويش(الموت مثلي لا يحب الانتظار)، إلا أني تنفست الصعداء وأنا أقرؤه يصل آمناً حيث النهاية.

……………..

خولة سامي سليقة

كاتبة وشاعرة سورية.

-بكالوريوس لغة عربية، جامعة دمشق ١٩٩٤م.

-دبلوم دراسات عليا لغة عربية، جامعة دمشق.

-دبلوم تأهيل تربوي. جامعة دمشق/٢٠٠٠م.

-ماجستير في النقد الأدبي الحديث. الأكاديمية العربية في الدانمارك، عمّان.

-دكتوراه في النقد الأدبي الحديث ٢٠٢١/الأكاديمية العربية في الدنمارك.

زر الذهاب إلى الأعلى