ثقافة

عمار عبد الخالق.. وليمة الجمر

عمار عبد الخالق.. وليمة الجمر

إسماعيل نوري الربيعي/ مؤرخ وأكاديمي عراقي

يحَاول عمار عبد الخالق بكُل ما فيه ، التأمل في إعادة اكتشاف العلاقة القائمة بين النص و الخطاب السائد، من خلال توسيّع حلقة الضوء إلى أقصى ما يمكن . ها هو يركز ناظريه في الأقاصي حيث ( رأس السماء) ساعياً لاستثمار لحظة البرق وضوئها المشع في تمييز ( حجارة الشياطين) ثمة لا جدوى يسعى عبد الخالق الإفصاح عنها و الجهر بها. بقوَام الواقع البعيد، المُحلق في السابع من السماوات، المتنائي بنفسه عن الأرض و البعيد بأقصى ما يمكن عن المستَقر والمُنبت وعن الساكن و الثابت . أنه عالم من العلاقات يقوم الشاعر بإشعال مفاعليها في رأس السماء، و ليست تلك السماء. تأمل معي كم يحاول الشاعر أن يسبح بعيدا في السماوات. ساعياً نحو برق كاشف، بكل لحظاته و آنيته و مفاجآته ، بل و عدم جدواه حيث البرق و حجارة الشياطين و السماء التي لا قرار لها. كأن الشاعر يمّهد لثورة أو انتفاضة أو حالة من الشغب. شاعر يبشر بالبروق و الرعود و الاضطراب و الانفعال و الغضب. و هاهو ذات يعمل على اتمام مشهد التشويش و القلق و الإرباك. حيث الإمعان في اللإجدوى، و اللإفائدة، و اللاطائل منه. الشاعر يصرخ يالهذا الباطل الذي يُغطي كُل شيء. العالم و قد استحال تيهاً ، و عبثاً ، و باطلا و سدى. و هكذا لا يتوانَ عمار عبد الخالق عن ركل العالم بجموحٍ نافر، بعد أن شد قبضته على جمرة الغريب و العويص و الغامض غير المألوف. ( أكياس الغبار الكوني ترمي آهاته بوجه سهول الريش الناعم بالرايات السود ).

يعمد الشاعر إلى عقد بنية تركيبية بقوام نص تقوم دلالات تفاعله على بنية الاحتجاج، الرفض، الاعتراض، الاستنكار ، الاستياء، التبرم ، الشجب، الشكوى، المعارضة ، الممانعة ، المقاومة، حيث دلالة الخطاب الذي ينطوي على المزيد من عدم القبول، و المزيد من المطالبات التي لا تعرف التوقف أو الضمور. عمار عبد الخالق مستغرق في ( مونولوغ) ساعياً من خلاله إلى التواصل بإعتبار الاستناد إلى تجليات باختين في المبدأ الحواري. ( تفتحُ ذرات الدم على البراري من أنابيب الدراجات الثلجية) .تمهيد مملوء بالعبث ، حوارية يعقدها الشاعر في صلب دائرة التواصل اللفظي، حيث النهل عن قاموس الاحتقار و الازدراء و الامتهان، و الغيض و التصرّم، و التلّهي و المداعبة، و الطفح و الفكه، و اللعب و الممازحة.

هازل هذا العمار بكل ما حوله ، حتى يجعل من ذرات الدم تنفتح على البراري. هاهو ذا الشاعر يعمد إلى بناء سيناريو يقوم على الخطاب السوريالي. مستدعيا دراجات ثلجية، من أين أتى بها لا ندري؟ بل أن الشاعر نفسه لا يدري؟! حوارية مجلجلة تلك التي يعمد إلى إنشائها ذلك الكائن الساخط الراعد. يحدد من خلال ( خطاب السخط) نظاما رمزيا يقوم على أحوال التداعي الحر. ( حيث البنية التحتية) توازي في قوامها قداسة ( مفاتيح الجنان) . مقابلة لــ ظهر السلحفاة و كتف المسيح. استثمار جزل و هائل لحوارية باختين و تناص جوليا كريستيفا، سعيا نحو بناء نظام رمزي كامل الأبعاد و المواصفات ، من أجل العمل على بث الرسالة التي لا تحتاج إلى المزيد من التأمل و التأويل و التفسير أو الشرح. الشاعر و بجهد يسير لا يفتأ أن يضع إصبعه على ملمس الجرح الناتيء، ليبدأ النزف الموغل وجعاً ،ووحشية و بذاءة، هاهو ذا الشاعر يندرج في وصف العالم الحقيقي المبتذل.

يوغل الشاعر بتوظيف السوسيولغوي، عبر التركيز على تحديد معالم العلاقات بين الوهم و الواقع، الحقيقة و الخيال، البيّن و الجلّي بإزاء الكاذب و الدعي، الصحيح و الواضح بإزاء المغشوش و المتظاهر و الزائف. نصوص يخوض به الشاعر ليكشف به عن الواقع المريع ، حيث التداخل و التناقض في أقصاه. ساعياً للكشف عن فوضى العلاقات محاولا توظيف المعاش و اليومي في صميم البنية السردية و الدلالية للنص. الشاعر يعمل على استثمار ما هو متاح و متوفر في الحاضنة الاجتماعية و الثقافية التي يعيش في صميمها. و هكذا يضع خلاصته ( جيب ليل و اخذ عتابة) حيث جدلية وطأة المشقة، و إعياء الإرهاق، و إجهاد الإتعاب. يوغل الشاعر مرة أخرى باستثمار التَناص حد الاستَنزاف ، فالشاعر هنا لا يكتب حروفا ً أو كلمات ، بقدر ما يوجه صفعه لهذا الواقع الذي استحال حفرة لا قرار لها، من التناقضات و الكرب و الهموم و الجدل و القفز على الحقائق.

و ليمة الجمر الذي يتفرس فيها عمار عبد الخالق، بمآق جفت فيها الدموع، و يبست فيها الحناجر، حيث مَحْل الأوطان ، و يُبس الزرع و الضرع، و جدب الضمائر، و ضمور الأفئدة ، و قحط الشعور، و تجفف القلوب، و نَّشْف الأرواح، و تكفف العقول و فساد الآمال. إنها النبوءة القائمة على العالق و السَاكن و الراكد و المهلهل من الواقع المريع ، ليكون المآل(سيكون قانونُ التقاعد قارورةً في غرفة التعذيب) ويا أيها الداخلون ها هنا، انزعوا عنكم أيّ أمل، حيث جحيم دانتي.

زر الذهاب إلى الأعلى