ملفات اليمامة

الحب الأزلي وإثبات الهوية في قصيدة دمنا زيت البلاد لجواد العقاد 

خالد خضر يوسف

الحب الأزلي وإثبات الهوية في قصيدة دمنا زيت البلاد لجواد العقاد

بقلم: خالد خضر يوسف/ باحث 

ربما يظن القارئ أن القصيدة عادية عند قراءتها للمرة الأولى رغم الأثر الذي تتركه فيه، لكنه عندما يمعن النظر، ويتجاوز ملامح الوجه ليغوص في التفاصيل التي شكلت هذه الملامح، يكتشف العمق الذي يسكن كلماتها، ويجد القارئ نفسه يتجول بين ثنائية كبيرة من ثنائيات الوجع الفلسطيني، وهي الألم والأمل بل يمكن القول أن هذه الكلمات بيان للرد على فرية الحق المزعوم لغير الفلسطيني.

ولا تقف القصيدة عند حدود الزمان الحالي الذي كتبت فيه لكنها، تتجاوزه لتعود إلى عصور قديمة من تاريخ الشعب الفلسطيني المتجذر في أرضه؛ لإبراز هوية المكان من خلال استحضار التاريخ، وإعادة إحياء الزمن، فالألفاظ عميقة الإيحاء متقنة في الرمز، وإذا حاول المتأمل للقصيدة تفكيك الألفاظ وإعادة صياغة فهمها فإنه يستنتج أن الكلمات والتراكيب هي إعادة كتابة للتاريخ المستبعد.

وبالوقوف أمام عنوان النص يبدأ الشك في المعنى الظاهر للجملة ( دمنا زيت البلاد ) فهل المقصود أن الدم الفلسطيني سبب خصوبة الأرض؟ أم أنه وقود الثورة ؟ أم أن للمعنى بعدًا آخر ؟

إن الأمر المحسوم هنا أن المعنى يحمل دلالات متعددة، ولعلّ أهمها يتمثل في كلمة زيت، فالزيت ابن الشجرة المباركة ، وهذه الشجرة ليست عارضة في تاريخ هذه الأرض لكنها رفيقة التاريخ، وحكاية تعب الفلسطيني وجهده، وسر من أسرار بقائه، وتتحلل لفظة زيت إلى دلالات تاريخية ودينية، فالدم الفلسطيني لا ينضب من هذه الأرض كزيتها، ووجوده قديم منذ وجود الأرض وشجرة الزيتون.

يا أمنا ورثنا الزيتون، وكبرياءَ الأجداد

والفلسطيني يسرج مقدساته بزيت من دمه، في استجابة عظيمة لقولٍ عظيم للنبي ﷺ ( ابعثوا بزيت يسرج في قناديله ) والدم الفلسطيني يضيء من وهج التاريخ الحاضر والمستقبل، مقدس كزيت البلاد ( يكاد زيتها يضيء ولم تممسه نار).

ويتحرك الخطاب لنشر الفكرة وتوصيل المعنى بتكرار النداء الذي يتدرج من العام إلى الخاص، واستخدمت أداة النداء ( يا ) التي تستخدم للقريب والبعيد؛ لأن النداء للأرض قاصيها ودانيها، وللبشرية قريبها وبعيدها، فيبدأ بعموم الأرض الذي يفهم من تنكير لفظ ( يا أرض )، ثم يا أمنا ثم يا وطني، وتعميم النداء للأرض يستهدف تعميم الخطاب للبشرية، اتكاء على إنسانية جرح الشاعر وقضيته.

ثم يأتي نداء يا أمنا الذي يحمل معنيين عام وخاص في آن، فالأرض أم البشر فقد خلقوا من ترابها، زإليها يرجعون، والأرض الفلسطينية أم الفلسطيني الذي عاش ومات لأجلها، ثم يتبع ذلك النداء الخاص ( يا وطني / يا جرحي ) ليصبح الخطاب للذات الفلسطينية.

وتظل فكرة الحب الأزلي للأرض تتعانق مع فكرة إثبات الهوية، وإعادة كتابة التاريخ، ومسح الغبار عن الحقيقة، فقد ورث الفلسطيني التاريخ المتشح بالكبرياء أبًا عن جد؛ لذا لابد للأرض الأم أن تحدث أبناءها عن حزن الغربة واللجوء والهجرة.

ولأن بين الشهداء والفجر حكاية ارتباط عجيبة فلابد، أن تغتسل السماء كل يوم بدموع الصبح القادم، عندما يرتقي الشهداء إلى الجنة، فيحفظ المجد أسماءهم في صفحات الخلود

واغسلي بدمع الصبح وجه السماء

كي ينبتَ فينا حُبُّ الزيتون والوطن

واختبئي خلفَ تجاعيد الزمن

كي نحبَّكِ أكثر وأكثر

وحدثينا عن حزن البرتقال والتغريبة

ولماذا يزداد الحب عند اختبائها خلف تجاعيد الزمن؟ لأن التجاعيد هي الهوية الحقيقة التي لا يحملها وجه الاحتلال الكريه، ويتحلى بها وجه الفلسطيني الأصيل، وهي حكايات الجدات للأحفاد التي لا تنساها ذاكرة الزمن.

