ملفات اليمامة

المدرسة الكلاسيكية الجديدة في المسرح

المدرسة الكلاسيكية الجديدة في المسرح

خضر جندية – اليمامة الجديدة

يُعد المسرح عنوان لثقافة الشعوب ورقيها فهو أب الفنون وأولها منذ أيام الإغريق والرومان وقدرته على الموالفة بين عناصر فنية متعددة حيث كانت المسارح هي الوسيلة الوحيدة للتعبير الفني؛ فالمسرح يعكس أفكار المجتمع ويعبر عن مشاكله وهمومه، فقد مر خلال تاريخه الطويل بالعديد من التغيرات التي تتوافق مع طبيعة العصر، ولرؤى الكتاب والفلاسفة الذين يؤمنون بالرسالة الخطيرة التي يحملها هذا الفن ويعود تاريخه إلى اليونانيين الذين كانوا ينسجون فيه حكايات الملوك والنخبة من المجتمع وكان لا يكتب إلا شعراً. ثم الرومانيون الذين أخذوا ينسجون على مثل ما كتبه اليونانيون، ثم أخذ المسرح بالتطور، وعرف اتجاهات وأدوات جديدة لم تكن من قبل، وذلك بعد عصر النهضة وما لحقه من تطور وتغير واختراعات ويضاف إلى ذلك التحرر من سلطة الكنيسة.


وبعدها ظهر فيما يعرف بالكلاسيكية الحديثة التي تقوم بمحاكاة الأعمال الإغريقية والرومانية القديمة، وسنتناول في هذا الملف المدرسة من حيث تاريخها وأعلامها وسماتها.

النشأة والتأريخ


انتشر هذا المذهب في فرنسا منذ بدايات القرن السابع عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر، قبل قيام الثورة الفرنسية، وتعتبر هذه النزعة الكلاسيكية امتدادًا لما أحدثه عصر النهضة من تغيير في الاعتقاد بتقديس لما هو قديم والدعوة إلى محاكاة الأعمال الإغريقية والرومانية القديمة التي تعتبر مثالية يجب تقليدها.

ولما كانت اللغة اللاتينية بعد عصر النهضة هي “لغة العلم والأدب والكنيسة، وبذلك كانت أكثر شيوعًا من اللغة الإغريقية فعرف الأوربيون الإغريق أول الأمر عن طريق اللغة اللاتينية ثم استطاعوا بعد ذلك أن يتعرفوا عليهم مباشرة” ، “فإيطاليا كانت محط علماء بيزنطة الذين فروا إليها بعد الغزو التركي وهم يحملون معهم المخطوطات الإغريقية اللاتينية، ومع أن الشراح الإيطاليين قد انهمكوا في دراسة هذا التراث القديم وعلى رأسه كتاب “الشعر” لأرسطو الذي استنبطوا منه قوانين وقواعد اعتقدوا أنها تمكنهم من كتابة نماذج أدبية عالمية كالأقدمين” .

وتعد فرنسا الحاضنة الأولى التي ساهمت في نمو وانتشار الكلاسيكية الجديدة وانتقالها إلى أقطار أوروبية متعددة، فحرص الفرنسيون على إحياء المذهب الكلاسيكي اليوناني القديم وتشجيع الأدباء والشعراء على احتذاء الشعراء اليونانيين والرومانيين مع التعديل في المذهب بما يوائم مقتضيات العصر، وما ينسجم والروح والتعاليم المسيحية .

والذي ساعد على هذه النهضة توحد فرنسا تحت سيطرة ملك قوي وهو لويس الرابع عشر الذي أحكم قبضته وسيطر على الأمور؛ مما دفع البلاد نحو التقدم والمجد، وقد رعى الملك الآداب والفنون، وأسس الأكاديمية العلمية الفرنسية للنهضة في هذه المجالات.

وبذلك كان القرن السابع عشر قرن ازدهار الكلاسيكية الجديدة ووصولها للقمة بعدما وصلت لها في عهد الإغريقيين، ونتيجة لما سبق كان القرن السابع عشر أيضا العصر الذهبي للأدب الفرنسي الذي تفوق على الآداب في جميع الدول الأوروبية في ما أفرزته عقول عباقرتها من عظمة في العطاء الأدبي.

