التأرجُح بين الممكن والأمكن شعريًّا، ليس حُبًّا بل دُعابة مثالًا

التأرجُح بين الممكن والأمكن شعريًّا، ليس حُبًّا بل دُعابة مثالًا
بقلم: هاشم شلولة/ شاعر من فلسطين
عند الحديث عن نص محمود وهبة، لا بد لنا من الوقوف عند حالة اشتباك الشاعر مع اللغة، تلك الحالة التي بمثابة انفجار، لكنّه انفجار رفيق، ودود، ويشبه ملامسات العشاق.. هل رأى أحدٌ منكم انفجارًا يماثل يد عاشق؟
“ليس حبا بل دعابة”. آه دعابة، وهل علينا أن نكمل سطرًا حميمًا من أسطر محمود دون دعابة؛ تتجاسر وتصد كونها حبًّا، بل تصل لما هو أبعد من ذلك؟. هكذا ينبِّئنا جماحُ محمود وارتباطاته غيرُ المعلَنة مع الكلمة، اتصالاته الجحيمية والمتخلِّصةُ أيضا من كونها كذلك..
يبدأ الشاعر صوته المكتوب، برسالةٍ إلى الشاعر الفلسطيني المنفيّ، الذي أكمل نقاط منفاه بطريقته الهشة والشُّجاعة في ذات اللحظة.. ويكأنه يخبرنا أنَّ ثمة وجهًا آخر للشاعر، مخفِيّ ومُعلن، وتلك عادة الشاعر المحمودة والسيئة في الازدواجية التأملية الملحوظة، والتي تقدم نفسها كمنقذٍ لطموح الوجود العادي الرتيب والمخيف.. إنَّ الشاعر يبني لنفسه واقعًا واحدًا وحيدًا متحدًا مع ذرات الأمل، التي تنساب من بين يدي الشعر، حين يقدم نفسه كسببٍ للحياة.. تراه في ذات القصيدة يكرر” إليَّ.. إليَّ.. إليَّ.. إليَّ” إلى أن كررها سبعة عشر مرّة، يشبه ذلك حالةَ السكران، الذي يركض لاهثًا وبلا هدفٍ، يوقف المارّة ويصرخ في وجوههم.. يكرر صراخه، الذي يكون عبارة عن حاجة، ما يشبه هستيريا المطلب، هستيريا حزينة، لكنّها تتوشح بكبرياء الشاعر الحميمة، التي تُسكِتُها الشاعرية. ورغم أنَّ حالة التكرار بعمومها؛ بدأت في فقدان بريقها، إذا ما توازى ذلك مع الحاجة لإثبات قوة النص في قصيدة النثر، لدواعي وضرورات تكنيكية تخص النص الحداثي.. إلّا أنَّ الشاعر هنا، كان استخدامه لها بمثابة محاولة لِلَمِّ شمل قصيدته، وترتيلِها الوجدانيّ المستيقظِ في نفس الشاعر..
“السواد الخارج من خوف/ الضباب القابع في رئة مدخن/ أيها التعب المحبب إلى قلبي/ أيها العرق المتصبب في باص/ يا موتا سريعا في غياب…”
كانت تلك؛ كلها نعوت تراكيبيّة، ينعت الشاعرُ بها نفسَه في قصيدة موت سريع، القصيدة الأولى.. وكلها تراكيب لا تخرج من بؤرة التمزق؛ المولود قسرًا من خاصرة عدمٍ أصيل، يراود روح الشاعر، التي أكاد أجزم بموتها لولا بُرهان الشعر الذي يقدم نفسَه للمتأمل في النص.. وأظنّه بدأ بهذا النوع من التراكيب؛ ليُخبِرَنا عن المنطقة التي يقبع فيها من الحياة، الزاوية التي يختبئ فيها ربما، بألوانها وكلماتها وتراكيبها وإيقاعاتها المحدودة… كأنّه يقول هذا أنا، إن شئت فأكمل مشاهدتَك لحفلة الموت التي بين يديك، وإن لم تشأ؛ فعليك الهروب إلى حانة الحياة؛ يا ابنها غير المُحتَمِل كل هذا السواد، والذي أنجبه الوعي بضرورة الموت النظري في القصيدة، وفي تآويلها، وفي لغة ترسم ملامح ذلك… مستعينا في محتويات كل تركيبٍ استعانةً جامعةً جامحة بتفاصيل الحياة المادية التي يعيشها، والروحية التي يعيشها، وهو في جوقة الإنكار لها، هذه الاستعانة المُشكِّلة للجوهر النوعيّ الخالص لطبيعةِ نص محمود في معظمِ ما يكتبه من شِعر.