ويتكئ النص على رمز مهم للفلسطيني مقترن بالوطن يقول الشاعر

أنا فلاحٌ أموتُ كالحلم وأقاتل

يا وطني..

يا جرحي المُغطى بالذكرى والملح

أعود إليكَ من رمادي،

وإلى بقيةِ وجعي أفر،

وأتوبُ من انحناءاتٍ سنبلةٍ

توزعُ صمتها في صدرٍ شعبٍ يُقاتل

إن الفلاح رمز لعمق التاريخ وحكاية الحضارة التي عاشت على هذه الأرض، منذ النطوفيين الذي سبقوا العالم إلى الزراعة، وانتقلت منهم إلى البشرية على ارض فلسطين، والكنعانيين الذين شكلوا أول مجتمعات زراعية عرفتها الحضارة وعلموا البشرية حروف الأبجدية وفن الكتابة.

ويتعانق الرمز مع التناص، فالفلاح الفلسطيني الذي شكّل دائمًا ضلعًا أساسيًا في الثورات الفلسطينية، هو ذاته الذي يقول له شاعره محمود درويش ” قف على ناصية الحلم وقاتل “، وهو الفينيق الذي يخرج من رماده تائبًا من انحناء الصامتين وخنوع الساكتين، يرفض حتى السكوت في زمن حق فيه القتال، وشعب لم يتعود الصمت على الظلم ولم يحمل تاريخه غير الإباء، وقد شكل التناص والرمز في هذا المقطع لوحة فريدة في تميزها الشعري.

وينطلق من هذه الرمزية التاريخية الحلم القادم الذي يتجهز للبزوغ مع فجر الحرية، من واقع الحاضر الذي يعيشه الفلسطيني المقاتل، ويأتي ختام النص بالنداء الأخير، مع بصمة أخرى لتاريخ عريق لا تختفي ظلاله عن الحاضر.

يا وطني

دمي بعد السنابل يضيءُ الشمس

وطينُ البلاد

يُفجرُ ينبوعًا حيثُ نمشي

نحن أنبياء السلام

قمح الأرض المقدس يحبنا

تعتنقُ السنابلُ الحريةَ

وأغنياتُ الحصاد تبتزُّ أعداءنا،

وتجمعُ شملَ الزعتر البلدي

إن هذه الأرض تعرف أهلها من خفق أقدامهم فوقها فتستجيب لحبهم، وتنفجر ينابيعها كما انفجر السري تحت مريم العذراء، وانفجرت زمزم تحت قدمي الذبيح إسماعيل، إن الفلسطيني وريث الأنبياء، وأرضه أرض النبوة والسلام وكل ماعليها مقدس، الزيت والزيتون والسنابل والزعتر والدم والحكايات ميراث مقدس يجمع شعث الفرقة، ويلم شتات الغربة عندما ترتفع أهازيج الحصاد الكبير.

إن التاريخ الفلسطيني العريق المترع بالأحداث، العميق بحضارته وإنجازاته عصي على الطمس، وإن القصيدة تأريخ جديد وإعادة صياغة للحقيقة، من خلال حشد الشواهد التاريخية باستخدام الرموز الفنية والأسطورة والتناص الديني والأدبي والتاريخي، ووضعت أحاسيس القارئ بين قوسين من ألم وأمل، وتحولت ألفاظ الألم ( دمنا /جرحي / دمي / وجعي ) إلى إيحاءات بالأمل القادم، فالدم يضيء الشمس، والوجع ملاذ الروح، والجرح ملجأ في لحظات الضعف، حتى ينبلج فجر الحرية ويجمع شتات الإنسان الفلسطيني كما يجمع الفلاح الزعتر البلدي.

حقيقة أخيرة إن النص أكبر من هذه القراءة، وكلمّا تكررت القراءة تعمق الفهم وزادت الدهشة.

نص القصيدة:

دمنا زيت البلاد

 

يا أرضُ احفظي دمعَنا

يا أمنا ورثنا الزيتون،

وكبرياءَ الأجداد

احبسي في كلِّ سنبلةٍ دمعة

واغسلي بدمع الصبح وجه السماء

كي ينبتَ فينا حُبُّ الزيتون والوطن

واختبئي خلفَ تجاعيد الزمن

كي نحبَّكِ أكثر وأكثر

وحدثينا عن حزن البرتقال والتغريبة.

 

أنا فلاحٌ أموتُ كالحلم وأقاتل

يا وطني..

يا جرحي المُغطى بالذكرى والملح

أعود إليكَ من رمادي،

وإلى بقيةِ وجعي أفر،

وأتوبُ من انحناءاتٍ سنبلةٍ

توزعُ صمتها في صدرٍ شعبٍ يُقاتل.

 

يا وطني

دمي بعد السنابل يضيءُ الشمس

وطينُ البلاد

يُفجرُ ينبوعًا حيثُ نمشي

نحن أنبياء السلام

قمح الأرض المقدس يحبنا

تعتنقُ السنابلُ الحريةَ

وأغنياتُ الحصاد تبتزُّ أعداءنا،

وتجمعُ شملَ الزعتر البلدي.

جواد العقاد

من “على ذمة عشتار” ٢٠١٧م

زر الذهاب إلى الأعلى