فاستطاع الفرنسيون أن ينشئوا على مدى ثلاثين عاما 1630-1660 مذهبا أوروبيا مفصلا، هو الذي عُرف فيما بعد بالمذهب الاتباعي الكلاسيكي .
ويعد الفرنسي بوالو الناقد الأول لهذا المذهب، وجامع دستوره في كتابه (فن الشعر)، كما ويعد كورني، وما ليرب، وديكارت وباسكال الفيلسوفان، ممثلي تلك الحقبة، أما في عهد لويس الرابع عشر فيمثله راسين وموليير، وقد جسدوا هذه المدرسة خير تجسيد ونشروها خارج فرنسا.

وكما أسلفنا بأن هذ المذهب تعدى تأثيره حدود فرنسا وصولا إلى انجلترا، حيث لفت أنظار أدباء انجلترا في فترة النفي التي قضاها ملك بريطانيا وحاشيته والأدباء والمزيدين للملكية الذي نفاهم كرومويل إلى فرنسا وظلوا هنالك حتى نجحت الملكية ثانية في بريطانيا، ويعرف هذا العصر باسم عصر الإحياء؛ حيث تولى تشارلز الثاني عشر بريطانيا سنة 1660 وكان هذا الملك قد أعجب بالكلاسيكية الفرنسية وطلب من أدباء بريطانيا السير على منوالها فظهر بعض الكتاب الكبار الذين نشروا أمجاد الكلاسيكية الجديدة في بريطانيا .
ويعد الراهب رايمر ممن قام على يديه انتشار المذهب الكلاسيكي الجديد في بريطانيا(1641-1713) ثم ما أداه للمذهب فيما بعد الشاعر جون دريدن، وبوب وبعض الذين كانوا يضيقون ذرعا برومنسية شكسبير فيما بعد.

وسنعرض لأهم الكتاب الذين جسدوا هذه المدرسة وساعدوا في انتشارها:

• بييركورني:
وُلد في مدينة روان وتوفي في باريس، وكان ينتمي لأسرة عريقة، ودرس الحقوق ليعمل في برلمان المدينة عام 1642 لفترة قصيرة، ثم شده الأدب فبدأ محاولاته الشعرية الأولى في عام 1625، ثم انصرف بعدها لكتابة المسرح، وكانت “ميليت” أول ملهاة (كوميديا) كتبها، وتلتها مأساة (تراجيديا) “كليتاندر”، ثم توالت أعماله، فكتب تسع عشرة مأساة خالصة، وست ملاه،ِ وأربع مسرحيات مزج فيها بين المأساة والملهاة، حتى أصبح أبا للأدب المأسوي، وانتخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية الذي يعتبر آنذاك أكبر تكريم يمكن أن يحصل عليه أديب فرنسي.
فيما حققت مسرحيته (السيد) نجاحا كبيرا، وهي ملهاة مفجعة بناها على أساس بطل أسبانيا الوطني، وأثارت عاصفة أدبية في باريس، فكانت أول رائعة

من روائع المسرح الفرنسي والتي فتحت للمسرح الفرنسي أبواب الخلود.
فقد “تميزت أعماله بالتأثر الواضح بالأعمال الكلاسيكية القديمة وخاصة الرومانية منها، كما تميزت بتقديم الواجب على كل شيء وخاصة العاطفة، وعرف كورني بأنه يقدم الإنسان كما يجب أن يكون لا كما هو كائن” كما عند إسخيلوس الذي كان يصف الناس كما يجب أن يكونوا في نظره.
ومن أشهر أعماله المسرحية: السيد، هوراس ، سينا ، بوليك ، رودوجون.

• راسين:
ولد راسين في لا فيرتي ميلون، وهي مدينة صغيرة من مدن فرنسا، ونشأ في دير بور رويّال، وفي العشرين من عمره انتقل إلى باريس واستقر فيها حتى وفاته. درس راسين اللغات اليونانية واللاتينية والآداب، وبدأ كتابة الأدب والشعر، ثم بدأ كتابة المسرح ، “وقد أغرم غراما خاصا من مبدأ شبابه بمؤلفات سوفوكليس ويوربيدس وتأثر بها في حياته الأدبية تأثرا بارزا” ، فوجدنا في مآسيه تحليل العنف والهواجس التي تعصف بالروح البشرية، ليس كما عند كورني الذي كان يأتي بالمشاعر الرقيقة والمثل البطولية، فكتب مسرحيته “الطيبية” التي قدمتها فرقة موليير ثم مسرحية “الاسكندر الكبير”، التي قدمها إلى الفرقة المنافسة مما أدى إلى قطع علاقته نهائياً مع موليير. وبدأ نجاحه في المجال المسرحي منذ ذلك التاريخ، فقد كتب في عشرة أعوام إحدى عشرة مسرحية وملهاة واحدة هي “المتقاضون”، ثم توقف عن كتابة المسرح نهائياً بعد مسرحية “فيدرا” عام (1677)، ولكن نزولاً عند رغبة مدام دي مانتونان ، المقربة من البلاط والكنيسة ومديرة مدرسة البنات الأرستقراطيات، كتب راسين مسرحيتين لهما طابع ديني تربوي هما “إستر” و”أتالي”. فيعد راسين من أهم كتّاب المسرح الفرنسي، كتب المأساة مقلداً القدماء، وتعتبر مسرحياته محطة هامة في تاريخ المأساة الاتباعية.

