ملفات اليمامة

الحضور السردي في ديوان “على مرمى غيمة” للشاعر شفيق التلولي 

الحضور السردي في ديوان (على مرمى غيمة) للشاعر شفيق التلولي 

بقلم: د. عبد الرحيم حمدان/ ناقد وأكاديمي

تمهيد:

يسعى الشاعر المعاصر في محاولاته الدؤوب إلى تطوير أساليبه التعبيرية وإغنائها داخل سياقات درامية، فيلجأ إلى توظيف الأساليب السردية؛ حيث يتبنى النص الشعري روح السرد دون الدخول في أغوار القالب القصصي، إذ يشكل الشاعر فضاءه السردي بأسلوب قصصي، لا يخرج فيه النص عن حيز الشعرية.

جنح الشاعر المعاصر؛ لتطعيم أعماله ببعض التقنيات والأساليب السردية، في محاولةٍ منه لتوسيع الأفق الدلالي للنص؛ وليخرج على الأنساق التقليدية والرؤى المسطحة، إذ استخدم الشعراء وحدات سردية بطريقة شعرية، وهو ما يطلق عليه (سردية الشعر)؛ ذلك أن المقصود به هو: “استخدام الشاعر لبعض أدوات التعبير التي يستعيرها من فن آخر، وهو الفن القصصي ([1])؛ لتصبح القصيدة أشبه بالحكاية أو القصة من الناحية الفنية.

ومن بين الشعراء الفلسطينيين المعاصرين الذين أوْلَوْا السرد (الحكي)اهتماماً في أعمالهم الشعرية؛ الشاعرُ شفيق التلولي([2])، في ديوانه (على مرمى غيمة) الذي استمد بعض أدواته التعبيرية من البناء السردي، إذ بلغت السردية أو الحكاية عنده مداها، وتضافرت مع الشعر في ديوانه المذكور سابقاً، وذلك من خلال حكاية عبّرت عن رؤيته النفسية والثورية، وبالتالي أضفى عليها روح السردية .

ويعرّف السرد بأنه:” الكيفية التي تُروى بها القصة عن طريق هذه القناة نفسها، وما تخضع له من مؤثرات، بعضها متعلق بالراوي والمروي له، والبعض الآخر متعلق بالقصة([3]).

وفي هذا النمط من الشعر يتكون النص الشعري بصورة مختلفة عن النص السردي، ويمتلك ميزات خاصة، لكنه وبانفتاحه على النصوص السردية، واكتسابه عدداً من خصائصها وسماتها بطريقة جديدة تكسبه صفة التميز والتفرد في صوغ تلك الأساليب وتحليلها التي يتجلى بها السرد في الشعر، وسيلة تلائم طبيعة البيئة الجديدة التي تنمو فيها ([4]).

ومن أسباب اختيار ديوان الشاعر شفيق التلولي أنموذجاً للدراسة؛ طغيانُ السرد بأشكال متعددة على قصائده؛ رغبةً من الشاعر في تسريد الشعر، والأحداث والمكان والزمان، فضلاً عن اشتمال هذا الديوان على كثير من القصائد التي اعتمدت السرد بناءً لها.

ومن تتبُع الدارس لديوان (على مرمى خيمة) وَجَدَ أن الشاعر شفيق التلولي وظف تقنيات السرد من خلال بعض أسسها: كالأسلوب القصصي، والأسلوب الحواري، وقد اكتفي الدارس هنا بهذين الأسلوبين السرديين؛ نظراً لضيق الوقت، وإلا فالديوان ينبني على مكونات أخرى: كالتناص، والشخصيات، والتشخيص، والتجسيد….).

