ثقافة

التلُّ والبحرُ… شاهدًا.. قصة قصيرة لعلاء جحجوح من مجموعته الجديدة

التلُّ والبحرُ… شاهدًا

بقلم: علاء جحجوح/ كاتب فلسطيني

– التل والبحر هي مجموعة قصصية للكاتب الفلسطيني علاء جحجوح، أصدرتها دار سمير منصور للنشر بالتعاون مع الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين.

تجسد هذه المجموعة من القصص الواقع اليومي للفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال، فضلاً عن أحلامهم وتطلعاتهم. من خلال الصور الحية، يرسم جحجوح صورة للحياة في فلسطين مفجعة وملهمة.

القصة:

رغم كل خبرتي ومعرفتي لا أستطيع تحديد مكانهم ، لليوم الثالث على التوالي ، قد يستغرق الأمر وقتا أكثر مما نتوقع ، يقولها ورأسه بين كتفيه ، وعيناه لا تتجاوزان الرؤية لأبعد من متر واحد ، حرجًا مما هو فيه ، كان وما زال يثق فيه أهل العزبة المطلة على شاطئ البحر ، في قص الأثر ، وبإحساسه الأقرب إلى اليقين ، بل اليقين ذاته ، كاد يفقد الأمل في العثور عليهم ، كلما ظن أن أجسادهم بين يديه ، يبرر لنفسه ولأهل عزبة الصيادين ، المنتظرين خبر اليقين ، بالعثور عليهم بعد مرور أسبوع واحد ، لم تكن حالتهم النفسية طبيعية ، هؤلاء ثلاثة من خيرة شبابها ، كل واحد منهم ذو صفات خاصة به ، تجمعهم مهنة الصيد ، الشهامة ، الكرم ، لا يعرفون الفرار من لصوص الأرض ، ثابتون كشباك الصيد بين الأمواج العاتية ، ويطعمون الآخرين من أهل عزبتهم مما أطعمهم البحر ، يصنعون فلك العودة ، رغم الساخرين من سفينة نوح ، يوجهون أشرعتها كل فجر نحو البلاد شمالاً ، يجمعون أعواد الأحراش ، وأوراقه الخشنة الساقطة من رياح الخريف ، يلقمونها لفرن الطين ؛ كي ينام أطفالهم وبطونهم ملأى . هذا اليوم العاشر ، يخرج رجال العزبة ونساؤها بحثًا عنهم، في تلالها المترامية الأطراف ، كشاطئها المزخرف بالزلف ، أخصاصها فارغة من آثار المارة ، الرياح ساكنة ، لا صوت نباح يعلو، طائر الغراب ثابتٌ على الأغصان الشاهقة، رائحة الأزهار فواحة في غير ميعادها، العصافير توشح الفضاء بزقزقتها ، ديدان الأرض الدالة على مصدر طعامها فقدت ، والقمر غادر بدره ، هذا اليوم العشرون ، على فقدانهم ، أُعلن فشلي ككهنة المعبد، في قصة يوسف .

تتلاقى العيون الشاردة ، المستترة برؤوس الحاضرين ، تجيبه عن أسئلة ، لم يسألها، هل أستمر باللعب يا أمي ، أم أرمي الشباك في البحر، أم أُعد أعواد الأحراش لفرن الطين ؟

