ثقافةمقالات

الطنطوريّة لرضوى عاشور: لمى مطر

الطنطوريّة – رضوى عاشور

قراءة: لمى مطر 

تمتلك السيدة رضوى حذاقة في تقمّصِ الشخصية الفلسطينية البحتة، عبقريةُ سردٍ أخّاذة للأحداث، وقدرة على إدغام وجع البلاد في سريرتك وإن لم تعشه كما كلّ التفاصيل الصغيرة الملتصقة بمعطفِ الوطن. تتبعُ بدايةً تقليدية مستهلكة وما تلبثُ أن تباغتك ببراعةِ المسير بين أحداثٍ حقيقية الصورة مدهشةُ التصوير، الزمن عمودُ الرواية، تمضي الوقائع كشريطٍ مسجّل بلا هوادة في سطرٍ أو سطرين، وربما في شَعرَتين على الرأسِ شائبتين، أو جثّتين على الأرضِ قابلتا للدفن.

“رُقيّة الطنطوريّة”، وعلى لسانها تجري الحكاية بينَ قفزٍ وإمعانٍ في تفاصيل حياتها على شاطئ الطنطورة، تصارعُ معها الانتظار طويلاً، وتبكي بينَ زوايا ذاكرة الأجداد، فتصرخ فجأة عاليًا لن ننسى البلاد، تحيا معها الفرحَ المتقطّعَ مرّة وتموتُ بجانبها تحتَ رمادِ الحربِ ألفًا، تصبحُ شاهدًا على مجازر كُثر، تؤكد لكَ أن الحربَ لا تنتظر من يحاول فهمَ أحداثها الملعونة، فتركض، تسقط، تقف، تهرول، تتعثر، تستند على ركبتيك، تركض والسقوط لا يزال ينافسُ ركضك.

استعادةُ رُقيّة لخط سير الحروب والمجازر وما عاصرتهُ ذاكرتها من فقدٍ وألم هو بمثابةِ تجديد الموت بكلماتٍ تؤرّخ، فكان عليها أن تبحث في أعماقها لتخرجَ بما يسمى تاريخ، كما لو كانت حياتها منجم، كلما حفرَت فيه وصولاً للعمقِ كلما ازادت احتمالية سقوطه على رأسها وقد تُطمر بداخله للأبد، “منجم عجيب غريب يتعين عليكَ النزول إليه مفردًا لأنه لا يخص سواك وإن وجدت فيه ما يخصّهم”.

أم الصّادق -وككل نساءِ فلسطين- تنتظر البلاد كي تَتحرر فتُحرر عنقها من المفتاح المعقود حوله، “المقاومة زينة مستمرّة” فزينة المرأة في بلادنا تتخذُ ملامحها من روح الحرب والمقاومة، رصاصةٌ تتوسط سلسلة صدئة تحمل صوت الماضي وروحه تتدلى على رقبة النساء وتدفن بداخلها غبار الحرب ودويّ صفاراته والرحيل الأبدي، يسرّحنَ شعرهنّ بمشط المسدسات ويمسحنّ عليه بأكفهنّ بعد أن تطيبنَ بمسكِ شهيدٍ ودّعنهُ قبلَ أربعين يومًا، وعندما يرجع الفدائي من معركته يركعُ بقدمٍ ونصف أمام زوجته ليقدمَ لها دمَ العدو هدية فتورِّد خديها الصغيرين به.

بينما تتنقلُ بين أحداثِ الرواية تشتمُ روائح ذات طابع فلسطيني، بدءًا من رائحة البرتقال التي عانقت كفيّ حسن يومًا وما تلاشت، وزهر اللوز الذي لم يفارق ذكره الرواية، مرورًا بخبز الطابون وقد ألِفَ تمتمات أم علي الدافئة حتى آخر دقيقةٍ قبل الموت، وصولاً لرائحة البلاد تُعلنُ من ترابهِا الممزوج بدماء الشهداء سيماءًا لها.

رواية “الطنطورية” هي جزءٌ عظيم من السيرة الذاتية للوطن، مرجع ثري لماهيّة البلاد وشكلها، وإشعارُ تذكيرٍ لصوتِ النكبة وصورتها، تقفُ على أعتابها تردد الأغاني خلف مريم، وتبحث مع رُقيّة عن ناجي العلي بعد أن رحل، وتسمع صوت حسن لا زال يقول: مطولة يا أمي مطولة.

زر الذهاب إلى الأعلى