ثقافة

ناصر عطا الله يكتب: الحداثة وما بعدها حياة لها مفاهيم مغايرة عن قاعة المحكمة السوداء

الحداثة وما بعدها حياة لها مفاهيم مغايرة عن قاعة المحكمة السوداء

بقلم: ناصر عطا الله/ شاعر من فلسطين 

تلك ثقافة ما كنا نحسب لها حسابًا، وضعتها عقول ماكرة في كهوف معتمة، لتخرجها في أيامنا على ألسنة فقهاء أدب نحترمهم، ونقدر دورهم في تعليم أجيالنا لمورثنا الأدبي العتيق من امروء القيس، إلى الشاعر بائع الخس في سوق مزوي، أقصى المدينة، ينظم فراهيديًا كلماته، ويمضي بها ولا أحدٌ يرصد له جائزة، وكلنا تعلمنا الشعر وهذا ما انبغى لنا من صبابة الصبا إلى شيبةٍ أثلجت المفارق، ولم نجعل منه جبهة معادية، ولم نضع شعراء القافية موضع النقيض، بل جرينا بنهرهم وسفننا على مائهم، ويوم أن ذهبنا إلى اتساع المدى، وبحكم تبدلات وسائل الاتصال، والانفتاح الكوني، واختلاط الناس بكل ثقافاتهم، وتداخلات الجغرافي بالحضاري والثقافي، أصبح الإنسان أكثر انتشارًا، وأوسع خبرًا في الوجود.
والنفس ابنة التجريب، ومنطقه صرف الزمن في التنقيب عن المغاير، وتذوق فاكهة الغير لا يضر بساتين المالك، وهكذا مشينا وعشنا، منذ أن اعتقدنا أن المتنبي والجواهري وبدوي الجبل وبشار بن برد، وبحر الشعراء من أجيالهم، مبتدأ المحاولة، وجاء من بعدهم من فتح على الغرب عينًا أخرى، مثل نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وأدونيس، وآنسي الحاج، ومحمد الماغوط، ومحمود درويش وغيرهم الكثير، فهؤلاء جربوا المغاير، من باب التجديد وللإنسان حق بأن لا يكون تمثالاً، ولا حجرًا في هذه الحياة، ولا أن يكون مجرد وعاء، أو ظهر دابة بخرخ له عينان، عين للزاد، وعين للعقل، لينزل من ينزل إلى ساحة الإتهامات، بأن الفريق الثاني “تخريبي” بل أنه من رعية ” نيتشة” الذي قال بموت الله، والعياذ بالله، لننسب كل أدب خارج التقليدي، إلى أفكارِ وفلسفات غريبة ما كانت بحسبان أحد من أدباء هذه المدرسة على أغلب السعي والتعاطي.
الحداثة وما بعد الحداثة حياة لها مفاهيم مغايرة عن مفاهيم قاعة المحكمة السوداء، وأشمل بالجوهر والمضمون، والعمق، من تسطيح مبتذل، وتقشير ساذج، وأحكام التقليد، والقوالب الجاهزة، من ربابةُ ربة البيت- تصب الخل في الزيت، إلى إعدام الحلاج المتبني شكلاً القالب التقليدي في التعبير عن فكره، وكل من جاء بعده رغم أنه متسلح بالشكل الفراهيدي ومنضبط بأوزانه.
واليوم تضعنا هذه العقول المصبوبة على هيئة ( ملتقى ثقافي) في مواجهة مكرورة عاشها سابقون وتخطاهم الزمن، وتعافت منها مخيالات الأدباء، فلماذا ولصالح من تعود هذه العقول بمعاولها، لتحشر المنتشر على البسيطة في زوايا الوحل، وفق حسابات صنّاع مذبحة عبدالله ابن المقفع؟!.
من يجربون الحداثة وما بعد الحداثة ليسوا كفارًا، ولا هدامين، ولا عدميين، ولا فشلة، فلا تحولوا الأصيل الشعري، المتوافق والمتصالح مع الكل الأدبي، إلى عدو في نفوس من تعلموا منه إيقاع الحياة، ولا تحولوا الثقافة إلى حاوية كبيرة مفسدتها التلوث، وفاسدها كل مغرد خارج العروض، ولا تكونوا كسيدة منزل مهملة أدركها المرض فنسيت خلف باب مطبخها كيس قمامة فتح شهية الكائنات الجائعة، فكان لهم الكيس مائدة فاخرة، لتنبعث منه رائحة مقززة، وتعلموا أكثر من ضوء الدنيا كيف تجعلون من العتيق مزهرية قرب حديقة واسعة، ولا تجعلوه قنبلة قرب نار مشتعلة!.

زر الذهاب إلى الأعلى