“أيُّ خبرٍ ستحمل الريحُ إن كنّا عاجزين؟/ أيُّ ملاءة لعراء الصيف؟/ لمن هذه الجثة في الحلق؟”
هذه ثلاثة أسئلة محتقنة، سكنت جوفَ قصيدته المعنونة ب”دزّينة قش” لكنّها أسئلة محمّلة بكل الماورائيات التي تحاضن أيَّ سؤالٍ على حين ملامسته لذهن الشاعر خلال القصيدة. في سؤاله الأول؛ الذي يعبر عن ثيمة السؤال الشاملة في مجموعته، تجده كمن يقف في شارعٍ ممتد وفسيح وخالٍ… يقفُ هازًّا كتفيّه هزّة معناها الخروج من العقدة دون حل، وسؤاله الثاني؛ يعبّر عن حالة التعرّي القصوى، التي أدركت الشاعر دون أن يعرف أو ينتبه.. ولو انتبه، فلن يجدي ذلك نفعًا في ميثاقٍ لاوعٍ يساكنُ خَلَد الشاعر؛ لأنَّ التعرّي هو الانتفاضة، التي تستفز حدسه ليشكّل قصيدتَه، ولغتَها.. أمّا السؤال الثالث؛ فقد كان تجسيدًا خالصًا لشرورية جورج باتاي، وإنَّ شرَّ باتاي هنا هو نعت تجميلي لما هو أبعد من الشر وأكثر شراهة.. ينبئنا ذلك عن أزمةٍ ترفضُ كلَّ متوازياتِها وتقابُلاتِها، وتستبيحُ خيالَ الشاعر بمهارة.. “جثّة في حلق” كل ما بودي أن أفعله في كل مرة ألفظ ذلك التركيب؛ أنّ لا أتوقف عن صناعة علامات التعجب دون علامة استفهام واحدة.. تلك إذن ملامح الصورة الشعرية لديه!
الشاعر محمود وهبة شاعر عادي، وفي خضم عاديته فإنّه يكون استثنائيا تمامًا.. وإنَّ ما يميزه في ذلك؛ محاولاته المستميتة في خلق حالة اللاتشابه القصوى مع كل ما قرأ، وكتبه سابقًا من نصوص.. تريبني أحيانًا تلك المشهدية في نصه، فأنا أشعر برجفةٍ دفينةٍ ما من فكرة الانفصال التام عن حالة المألوف التصاويرية والصورية والتصويرية… التي قد تتجلى واضحة في النص. بما معناه؛ أنّني كقارئٍ أمتلكُ صداقةً عريقة مع كتابات الشاعر، فإنني أستطيع إدراك هذا اللهاث المتسارع والمركَّز في نصوص قصائده.. في كل مرة، يعلو محمود علوًّا مبينًا في سماء الشكل المضموني الخاص به، تتضح خطوط استثنائيته، التي تفلت ببساطةٍ وسهولة من حالة العادي إلى النقيض، وهذا أيضًا؛ يخبرنا بطقس الشاعر النفسي المُبدَّد في القصائد..