• موليير:
كاتب كوميدي مسرحي وشاعر فرنسي، يطلق عليه مؤسس “الكوميديا الراقية”، وساهم بقدر كبير في غرس أصول الإخراج المسرحي.
كان أبوه يعمل مُنَجِدا للملك لويس الثالث عشر، امتهن “موليير” حرفة أبيه في بداية أمره، ثم أدخله أبوه ليتعلم ويتتلمذ على يد رهبان الطائفة اليسوعية في كلية كليرمون (Clermont)، وكانت هذه مرحلة مهمة في تكوين شخصيته، فقد تلقى فيها مبادئ العلوم الأساسية والفلسفة، كما تعلم اللغة اللاتينية فقرأ عن طريقها الأعمال المسرحية التي تم نشرها في وقته، وتابع بعدها دراساته في الحقوق قبل أن يقرر التفرغ للمسرح.
وكون فرقة مسرحية من الممثلين المتجولين عام 1643 وأدت هذه الفرقة أولى أعماله الكوميدية والتي لاقت عروضها نجاحا كبيرا، فقدم المسرحيات في الأقاليم الفرنسية لمدة اثني عشر عاما، احتك خلالها بأناس من مختلف الطبقات فساعده ذلك عندما عبر عن خلاصة استقراءه لشخصيات البشر من خلال مسرحياته الساخرة، فصعد نجم موليير

وقام لأجل خدمة أعماله الكوميدية وتوصيل أفكاره إلى جمهور المشاهدين، بتوظيف كل أنواع ودرجات الفكاهة، من المقالب السخيفة وحتى المعالجة النفسية الأكثر تعقيداً، هاجم في أعماله المشهورة الرذيلة المتفشية في أوساط المجتمع، وكان يقوم بخلق شخصية محورِية تتوفر فيها هذه الصِفات، وتدور حولها أحداث القصة.

وقدم آخر أعماله “المريض الوهمي” عام 1673م، ليفارق الحياة بعد ساعات فقط من تقديم العرض الرابع لهذه المسرحية.
ومن أهم أعماله الكوميدية: المتأنقات السخيفات، مدرسة الأزواج، مدرسة النساء، دوم خوان، المريض رغما عنه، البخيل، تارتوف، البورجوازي النبيل، كونتيسة، إيسكاربانياس، النسوة الحاذقات، المريض الوهمي.

• درايدن:
جون درايدن كاتب إنجليزي لامع من كتاب عصر عودة الملكية البريطانية، برع بوصفه شاعراً مسرحيًا وناقدًا أدبيًا. وكان يعتقد أن الإنسان جزءٌ من المجتمع الذي يمتد بجذوره إلى العهد الإغريقي والروماني القديم، ورسخ في اعتقاده أيضًا أن الآداب والفنون لها قيمتها كمؤثرات حضارية. وتأسيسًا على هذه المعتقدات، تناول درايدن في كتاباته القضايا الكبيرة ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسية والإنسانية، ومن أشهر أعماله “كل شيء في سبيل الحب”.
توفي درايدن سنة 1700م، عن عمر يناهز 69 سنة، بعد أن قدم العديد من الأعمال الأدبية (الشعر، المسرح، الترجمة، النثر) أسهمت بكثير في إغناء الفكر الإنجليزي خلال القرن السابع عشر للميلاد.

