تقاريرثقافة

أ.د محمد صلاح أبو حميدة.. عميد البلاغة العربية والنقد الأدبي

أ.د محمد صلاح أبو حميدة.. عميد البلاغة العربية والنقد الأدبي

غزة- لميس الأسطل

حياتنا ما هي إلا صفحات نحياها، نقدم فيها الكثير، لتمتلئ سطورها بما يحقق ذاتنا، ويترك بصمتنا خلالها، نفيد ونستفيد، ونمضي في رحاب دروبنا، فيطلَّ علينا الأستاذ الدكتور محمد صلاح أبو حميدة، بنوره الكبير، وعلمه الوفير، ليكون أحد أعلام اللغة العربية الشامخة التي تعتز بانتمائه إليها، وتنسج قصائد الحب الباهرة، فتتراقص الأزهار في حضرتها، خصوصًا في ظل البلاغة والنقد الأدبي.

تبدأ رحلة تحقيق الذات لدى أبو حميدة، 65 عامًا، من بلدة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة، منذ أن كان في الصف الحادي عشر في مدرسة الفالوجة الثانوية للبنين، فرسم هدفًا أمام عينيه، وبدأ يشد خطاه نحوه لتحقيقه، فالتحق بالفرع العلمي، لكن شاء القدر أن يفرض التعليم انتقال الملتحقين بذلك الفرع إلى مدرسة أخرى في بلدة بيت حانون، لكن طريق الوصول صعبٌ على الطلاب، إضافةً إلى أن المكان يعتبر بعيدًا عنهم، فاعتصموا في مكتب مدير التربية والتعليم لأكثر من أسبوع، آملين أن يتراجعوا عن قرارهم، إلا أنهم لم يستجيبوا لنداءاتهم، عند ذلك آثر التخلي عمَّا يطمح إليه والتحق بالفرع الأدبي، وحصل عام 1975م على شهادة الثانوية العامة، وكان من العشر الأوائل على مستوى المدرسة؛ لتبدأ رحلة تحقيق الذات المكللة بالتميز والنجاح.

يقول أبو حميدة: “بعد أن أنهيت الثانوية العامة، كنت قد قدمت طلبًا عبر التنسيق العام للالتحاق بالجامعات المصرية، وكان يُؤخَّر الانضمام إليها لمدة عام، فكنتُ أعمل خلاله لادخار بعض المال؛ ليساعدني في دراستي الجامعية”.

ويتابع حديثه قائلًا: “تمت الموافقة على التحاقي بالجامعة، وظهر تنسيقي عام 1976م في كلية الآداب- جامعة عين شمس، فالتحقت بتخصص اللغة العربية، وتتلمذت على أيدي أساطير اللغة والنقد الأدبي، الذين يشكلون الأعمدة الرئيسية في تأسيس التعليم الجامعي في الدول العربية عامة، وأقسام اللغة العربية على وجه الخصوص، ومنهم: مصطفى ناصف ومهدي علام وعبد القادر القط ورمضان عبد وعز الدين إسماعيل، فاعتززتُ بهم ونهلتُ من علمهم الكثير، فتوسعت آفاقي وازدهرت مداركي، حتى تمكنت من الحصول على درجة البكالوريوس عام 1980م”.

ويضيف أبو حميدة: “بعد إنهائي للبكالوريوس، التحقتُ مباشرة ببرنامج الماجستير بالجامعة نفسها، فدرست فيها سنة تمهيدية عام 1981م، واتجهت نحو مجال اللغة الذي كان رغبتي الأولى دونًا عن الأدب، وتتلمذت على يد الدكتور عبد العزيز مطر -رحمه الله- واستطعت اجتيازها والنجاح فيها، فسجلت لرسالة الماجستير وكانت دراسة صوتية صرفية للهجة مدينة غزة”.

ويستكمل: “جئت لزيارة قطاع غزة لجمع المادة المطلوبة بشكل علمي، ولكن للأسف رفض المصريون استمرار الفلسطينيين بالدراسة في الجامعات المصرية لاعتبارات أمنية، فطرد حوالي 90% منهم، عند ذلك التحقت بسلك التعليم عام 1982م، فأصبحتُ معلمًا بمدرسة فلسطين الثانوية لمدة عام، ثم تقدمت للعمل في المملكة العربية السعودية بعد أن أعلنوا عن بعثة خاصة إليها، فقبلتُ وعملت في مدارس مدينة جدة”.

ويذكر أبو حميدة: “فتحت مصر أبوابها للالتحاق ببرنامج الدراسات العليا من جديد- بعد مرور أربعة أعوام من عملي في السعودية كمعلم- فعمل والدي على تسجيلي في جامعة عين شمس، ولكنهم لم يعترفوا بالسنة التي درستُها؛ لأنه كان قد مضى عليها أكثر من ثلاثة أعوام، والقانون لا يسمح بذلك، فدرست للماجستير مرة أخرى، وأردت الالتحاق مجددًا بتخصص اللغة والنحو، كما كانت رغبتي منذ البداية، لكن الدكتور رمضان عبد الثواب -رحمه الله- قال إنه لا بد للطالب أن يحضر ويتابع 70% من المحاضرات وإلا فإنه لن يقبل، وقد كنت بالسعودية؛ فلم أستطع الحضور”.