تبدو حالة الشاعر الإبداعية بجلاء، من خلال تحويل اللازمات الكلامية شعرًا، كأن يقول في قصيدته “نزهة”: “ما سر بقاءك؟/ لم لا تخرج؟.. لمَ لا تمشي؟/ لمَ لا تأتي؟”
ولا يغفل بعد ذلك عن إتقانه للقصيدة ومحبوكاتها الدرامية التي تؤكد القصيدة، وترسم ملامحَ شاعريتها الحادة، كأنّه رسمها بأظافره على جسد امرأةٍ تعشقُ العقاب، وأرى أنَّ في ذلك التحويل قصديةً خاصة وعالية المستوى.. فهو بمثل ذلك يكون وحيدًا في حلبة الشعر، وبمثل ذلك أيضًا؛ يبني وجهه الشاعري حجرًا حجرًا، وجملةً جملة.. كما أنَّ ذلك يقودني إلى الشكلية النصية الكلية لديه.. التي لا تخطئ فكرة القصديةِ في عالمه بمختلف أشكالِ تواجدها، من منطلق التجليات الكبرى.
يفتتح الشاعر قصيدته “مقاطع مجتزئة لامرأة في الأربعين” ب: “فمكِ الساهر أعرفه/ أرميه نردًا في زاوية/ حجابًا على كتفي/ كيّ أعيش..” ويقول خلال القصيدة التي تتألف من ثمانية مقاطع أيضًا: “قلبكِ ليس هنا/ متروك في قارورةٍ على منضدة/ ينسحب مثل ابتسامةٍ على وجهي/ قلبكِ كلمة..”
كافة أشكال الحضور الأنثوي في الشعر العربي، كانت أشكالًا متحدةً تحت مظلّةٍ واحدة، متشابهة، وتتباين فقط في الصوت الصوري الراسم لملامح الأنثى، لكنَّ الدم الشعري الواصف واحدٌ.. محمود لم يحاول أن يفاجئ قارئه بثورته الجامحة، بل بدا كما هو؛ ثائرًا، دون تلك القصدية المعهودة عليه. ولوجود الأنثى في النص كمقاطع رمزيةٌ مغايرة، تبدو مشبوهةً إلى حدِّ الرضا، وأيّ أنثى!. الأربعينيةُ الناضجة في خضمِّ شاعرٍ، يحاول فتح أبواب العالمِ على نفسه، الأربعينيةُ التي بكامل مشمشها، لكنها، وبحكم الهوّة الزمنية بينها والشاعر.. كانت حاضرةً بكامل ذبولها، وقلبها المتروك في قارورةٍ على منضدة.. لتُعبِّرَ مواقيتُ الشاعرِ عن ذاتها، من خلال طرحه لكيفية القضاء المكاني والزماني مع امرأةٍ بهذه الظرفية والاشتباه، امرأةٌ تعيشُ في عالم الشاعر عيشةَ الظلال العبثيّة، الراسخة في جغرافيته الحالمة كشاعر.. كانت الأنثى في ميثاقه الرصدي تفاحةً موقعةً بشفاهٍ؛ هي حظ الشاعر في المكتبة، المختوم بقُبلةٍ أظنّها هاجسَ الشاعر منذ أول لمسة لامرأةٍ حتى الأخيرة.. وهي مسك الختام؛ على حين تلامُس الشاعرِ واشتباكه مع روح وجسد وأبجدية الأنثى… وهذا ليس بعيدًا على من أحَبَّ في المرأة تنورتَها ذات الشبر الواحد، ودموعَها حين يكون هو السبب.. كأنّه يسخر من خط الشعر الأبديّ المعتاد.
