مقالات رئيس التحرير

غسان كنفاني وتأصيل الهزيمة

غسان كنفاني وتأصيل الهزيمة

قراءة: جواد العقاد/ رئيس التحرير 

– نشرت هذه المقالة في مجلة الهدف: صدور عدد أغسطس/ آب.. العدد (1514) الأربعين رقميًا

كتبتُ غير مرة عن غسان كنفاني بوصفه مناضلاً قومياً على جبهتي الثقافة والسياسة، وأيقونة لا بدَّ من قراءتها دائماً، وتعبئة الجيل الشاب بفكره التحرري ليس في فلسطين وحدها بل في الأقطار العربية كافة؛ لأن كنفاني فهم دوره الثقافي والأدبي جيداً وجمع باحتراف بين الإبداع الأدبي والأيديولوجية، كما استوعب طبيعة الصراع مع النقيض الاحتلالي، ومع قوى الرجعية والتخلف والإسلام السياسي، فكان كنفاني مقاتلاً شرساً في ميادين السياسة كما لعبَ دوراً بارزاً في محاولات الاصطلاح الاجتماعي سواء من خلال كتاباته الصحفية أو الأدبية. وآمن بدور الشباب في صناعة الواقع والمستقبل ممارساً الإيمان على الصعيدين السياسي والثقافي، فكان القيادي البارز الذي يرى أن دور الحزب جماهيري يقود الشارع على أن يكون جزءاً منه ولا يحركه من المكاتب الفخمة والفنادق بالخطاب الغوغائي والعبارات العاطفية الرنانة كما نرى اليوم، فهناك فرق جوهري -بالتأكيد- بين عبارات غسان الثورية المتأصلة في السلوك الثوري والتجربة النضالية العميقة وبين الشعارات العمياء.

وقد كانت الجبهة الشعبية أيضاً الحزب الثوري الطليعي الذي استطاع غسان كنفاني من خلاله مواصلة العمل السياسي والالتحام مع الجماهير وهمومها، إذ إننا اليوم بحاجة مُلحَّة لأحزاب ثورية تُقَدِّرُ دور الشباب وتُقدِمهم في المناصب القيادية ليشاركوا في صُنع القرار كما قدرت الجبهة غسان السياسي الشاب. وهذا لا ينفك عن كون غسان أديباً مبدعاً مُحرِضاً بالصدق النابع من التجربة السياسية والثورية، وتماهي الأيديولوجي بالأدبي، ولعب على هذا الوتر لأنه يعي فعالية الأدب في التأثير المباشر أو المضمر على الوعي، وهذا ما سعى إلى فضحه من خلال دراساته في الأدب الصهيوني.

ولا بد من الإشارة إلى أن هذه المقالة تستوحي وثيقة يعالج فيها كنفاني هزيمة حزيران، ويقف على أسبابها مُؤصِلاً لها تاريخياً، ويناقش دور الشباب والحزب والسلطة في المجتمع. “شارك الشهيد غسان كنفاني بهذه الوثيقة في أعمال ندوة بيروت، التي عقدت في شهر مارس/آذار من العام 1968، وقد نشرتها مجلة الهدف في يوليو/تموز عام 1988 في الذكرى العشرين على استشهاده، وتنشر بوابة الهدف هذه المشاركة مرةً أخرى، بعد مرور خمسة وأربعين عامًا على رحيل غسان كنفاني”.