ويستطرد قائلًا: “حينها طلب رئيس القسم د.ابراهيم عبد الرحمن -رحمه الله- من والدي أن أغير مساري؛ لأتخصص بالأدب والنقد بدلًا من اللغة، مؤكدًا على أنه سيعفيني من المحاضرات، وبالفعل قمت بتغيير مساري؛ لأكمل مهمتي في الدراسات العليا”.

ويلفت أبو حميدة إلى أنه قام بالتسجيل لرسالة الماجستير عام 1987م، بعنوان: “الخطاب الشعري عند محمود درويش: دراسة أسلوبية”، مشيرًا إلى أن المنهج الأسلوبي كان في ذلك الوقت من المناهج الواعدة التي كتب فيها الباحثون، وعدد الدراسات فيه محدود، فأراد التميز عن غيره؛ فاختاره، لا سيما بكونه يمزج بين النقد واللغة في تناوله للنص الأدبي، الأمر الذي كان قريبًا من ميوله اللغوية، وناقش عام 1990م رسالته التي اتسمت بفائدتها الكبيرة، وأثنى عليها المناقشون، حتى قال له أحدهم وهو الدكتور رجاء عيد -رحمه الله-: “يا بني، لو كان الأمر بيدي لمنحتك درجة الدكتوراه على رسالتك هذه”، مؤكدًا على أن ذلك شكل لديه حافزًا كبيرًا ورغبةً شديدةً بالاستمرار والسعي.

ويشير إلى أنه بعد ذلك عاد إلى قطاع غزة، فعمل في كلية العلوم والتكنولوجيا في محافظة خان يونس جنوبي القطاع، ثم في بداية تأسيس جامعة الأزهر عام 1991م، وبعد فترة من العمل خلال الفصل الدراسي الأول مع صديقه د.عبد الجليل صرصور، طلبوا تعيين أحدهما دونًا عن الآخر وكانت ميولهم نحوه، فرد عليهم قائلًا: ” لن أقبل، إما أن نعين معًا وإلا فلا”، فرفضوا، وفي ذلك الوقت كانت جامعة الأقصى قد أعلنت عن وظائف، فتقدَّما إليها، وتم قبولهما، وعملا فيها معًا، فكانا من المؤسسين الأوائل للجامعة عامةً وقسم اللغة العربية خاصةً، تاركين بصمتهما الواعدة فيها، حتى وصل فيه الأمر إلى تولي منصب نائب رئيس الكلية للشؤون الإدارية والمالية، لكن استمر قلبه ينبض بحب جامعة الأزهر، وظلت ميوله نحوها، فقدَّم استقالته.

ويبين أبو حميدة أنه التحق ببرنامج الدكتوراه عام 1994م، وكانت رسالته عن القضايا البلاغية والأسلوبية عند السكاكي، وناقشها عام 1996م، حاصلًا على مرتبة الشرف الأولى، ثم التحق عام 1997م بالعمل لدى جامعة الأزهر، بعد أن شجعه أصدقاؤه وزملاؤه العاملين فيها لدى قسم اللغة العربية، ومنهم: عبد الهادي أبو سمرة، وفوزي الحاج، وعثمان العبادلة، وكمال الديب -رحمه الله-، فامتلأ سرورًا وفرحًا؛ كونها جامعة وطنية عريقة، من تأسيس الرمز ياسر عرفات، مانحةً الأستاذ الجامعي مكانته العلمية والأدبية، تنبض بالاحترام المتبادل وروح العمل والتعاون بين الطاقم التدريسي.

ويوضح أنه منذ أن عُيِّن في جامعة الأزهر بدأ يمارس عملًا إداريًا، فكان نائبًا لعميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية عام 1999م، وعمل على إعداد خطط برامج الأقسام، كخطط برنامج اللغة العربية فرعي إعلام، مشيرًا إلى أن معظم البرامج المزدوجة تم إعدادها في تلك الفترة، وقد ساهم بصورة مباشرة في الانتقال من الدراسة الفصلية إلى الدراسة بنظام الساعة المعتمدة.

وتم اختيار أبو حميدة عميدًا لشؤون الطلبة عام 2005م، فعمل بشكل حيوي تام، مشاركًا في الكثير من النشاطات المختلفة، لكن لم يمضِ على وقته الكثير، حتى تم تغيير مجلس الجامعة، وحصل على درجة أستاذ مشارك عام 2007م، وفي العام نفسه عُيِّن عميدًا لكلية الآداب والعلوم الإنسانية، وعمل فيها بروح الفريق، وتميز بعلاقاته الطيِّبة مع جميع زملائه، متشاورين في كل صغيرة وكبيرة، فاستطاع النهوض بالكلية بافتتاح أقسام جديدة، وتغيير وإعداد خطط جديدة، والقيام بتقييم ذاتي وخارجي للبرامج، وبلغت الكلية ذروتها في الفترة التي كان فيها حتى عام 2010م، واستطاع الحصول على إعفاء لطلبة اللغة العربية؛ لتشجيعهم على الالتحاق بالتخصص، باعتبارها اللغة الأم ولغة القرآن الكريم التي لا بد من المحافظة عليها وإتقانها؛ ليفهم الإنسان دينه وقرآنه على أصوله وحقيقته.

وترك عمادة كلية الآداب عام 2010م؛ لأن القانون لا يسمح للفرد الواحد بإمضاء أكثر من أربعة أعوام في المنصب ذاته، وعاد إليها من جديد عام 2012م حتى عام 2016م، ثم اختير بعد ذلك عميدًا للبحث العلمي وعمل فيه مدة عامين، وترك بصمته المميزة، فقدَّم شيئًا جديدًا في قضية تحكيم الأبحاث إلكترونيًا، واختياره للمقيِّمين بسرية تامة، ووضع استمارة للتقييم تتسم بالعلمية والموضوعية، وعمل على تطوير مجلة جامعة الأزهر، فقدم لها برامجًا مختلفة وباشر بإلحاقها بمجلات دولية عالمية، لكن بعد أن ترك منصبه عام 2018م؛ بفعل تغييرات حدثت لمجلس الجامعة، لم يكتمل المشوار من بعده.

وعاد أبو حميدة مرة أخرى للبحث العلمي -بعد ذلك- لمدة عام، ثم تركه بسبب السن القانوني الذي بلغه، موضحًا أن خلال مسيرته العلمية الحافلة أنتج ما لا يقل عن خمسة عشر بحثًا علميًا منشورًا في مجلات عربية ومحلية وإقليمية.

ويؤكد على أن النقد العربي والبلاغة العربية من المقررات التي يستمتع بتعليمها، موضحًا أن علاقة البلاغة والنقد الأدبي علاقة تبادلية، فالبلاغة تستفيد منه في تطوير أدواتها والنقد أيضًا يستفيد من أدواتها في تحليل النصوص المختلفة.

ويتابع أبو حميدة: “النقد الأدبي شيق جدًا، فهو يظهر كفاءة الإنسان ومقدرته على الفهم والتحليل والتركيب، والتعامل مع النصوص بمختلف أشكالها، من آيات قرآنية وشعر ونثر ورواية وقصة وغيرها، فأشعر بذاتي وبخصوصيتي وبمكانتي العلمية عند تدريسه للطلاب”.

ويشعر بالسعادة العارمة، عندما يرى قبول الطلاب في أعينهم واستيعابهم وتفاعلهم؛ لقدرته على إيصال المعلومات بصورة سهلة وسلسة وعلمية مفيدة، فدائمًا ما يعلل القضايا النقدية تعليلًا علميًا؛ لإقناع الطالب بالفكرة وتثبيتها في ذهنه.

ويشدد أبو حميدة على أن البلاغة لا يستغني عنها أي متخصص في اللغة العربية أو حتى التخصصات القريبة منها كالصحافة والإعلام؛ فكل نمط تركيبي معين يحمل دلالات مختلفة، فعلى الدارس أن يقف على تلك التراكيب ليفهم معانيها فهمًا صحيحًا دقيقًا دون أن يغيب عنه أي تفاصيل.

ويستوفي حديثه قائلًا: “الإنسان فقير بالمعرفة اللغوية ما لم يتعرف على القضايا البلاغية، فالمعرفة بها تمكِّنه من الحديث بطلاقة وبأسلوب جيد وبلغة صحيحة، وفي الوقت ذاته تمكنه من فهم الآخرين؛ فهي وسيلة للفهم والإفهام بين المتكلم والمتلقي، وهذا الأمر لا يستغني عنه أي أحد، حتى رجل الشارع يحتاج لمثل هذه الأمور”.

ويكمل أبو حميدة: “النقد الأدبي يشكل المحك الحقيقي لمتخصص اللغة العربية في قدرته على التعامل مع النصوص المختلفة وتحليلها، من حيث فهمها والوقوف على مواطن الجمال والإخفاق فيها، فلا بد من أن يكون ملمًا بالمدارس النقدية”.

ويختتم حديثه قائلًا: “أرجو من جميع طلابي أن يعتزوا بانتمائهم للغة العربية وأن يعيروها اهتمامًا أكبر؛ ليبنوا لأنفسهم مستقبلًا علميًا زاهرًا، فهي سلاح لا يستغني عنه كل مثقف، وكل إنسان لا بد أن يكون متمكنًا منها، كونها لغة القرآن الكريم، ووسيلة التخاطب مع الآخرين، ومن يتقنها ويحسن الحديث بها يلقى حضورًا بين الناس، ولا يزيده ذلك إلا شرفًا ومكانة”.

زر الذهاب إلى الأعلى