خطفتني أيضًا؛ تلك الجملة الشعرية الكثيفة في السياق الأنثوي الذي صنعه محمود، يقول: “فكّي عزلة الصدر ساعةً/ دعينا نكسِر هذا الأرق..” إنّك أمام تحرر مرتبك، خائف، وجِل وسعيد في آن.. وتلك عادة الشاعر، يقول ما يقول دون قوله، ربما تكون عادة شاعرية جامعة، أو هي حالة الإيحاء القصائدية الكبرى بعمومها.. لكنّ الشاعر هنا، رسم نفسَه وقولَه وطلبَه بطريقته، وهنا تكمن حالة الذهول في الطابع النصي الخاص ب “ليس حبا بل دعابة”.
كانت ظروف تواجد الشاعر في حياته ظروفًا ثمينة جدًّا ضمن سياق التركيب الشعري الأقرب للرائع، وليست أكثر من ضربٍ من جنون؛ ضمن الحياكة الواقعية لمعالم ظرف الشاعر، والتي تبدو مختزَلةً كما رأينا في كثيرٍ من القصائد التي بين يدينا.. في جسد المرأة وتفاصيلها تارة، والبارات والعوالم السفلية تارة أخرى، وتارة في كل منابع وعوالم الضجر… قد يقتل ذلك اتصالَه كإنسان في الواقع، لكنّه يُغذّي هذا الوهج القصائدي، والذي يبدو متجليًا في روح الأبجدية خاصته.. إنَّ ذلك أشهد ما يكون على نحت الكلمة وقوة نصابها.
في قصيدة “بدارو” وبعد أن استفزَّ الشاعر حالةَ الالتزام القصوى؛ التي توجد عند قارئه المُحتمَل، من خلال سؤاله عن شعور الفتاة بعد أن تنبت لها الأثداء، تراه يقول: “كثيرًا ما أندم على رجولتي/ على الدم الذي لم ينزل مني/ ولو لمرةٍ واحدة/ في دورة شهرية..”
أعتقد بأنَّ هذه المشهدية الصريحة إلى حدِّ الوقاحة ضمن ميثاقٍ بيئيٍّ التزاميّ؛ لم تكن إلّا تعبيرًا هائجًا عن انتماء الشاعر إلى قضية المرأة، ذلك الانتماء الغاضب، وغير المريح إذا ما اقترن الأمر بالكيفية الكلية، التي يرى الشاعرُ فيها الأشياء والأفكار والصيحات.. لم يرِد في اختراقات الأُلفة حسابات كالتي حاكها الشاعرُ بطريقته. إنَّ تفصيلًا خلقيا كهذا يُعتبَر بمثابة رفضٍ صارخ، يصل إلى التحدي للكيفية المُشكِّلة لظرف المرأة. الشاعر لا يعترض، بل يتمنى أقصى ما قد يتمناه المرء لأيِّ قضيةٍ يعتنقها. يصل إلى حدِّ الاستنفاذ، سمّه الخلاص من بواقِ ومُلهيات الفرد عن الإيمان بأي قضية.. يقود ذلك إلى استنتاج حالة التناقض الكبرى، التي تعيش في بواكير شخصيته وحواكيرها.. لأنَّ الانتماء والإيمان في مواضع عديدة من المجموعة الشعرية يبدوان كماءٍ فوق رمل صحراء وسط ظهيرةٍ حمئة.. يقدم ذاته كلامنتمٍ في مسلكيات مختلفة، وهي أكثرية.. لكنّه في قضية المرأة يرجع إلى قولبة الانتماء والإيمان باستقتالٍ يصل إلى حدِّ الندمِ على الرجولة.
“سأضاجع ما تيسّر/ سأشرب ما توفّر/ في سبيل الله..”
يخبرنا شكل السخرية، الحاضر بعذوبةٍ وانتشار في السردية الشعرية؛ أنَّ الشاعر يمتهن السخرية امتهانًا عفويا، بمعنى أنّه لو لم يكن شاعرًا، فإنه قد يسطع نجمه في التهريج أو التمثيل الكوميدي، أو في تقديم العروض الساخرة… وذلك ليس إلّا تجسيدًا لسخريته الشاهدةِ عليه وطبعه اللغوي.