لا شك أن هزيمة حزيران ١٩٦٧م شكلت منعطفاً حاداً في التاريخ العربي الحديث، وهزَّت المشروع القومي إلى أن بدأ انحسار مده تدريجياً، ومع الهزيمة وقف العرب سياسيين ومثقفين أمام المرآة، منهم من أخذه وجع الهزيمة للمبالغة في جلد الذات، وآخرون بخاصة من رجال الدين، لم يؤمنوا أصلاً بالمشروع القومي، عدَّوا الهزيمة غضباً من الله على الشيوعيين. أما الموقف الذي أراده غسان فهو المراجعة النقدية للذات دون استغراق في الانكسار والبكاء حتى لا يتحول النقد إلى استسلام “فليس أسهل من الولاء المطلق إلا الرفض المطلق”. وتطرق إلى مسألة غاية في الأهمية، لعلها سببٌ مضمر للهزيمة، وهي أن دخول العرب الحضارةَ لم يبدأ إلا قبل أقل من نصف قرن من الهزيمة، وهي فترة غير كافية لتشكيل فكر ووعي عربي سياسي وثقافي، إذ عاشت العرب أكثر من أربعة قرون ونصف من الظلام والتخلف تحت سيطرة الاحتلال العثماني الذي حارب بشدة كل ما له علاقة بالعلم والفكر والتنوير، فلم يُنتج في ذاك العصر شيئاً. ومن هنا فقد بدأت العرب من الصفر في البناء الثقافي. “ومع ذلك فإنه لم يكن نصف قرن تماماً وفي الواقع فإن الإطلالة العربية على العصر لا تزيد كثيراً عن ربع قرن، لقد تسلم الرجال المحليون دفة بلاد شاسعة خارجة من العصور الوسطى قبل ربع قرن تقريباً.” هذه الرؤية العميقة المُؤصِّلة لا يمكن إنكارها، فالأمر ليس عسكرياً فحسب بل ثقافياً وفكرياً وسياسياً أيضاً، فكيف لشخصية العربي التي مسحها العثماني قروناً أن ينتصر وهو في محاولات لدخول الحضارة بشخصيته الناشئة ناهيك عن محاربة المشروع القومي من أنظمة عربية وجماعات ورجال دين، فالهزيمة هي تتويجٌ لصراعات ومحاولات لها أصولها التاريخية أو أهدافها الضيقة.

ولا يبتعد رفيقنا عن تأصيل الهزيمة حين ينقد هشاشة البنية الاجتماعية العربية، إذ ربط الهوة العميقة بين الأجيال وتأثيرها المجتمعي لا على الصعيد السياسي فحسب بل على الأصعدة كافة. دعونا نأخذ نظرة سريعة على مراكز صنع القرار في الوطن العربي ومن ثم نجيب عن سؤال مازال قائماً من جيل غسان إلى جيلنا هذا: هل يأخذ الشباب حقهم في التأثير لا في السلطة السياسية فحسب بل أيضاً في المؤسسات الرسمية التعليمية والثقافية والاجتماعية؟! الدم لا يتدفق في شرايين الحياة العربية فلا تحلمون بالتغيير حتى لو تغير كل يوم نظام سياسي ستبقى الأزمات لأنها متجذرة في المؤسسات التعليمية والثقافية والتربوية. و” إن حاجتنا نحن، في غمار تطورنا السريع والشديد الحركة لدفع العناصر الشابة إلى مراكز القيادة أكثر بكثير من حاجة المجتمعات الغربية، التي لا يوجد بين أجيالها المتقاربة ذلك البون الشاسع من فارق التطور الذي يوجد بين أجيالنا.” فالديمقراطية –كما يرى رفيقنا ونتفق معه- ممارسة اجتماعية تتجاوز البرلمان إلى الأسرة والثقافة، وإلى أصغر فعل يومي. إذ لابد من العمل على تحويلها من مصطلح نظري إلى ممارسة يومية، ومن ذلك فتح الأفق أمام الشباب وطاقاتهم الإبداعية الخلَّاقة فلديهم القدرة على تشكيل حراك سريع متطور بعد تجاوز أزمة عدم امتلاكهم القرار على مستوى السياسة العامة وكذلك في الأحزاب. فالعجز عن تحويل التنظير إلى ممارسة، يجعل الكتابة خطاباً غوغائياً لا أكثر ولا أقل، وواقعنا المعاصر خيرُ دليل. فالنظرية التي لا تخضع للتجربة الاجتماعية تصبح قيداً فكرياً يبقينا في دائرة العجز، وبالتالي استحالة تجاوز الهزيمة بمعناها الشامل. فمثلاً: كل شعارات القومية والاشتراكية لا نجدها اليوم إلا في المتاحف، وفي أحلامنا القديمة.

وأخيراً يا رفاق، لو كان غسان حياً لأعاد الكلام نفسه بمرارة وغصة أكبر، فالحال لم يتغير جوهرياً منذ الهزيمة، وصارت حياتنا العربية عبارة عن هزائم متلاحقة. ولن يتغير إلا إذا تحول هذا المقال– الذي هو جزء من فكر غسان- إلى إيمان عميق نمارسه يومياً.

• ملاحظة: كل ما هو بين قوسين مقتبس من وثيقة غسان كنفاني التي أشرنا إليها.

رابط المجلة:

https://hadfnews.ps/uploads/documents/mo7Un.pdf

زر الذهاب إلى الأعلى