غادرت رحمي في أعوام سوداء ، في مكان التصق بالبحر، يقال له عزبة الصيادين ، أقامه الأهل بعد الرحيل، حيث الصيد حرفتهم وحيث المكان يشبه في موقع بلدتنا (عسقلان ) قرية ( الجورة ) التي كان موج البحر يتكحل بطين سقائفها ، ويتزين بالمراكب السابحة في عرض البحر ، بعدك صغير، على شباك الصيد ، يجيب عن تساؤلات أمه من خلال قراءة وجهها ، المليء بالظنون ، من بين أكتاف المواسين لهم ، الذين ينتظرون الخبر الأول ، لم تذكري أن البحر هو الموطن الأصلي لي ، فعرفت بِكر موجاته ، وعنفوان أنوائه ، هدوء رياحه ، فلكه الجارية ، أنواع شباكه ، صنوف أسماكه ، عرفت غيومه ، أمطاره ، نوارسه ، سماءه ، أوزه ، وبطه (ابو سعد) ، عرفت رحلة الملح والتمليح ، ألم يُكبرَّني البحر بعد يا أمي ؟! تفر من نظراته كلما التقت بها ، التي ازدادت خوفًا ، بل رعبًا ، على مصير أبيه ، تناقصت الأعداد ، وتباعدت الأكتاف ، والصمت هو السائل والمجيب بينهما ، يضع رأسه على كتفيها يبتل وجهه من غزارة دمعها ، وبنظرة حائرة نحو ملابسه المعلقة في زاوية السقيفة ، يتساءل لماذا يفعلون بأبي هكذا ؟! ألم يطعمهم سمكًا ؟! لم يسرق الفلك التي صنعها بيديه من أحد ، وأوراق الأشجار تأتي بها الرياح إلينا ، فإذا كان البحر ابتلعه كما يروي الصغار ، لماذا لم يقذفه ، كما قذف يونس من بطن الحوت ، كما كنت تحكي لي قبل النوم ؟ تلامس شعره ، تجيبه ، لن يطول غياب أبيك ، سيصبح الشك يقينًا ، قالوا لي إنها ساعة واحدة ، ثم نعيده إليك، كما قالوا لغيري ، فكان أمرهم بائنًا ، ولكن أمر أبيك مجهول حتى الآن ، يصرون أنهم أطلقوا سراحه كما وعدوني ، وهم مدججون بالسلاح ، حين التقطتهُ من رجليه ، رافضةٌ أخذه مني ، وهم يقتادونه بعنف ، لم أتمكن من الزحف خلفه أكثر من أمتار، فُكَ قيد رجليه من يدي ، فطالت المسافة بيننا ، مثل أذان المغرب وانتظار الفجر، الثلاثة قد يكون مصيرهم واحد ، عد إلى اللعب مع أولاد عزبتك ، تجنب ملوحة البحر وخشونته، إبرة الغزل ، (شنادير) الزلف ، ولا تجعل الفلك القافزة من الموج تغريك ، وضع عينيك على ما يمتلكه أبوك من شباك الصيد ، هذه طاقية الصيد المعفرة بالرمل ضعها على رأسك ؛ لتقيك حرارة الشمس ، فهي كانت لجدك، ثم لأبيك ، ثم ها هي اليوم لك . كلها يوم وسيكون بيننا نحتضنه ، لقد فشل العم جابر في الوصول إليه يا أمي ، كيف سيأتي ونحن على أبواب الليل ، الشمس التي تقول ذلك ، يغفو (عثمان) والطاقية على رأسه ، وأخوه (عمر) الأصغر منه سنًا ، وأخته (آمنة) الصغرى ، بجانب أمهم (عائشة ) المنتظرة زوجها ( خالد ) وصديقيه ، على أحر من الجمر ، وأعينهم نحو سقيفة جريد النخل ، كاشفين نجوم السماء ، من بين الجريدة والأخرى ، حتى غلبهم النوم .

عاد العم جابر في صباح اليوم الثلاثين على فقدانهم ، مشعلًا سيجارته الملفوفة بعناية ، يسحب أنفاسها ، من دون يديه كعادته ، اللتين يضعهما خلف ظهره ؛ ليريح كتفيه ، غير قابلٍ على نفسه ، أن يرميه أهل العزبة بالفشل في العثور عليهم ، وهو يعرف العزبة وما حولها من أراضٍ  شبرًا شبرًا ، و يدرك إلهاماته الربانية ،  وبديهيته ، ومكر عدوه ، ولديه من الحكايات والأساطير ما يستدل عليه ويساعده في البحث ، عن أبناء قريته  المهجرة قسرًا ( خالد  واسماعيل  ونظمي ) , مُتسائلًا عن رائحة الزهور الفواحة ، في نهاية فصل الخريف ، وما سر هذا التل رغم شح الزهور فيه ، أخذ يرتشف  بأنفه ، الدموع المحتجزة في عينيه، المتعطشتين للنوم ، فأمر من يساعده أن يجلب الغطاء دون معرفة سبب ذلك ، وأمر النساء بالتواجد بالقرب من زوجاتهم وأولادهم ، وأن يكون الرجال علي قدر المسؤولية ، يكمل ويحدث  الآخر بكلمات قليلة من التاريخ ، ويشير على ما يحطه ويقف عليه ، هذا ( تل ريدان ) موقع ، وقفت عليه الحملة الفرنسية عندما جاءت إلى فلسطين ، والآن يستخدمها العدو في مجزرة العدوان الثلاثي ، لدفن ابناء عزبتنا المهجرة ، يفر من معه من هول الكلام ، أخذ يحفر على جانبيه ومن أمامه وخلفه ، تزداد رائحة العطر ، كلما اقترب من أجسادهم المغدورة ، انضم إليه الرجال من ذويهم وغيرهم ، مكبرين من هول المشهد ، الأيدي والأرجل مكبلة ، والدماء تنزف كأن الرصاص خرق صدره الآن ، ملامحه لم تتغير ، ولن يلتصق التراب في وجهه إنه الشاب ( خالد ).

تخاطب صغارها : قلت لكم سنحتضه … تتماسك ،  كفاكم دموعًا فلكم البر والبحر معًا … انطلقوا.

زر الذهاب إلى الأعلى