إنَّ الشاعر يطرب لنواقص؛ تقوده للسخرية، ويحزن من كل ما لا يقوده إليها؛ كما تخبرنا عروضُه واستعاراته.. إنه يسخر بطريقة التصريح المشبوه من الأشياء والعوالم، من نفسه، أحزانه، أصدقائه، أماكنه وأزمانه… وهذا يوصِلُ للمتتبع لماوراء القصد حجمَ المعاناة وأصوليتَها وتجذُّرَها في نفس الشاعر وأعماقه… المعاناة التي تشكّل من سلوكياتِ الشاعر المتصعلكةِ حجابًا لها، تنأى بها عن الوضوح، وعن الدراية بها ربما.. ربما.
“هل من عمرٍ لهذا الموت المستلقي على الجدران؟/ هل من نزيف لكلِّ شاردةٍ وواردة؟/ هل من ضجيج يخلّص الزبد من الموج؟/ هل من قلبٍ لأسفل الحرائق؟”
هذه التساؤلات من قصيدة “ضجيج يخلّص الزبدَ من الموج” تساؤلاتٌ غير مسؤولةٍ وغير مشروعةٍ ومَرَضِيّةٌ… تلك إذن؛ حالة الجدّية، وربما سقفها عند الشاعر، الذي أسلفنا بهروبه منها بسخريته المعهودة، ولامبالاته الواضحة بغِلٍّ يسكن صدرَ الشاعر على الواقع وعلى إنسانيةٍ؛ فُقِدَت بفعل التعرية الحياتية، من خلال هذا اللون التساؤلي الجلّاد، الذي لا يترأف بنَفْسِ السائل، ومدى حاجته للرحمة من نفسه والحياة.. إنَّ هذه التساؤلات كانت فلتة من ضمن الفلتات الجدية، التي تنساب بين يدي الشاعر، المُقدِّمِ نفسه كغير مسؤولٍ أو جدّي.. كإيقاعات الحنين للأصدقاء، والضياع والتيه، التي تفلت عن غير قصدٍ في مواضع متباينة من مواضع مجموعته الشعرية.
هذه الوعورة البسيطة، التي تجامع مألوف الشاعر، لم تعُد بِكرًا بما يكفي، حين ترتد عليه حاجته للمعنى ارتدادًا يشبه النيران الصديقة على مدار المجموعة كاملةً، تلك الحاجة التي يخفيها عن عين مجازه، وهو يركض دون عكازٍ؛ يحميه من عثرات الطريق الطويل، الذي يُهيَّأ للقارئ، وهو يحاول التذاكي أمام اشتباهات الوصول لمبتغى الشاعر مما يقدّمه.. وهنا يبدو سؤال “ماذا يريد الشاعر؟” سؤالًا مشروعًا في خضمِّ تلك التشابُكات الصامتة، التي تأخذ المنتبِه بعيدًا؛ وراء استفهامات القصد، وقصد الاستفهام.. عمّا بات ويبيت وسيبيت في الصيغة المجازية، والتي تبدو غير مُحكَمة، وهي في الأصل ليست كذلك. الشاعر يرفض نفسه، يعاقبها، يجلدها، يخجل منها، وتساكنه الألفاظُ، كما يفعل هو معها… يحدثُ هذا كلّه في عبارةٍ واحدة فقط، طائشة، وليست حالمة.. بعد مجموعة من العبارات سبقتها، وتكون هذه العبارات في حالةٍ من التوصيف، الرصد أحيانًا، ثم يعقُب ذلك؛ تلك العبارة الطائشة المقصودة آنفًا. يشير هذا إلى حالة الإحكام الانتباهية بعفويتها من قِبَل الشاعر، والذي يبدو ببطءِ صانع الفخار، ودقة يده أثناء تشكيل القالب؛ لكنّ صوتَ تزمير سيارةٍ خارج مصنعه، تصاعد قليلًا؛ فنهب انتباهه، ولم يفسَد شكل القالب.. بل رأى الصانع أن لحظةَ تشتُّتِ الانتباه الدقيقة، التي جاءت حرجةً، وخلال الانهمكاك في التشكيل.. صنعت جمالًا تفاصيليًّا غير مقصود. بهذا يُنبِئنا الشاعر بقدرته على استثمار الشائهِ من تفاصيل الحياة؛ عبر حِسّه الشعري القهري، المُتعَب والساخر… يستثمر ما يبدو شاذًّا ضمن لغة صُنّاع الصوت، وذلك ما يجعل من انصهاراته استثناء.
“نصادقُ الأسئلةَ رغم أنها موجِعة/ نصادقُ الكذبَ رغم معرفتِنا بحبلِه القصير/ نصادقُ قارئًا حصيفًا رغم بلاهتِه/ نصادقُ أنفسَنا رغم زلّاتها مُرغمين.”
تلك الجُمَل الكثيفة في قصيدة “ضجيج يخلّص الزبدَ من الموج” الأخيرة وطويلة الأنفاس.. تجعل هذه الشفافية القاتمة؛ تقتل حيويةَ طموحِك بالوصول إلى قيمةٍ جماليةٍ صافيةٍ من العبث.. كمتأمِّلٍ صِرْفٍ؛ أراد الافتهام، بل تُبرمِج كينونةَ ذهولك على استحالة قيامِها دون أعمدةٍ من عبث ولاجدوى.. رغم المقت الثابت والطويل، والساكن صدر المُفتعَل من جنونِ الرفض، ورفض الجنون.. ربما حالة التأرجح القصوى بين المنطق وعدمه، والشرعية وعدمها كذلك.. كأنَّ الشاعر يُخبِر أنَّ الطين بلا ماءٍ ليس بطين، والماء بلا طين ليست ماء.. رغم أننا كمسكونين بحالة الفرق، نستطيع ملامسةَ الممكنِ من ذلك، ولو اجتهادًا منظورًا فيه.. أو قُل ارتكازًا على حدود العقل كأداةٍ فاهمةٍ لسقفها. يمكننا الفِكاك من قسوة المعقولِ هنا، لكنّ الاستحالة تُحاضنُنا على حين هذه البساطةِ المنشودةِ من ميثاق الحداثةِ الشعرية، الواضحِ كالليل في شطحاتِ الشاعر غيرِ المعقولة.
“ليس حبا بل دعابة” مجموعةٌ شعريةٌ، لا محل فيها لبداهة الالتقاط بالمرّة.. إلّا من مَشاهِد لمحها الشاعرُ من نافذة قطارٍ أو سيارة أجرة؛ تنقله من وإلى بارات وكافيهات بيروت الكثيرة.. كفعلٍ قهريٍّ محض، دون توابل لغوية حارّة، لكن ملحَها مرتفع. ويبدو وضوح ذلك في مجمل تجسيدات الإنساني الجزئي أو الكلّي في ظلال الشاعر الغامضة مرّةً والواضحة مرارًا.. إنّه أي محمود وهبة كان طيِّعًا لمونودراما الصورة الشفهية، وعكس ذلك حين تكون الصورة بصيغتها النهائية المكتوبة.. إنَّ هذه المجموعة تترك القارئ يعيش تجسيدات خياله بشكلٍ كليٍّ ماكرٍ وماكن.. وبذات الشكل الكلّي؛ تجعل هذه التجسيدات خاضعةً لشروط الشاعر. إنها مجموعةٌ ترفعُ منسوب الجواذب الفنية في الأفق، وتشد نواهيك الاستبصارية نحوها بوديّةٍ ورفق. بهذا، بل بكل هذا، وما هو أكثر.. قدَّم لنا الشاعر محمود وهبة منتجَه الإبداعيّ، وفعل بنا ما فعل من متعةٍ وذهول.