• أهم سمات هذه المدرسة:

  • كانت هذه المدرسة تحاكي القديم، لاسيما الإغريق في أدبهم مع تيسيرات أهمها:
    1- السماح بوجود عقدة ثانوية أو أكثر بشرط ألا يضعف ذلك من العقدة الأساسية وألا تشوه وحدة الفعل أو الموضوع.
    2- لا بأس من اتساع وحدة الزمان، فلا تقف عند دورة شمسية كما قال أرسطو بل قد تمتد إلى ثلاث دورات أي ثلاثة أيام.
    3- القبول بأن يمتد نطاق وحدة المكان بحيث يشمل مدينة بأسرها أو قصرا بأكمله، بحيث إذا تغير المكان أي المنظر لم يخرج عن حدود المدينة أو حدود القصر الذي تقع فيه الأحداث.
    4- الإبقاء على عظمة الشخصيات ولكن لا مانع من اتخاذ الوصيفات والأصدقاء في أدوار لا تعد تافهة.
    5- الإبقاء على الأسلوب الأرستقراطي على أن يكون أسلوبا واضحا سليما وشاعرا مع ذلك.
    6- الكلاسيكية الحديثة لا تعرف المجموعات ولا الأناشيد.
    7- إحلال الحب وأهواء النفس محل القضاء والقدر عند اليونانيين لتكون محورا تدور حوله أحداث الرواية ، ومن هنا أصبحت الكلاسيكية الحديثة ذات نزعة عالمية وهي بذلك تقترب من يوربيدس الى حد ما.
  • ويضاف إلى ذلك بعض السمات التي نستنتجها من القواعد التي ساروا عليها في أدبهم:
  • دراسة النفس الإنسانية والتعمق في معرفة طبيعتها وميولها.
  • تجريد الأدب: أي أنه أدب موضوعي لا ذاتي، وهذا يتطلب أمرين: أولهما العكوف على النفوس البشرية ودراستها دراسة عميقة، وتفهمها تمام الفهم على الرغم من اختلاف أنواعها ونزعتها ورغباتها، وثانيهما: الفناء المطلق في الشخصيات التي يراد إبرازها.
  • ومن مميزات هذه المدرسة عمومية الأدب فهم يعمدون إلى تصوير نماذج بشرية لا شخصيات معينة، فأبطال كورني مثل عليا في البطولة، وعشاق راسين مثل عليا في الحب، والبخيل لدى موليير ليس شخصا بعينه ولكنه مثل مبالغ فيه لأي بخيل في العالم.
  • إقصاء الحوادث العنيفة، والأعمال الرهيبة، فلا تمثل أمام الجمهور، كما فعل كورني في وصف المعركة في هوراس، وكان يكتفي بالإخبار عنها في وصف طويل أحيانا وقصير أحيانا أخرى.
  • عدم الالتجاء في المأساة إلى العجائب والغرائب وخوارق العادات في تطور العمل المسرحي، والوصول إلى الحل، فيجب أن يكون العمل محتمل الوقوع، وليس ضروريا أن يكون واقعي، وبهذا يتوقف على ذوق الجمهور واعتقاده.
  • أن يكون لكل مأساة مغزى خلقي ترمي إليه، وهذا لتأثرهم بالمسيحية التي لم تقبل تأويل الإغريق لنهاية المأساة، وأنها من صنع القضاء والقدر، بل كانت ترى أن هناك شيء في أخلاق البطل وأعماله وفيما جنته يداه هو الذي أدى إلى تلك النهاية.
  • أيضا نصرة الواجب على العاطفة كما عند كورني في مسرحية السيد.
  • الحرص انتهاء المأساة نهاية مفجعة والملهاة نهاية سعيدة مع عدم المزج بينهما إلا نادرا.
  • عدم الخروج عن الأسلوب الشعري.

المصادر والمراجع:

عمر الدسوقي، المسرحية (القاهرة، دار الفكر العربي،) ص81.
د. فوزي الحاج ، المسرحية والرواية والقصة القصيرة،الطبعة الثانية(غزة، جامعة الأزهر-غزة،2013م) ص25.
دريني خشبة، أشهر المذاهب المسرحية (الجماميز، مكتبة الأداب) ص70.
عمر الدسوقي، المسرحية ، مرجع سابق – ص81.
د. فوزي الحاج، المسرحية والرواية والقصة القصيرة- مرجع سابق- ص29.
دريني خشبة، أشهر المذاهب المسرحية- مرجع سابق- ص83.
د. فوزي الحاج، المسرحية والرواية والقصة القصيرة- مرجع سابق- ص26.
المرجع السابق نفسه- ص27.
حكمت أحمد سمير، المسرح العربي المعاصر(بتصرف) ص36.
عمر الدسوقي، المسرحية ،(بتصرف) مرجع سابق – ص84.
المرجع السابق نفسه (بتصرف)–ص87.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى