نصوص

نجمة الحرب وبقايا الروح.. نص: نادين مرتجى

نجمة الحرب وبقايا الروح

بقلم: نادين عبد الله مرتجى/ غزة

الهزةُ الواحدة والعشرون.. الثانية والعشرون..

تنفسي تنفسي ليتسعَ صدرُك للهواء والأحزان..

اعتاد جسدي المنهكُ في ممر بيتنا أن يلثمَ ركبتيّ إلى صدري، أنْ يهتزَ كلّما اهتز بيتُنا إثر صاروخٍ يحاول فكَّ أحجيةَ بيتٍ ما، ينتف أحلامُه ريشةً ريشة، فيحولها إلى ذكريات.

دائما ما كنتُ أرى في عينِ أمي الحزنَ والشفقةَ على صغارِها الذين ترعرعوا في ظروفِ بلدةٍ نقشت تاريخَها من البارود، كانت مواساتها الدائمة لي بأنني لم أخلق طفلة عادية، وأنني نجمة بين كل هذا الدمار.

نجمة يا أمي؟ نجمةٌ لم تنجح في اختبارِ جدول الضرب لكنها نجحت في أن تحصي عددَ البيوت؟ تضرب حوائطها بأرواحِ جيرانِها في عمليةٍ رياضيةٍ معقدةٍ فتسجل عددَ ضحايا الحرب تحتَ سريرها..

نجمةٌ اعتادت أن تجعلَ أصابَعها قُرطين لأذنيها في كلّ مرة ينقطع الهواءُ من صدرِها حين يُطفئُ صاروخٌ نوراً آخرَ في الشارع..

نجمةُ هربت من صفّها حين سألتها المعلمة اذكري لنا موقفاً مضحكاً عشتيه مع إخوتك، فتذكرتُ حين لعبت مع اخوتي في غرفتنا “جماد حيوان” وكيف بترت حمرةُ السماء ضحكَنا المتطايرَ في الهواء حين بصقت من جوفها العالي صاروخاً دمر بيتاً آخرَ إلى ركام من ذكريات.

الهزة الثالثة والعشرون.. الرابعة والعشرون

تنفسي تنفسي ليتسع صدرُك للهواء والأحزان..

قد أبلغ العشرين من عمري في الشهر القادم وقد لا أبلغه، عشرون عاماً سرقت الحروبُ منها الجزءَ الأكبرَ من الذاكرة، ما يؤلمني حقاً بأنني مجبرةٌ بعد أن تنتهي هذه الأيام ان أعود لحياتي السابقة، ان اذهب إلى الجامعة، أن أدرس، أن اخرج للشوارع وأن أرى العيونَ التي ازدادت خطوطاً وازدادت ظلمة..

كم من المحزن أن أنتظرَ حضنَ أبي بعد أن ينتهي كلُّ هذا الوجع وأن يبارك لنا بأننا ما زلنا على قيد الحياة..

ما زلنا على قيد الحياة؟

سأدع جسدي يخبرُك يا أبي بأنني قد متُّ منذ زمن بعيد، سأدع ندوب اظافري التي مزقت جسدي تخبرك عدد الصواريخ التي سرقت من صدري الهواء، سأدع دمي الناشف خلف أذني يخبرك كم من مرة أوهمت نفسي بأنه ليس صاروخ، بل هواء غاضب.

سأدع نجمةَ الحرب تخبرك عن ما تبقى من روحي يا أبي، هذا إن خرجنا سالمين.

زر الذهاب إلى الأعلى