نصوص

إليكِ بعد التأخير.. نص: هاشم شلولة

إليكِ بعد التأخير

بقلم: هاشم شلولة/ شاعر فلسطيني 

قد أبدو متأخرًا، وقد لا يبدو للتأخير من عدمه معنى في سياقٍ كهذا. وقد تبدو اللحظة رهن هجعة صمتٍ جارفة دون منفذيّن أو واحدٍ على الأقل. قادت اللحظةُ رغبتي الميتة سريريًّا من نحرها نحوها. قد وقد.. احتمالاتٌ كثيرة، لا تُحصَر أو تبرى من لعنة ورودها في خَلَدِ جِبِلّة “قرشت ملحة الحياة مبكرًا” فاتَّكأت بزوايةٍ منفية في أقصى أقاصي الحلم أو الكابوس؛ ترقُب مدى توافقها والرواية.. خضعت تلك الجِبِلّة (التي هي أنا) لهذه الآنيّة الصامتة والساكتة، والتي تغوي شابًّا خائفًا مثلي من كل شيء بدءً بنفسه وانتهاءً بها.. تغويه ليحكي احتمالاته لشيء غريب، أنتِ ربما، وربما أنت.. ربما غيركِ أو تشبهكِ، وربما لاشيء.. وقد لا يبدو وجهُ الكون شبيهًا بالاحتمالات أساسًا. أسخرُ برهةً، وأخرى أقلق.. وأكمل هذا الشيء غير المفهوم، بيد عهدٍ قطعته على نفسي منذ عمرٍ بأن أفهم سؤال “لماذا أكتب؟” حين يكون ما أكتبه سهمًا يطلقه ليلى الهادئ من قوس حدسي نحوكِ/ نحوي/ نحو أشياء كثيرة أو قليلة..

رغم أنّي كثيرُ ذكرٍ لاسم أحاول مراسلتَه؛ لإيماني ككاتبٍ _أو يظن نفسَه هكذا_ بحقيقة حجم الأسماء، وهي تصيرُ إكسيرًا لتاريخ الرسول.. لكنّي هذه المرة وبأسفٍ؛ أشعر بهذا الحجاب يغطّي وجه الأسماء في رأسٍ مرتجفة كرأسي، لهذا قد لا أناديكِ هنا. وعلى سيرة الاحتمال، قد يكون ضميرُ المخاطب اليدَ التي تمسحُ العرقَ عن جبهة المحاولة، تأخذُ المنشار، وتكمِل الجزَّ في غابة الكلام الخنيق والمُخبَّأ في ال(هنا) الضالة، وغير العارفة لما تريد أو يريده صانعُ ظرف المكان.. الذي هو الآن يستجملُ العتمةَ، ويصنع منها أبجدًا.. مستصيغًا جهةً يسألُها، وربما يقدّم لها جوابًا، وربما يصنعُ قالبًا للقول.. الجهة أنتِ يا أنتِ؛ بكسرٍ لا تجبره الخشيةُ من الأسماء..

التأخير كان في البحث عن قاعة عَشاء، تتسعُ لحشدٍ من اثنين.. وكان لأجل أن يصدح العابرُ بخبر عبوره بصوتٍ عالٍ، وكان عن نبأٍ مفاده أنَّ المسافةَ والمساحةَ غيرُ كافيتيّن لانتحار روما، أو ندمِ قيصر.. وكان حقيقيًّا بما يكفي ليصير أبجدًا في حقيبة ساعي البريد.. الذي حمل وجهي من قريةٍ حدودية؛ لا تشبه الضوء.. إلى التروكاديرو الغريب وسط عاصمةٍ تضجُّ بعازفي الموسيقى على الطرقات..

لا يبحث العابرون عما استحسنته العيون من لافتات معلّقةٍ على جُدُرٍ يلمحها الراكبُ دابّته مسافرًا إليه/إليها/إليهم، وربما يكون السفر إلى ضميرٍ مخاطبٍ استعذبه الكناية مرّة أو أبدًا.. لكنّهم _العابرون_ مهوسون بالتقاطات محمّلة بسردٍ يفكك الاحتمالات، والمفارقة أنَّ التفكيك لا يزيدها إلّا تركيبًا وتلغيزا.. مهوسون بشرح التأخير وتشريحه لبعيداتٍ يعتقدن أنَّ الإمبريالية هي الحياة، مُقبِلاتٍ غير مدبرات ما عدا قصائد يلمحنها صورًا تدلُّ على الآخرين؛ فينتشين ويهربن نحو سيرتهن الزمكانية؛ التي تخلو من غائبٍ مريد..

كنتُ على مدار أعوام أحاول بشقِّ الأنفُس ملاحقتَكِ، وقد يكون هذا الجهد لمحوكِ من دفتر الوساوس المتسارعة.. كأنَّ صيغةً عكسيةً ترقصُ الآن على أنغام كيّي لنفسي وأنا أنزع الفهم من حشد نقيضِه الذي يحاصر شَبَهي.. منذ البداية حتى البداية، ومنذ النهاية حتى النهاية؛ كنت أحاول التفريق بين هزائم الاعتبار، وانتصارات الاندفاع. كنتُ مهزومًا في مواضعَ كثيرة كخيلٍ أنهكتها الكبرياء، أما عن الظفر بكِ فكان منازلةً تشبه أعماقي مع الزمنية الحادة، والتي أصبحت حادّة؛ لأنَّ التردُّد نجرها مثلما يفعل حطّابٌ غريب في أوقات الفراغ. كنتِ لي حاضرةً فحاوطني سؤالٌ طويلٌ عن الاسترسال الحرِّ في ذاكرتي، ولم تكوني لي فخنقتني أساطيرُ الكشفِ عمّا يعتريكِ، وبعدها.. صرتُ أحبو بين النار والنار، وبين الاحتمال والاحتمال، دون أن تصدُقَ وضوحي رؤية، أو يلامسَ أسراري عراء.

لذا؛ ظلَّ هذا الحب معلّقا من كتفيه على سارية الأبد، فصار الأبد، وصار الأبد..

السلام عليكِ يا أنتِ، وعلى شيء أردتُ ملحمته فأذابته التراكيب في دمها الفائر من عراكِ طويل بين الخابية والبائنة من شهوة الوصول.. السلامُ عليكِ وأنت تعيدين القراءةَ مصابةً بلثغةٍ في التآويل، والتي ستحلّينها بعد وقتٍ من إصابة التآويل بمقتلٍ حلًّا يشبه فهمَ الفكرةِ وتدارُكَ المسموع الصامت بين الأسطُر.. السلامُ عليكِ وأنت في حيرةٍ من أمركِ بين الهزيمة والانتصار لأجل استبدال اسمِك بالضمير.. الضمير الذي يجعل منكِ حقيقيةً وخائفة بما يكفي مثلي وأنا أكتب كل حرفٍ هنا بحرصٍ ودقة شديدين.. السلام علينا ورحمةُ الله وإلهامه لكِ بالتغاضي عن سؤاليّ “لماذا؟” و “ما؟”.

هي بُرهةٌ حاصرت شاعرًا؛ أنتِ بطلتُها وفقط.. فقط.

زر الذهاب إلى الأعلى