الأساليب السردية في ديوان “على مرمى غيمة”:

أ –  الأسلوب القصصي:

هو من الأساليب السردية التي شاع استخدامها في التجربة الشعرية المعاصرة، وهو أسلوب مألوف في الموروث الشعري العربي القديم، ويُقصد به في الشعر استخدام الشاعر لبعض أدوات التعبير التي يستعيرها من السرديات، دون أن يكون هدفه هو كتابة قصة شعرية، فالقصة في الاستخدام الشعري، إنما تقوم؛ بصفتها وسيلة تعبيرية، لا على أنها قصة لها طرافتها وأهميتها في ذاتها، ومن أجل ذلك يجد المتلقي أن الشاعر يوظفها من حيث كونها لمسة فنية دالة ساحرة تأسره، وتبحر به في عوالم الديوان الشعري، وتشده بجمالية سبكها، وحسن توظيفها، لا سيما أن الشاعر أضفى عليها لمسته الشعرية. وليتأمل القارئ مثلا قصيدة “وصية” التي يقول فيها الشاعر:

هذه الأرض لجدّي 

وحكايا الحواكير… 

كم قرأنا عنه فيها 

عن حصاد البواكير 

كان جدي ذات يوم 

يسقي والماء وفير..

ثم صرنا اليوم بعده 

عطشى 

والماء أسير..

 متى للدار سنرجع 

للبيادر والنواعير([5]

نشرب الماء العذب 

من جرار الفواخير؟ (على مرمى غيمة١٠٥).

يسرد الشاعر في هذه القصيدة  الهم الشخصي متداخلاً بالهم الوطني، والخاص متداخلاً بالعام، ويتحدث عن الشعور ب بالفرح والحزن والأمل، وضياع  الوطن، وارتفاع وتيرة الانتماء السياسي والنضال الوطني.

وفي هذه الأسطر الشعرية، يستشعر المتلقي النَّفَس السردي، إلى الدرجة التي جعلت القارئ يدرك أن هذا النَّفَس القصصي قد هيمن على جُلّ النص الشعري، بشكل يجعله  يتابع القصيدة، وكأنه ينصت لحكاية ما، لكن بنفس شعري قصصي، إذ حمل النص السابق أسلوباً حكائياً ذا وظيفة تشويقية منذ الاستهلال الذي بدأت به القصيدة؛ بوصفه استهلالاً جاء تمهيداً للحدث في الرواية، وهذا الاستهلال يجعل القارئ يتساءل عن انتمائه لهذه الأرض، وما تشتمل عليه من أمكنة تراثية كالحواكير،()، والبيادر، والنواعير، جرار الفواخير، وما تحتويه من ثمار، وفواكه تنتج بواكير الثمار بطعمها اللذيذ.

استخدم الشاعر الفعل الماضي فعل الحكاية “كان” الذي يعد أداة مهمة من أدوات السرد القصصي، يسترجع من خلاله الشاعر  ذكريات الماضي التليد، فهو بمثابة صيغة سردية تضفي بعداً جمالياً على النص الشعري، ومن صفاته الجمالية والتعبيرية أنه يتسم بالإيحائية والتكثيف، وهو من أساليب الحكايات التراثية، فضلاً عن لفظة (جدي) التي تنفتح على دلالات رحبة تؤشر على أصالة المحتد، وعلاقة الانتساب للأرض، وتجذر الفلسطيني فيها، وقد مثّل بذلك آلية تكاد تكون أقرب إلى السرد منها إلى الشعر.

استخدم الشاعر من تقنيات الأسلوب السردي المفارقةَ الدرامية التي تجسد لحظتين  متناقضتين: إحداهما لحظة الهناءة والسعادة ولين العيش، ونعمومته، والماء الوفير النمير في ظل الأرض قبل أن تبتلى بالاحتلال، والأخرى لحظة ضياع الأرض، وما نتج عنها من شظف العيش، ومرارته، والحرمان من الماء الذي غدا أسيراً يحرم منه أهله، يتمتع به أعداؤه.

ومفهوم الوطن/ الحلم، والوطن والمنفى في التجربة الفلسطينية يعمّق الإحساس بالمكان؛ لما تعنيه من تهجير ونفي وإبعاد، ذلك الإحساس المؤلم بالوطن الضائع، بُني على أساس التناقض بين ما كان وما هو كائن، بين حلم الوطن، وحقيقة المنفى.

وفي النص الشعري يتجلى تفاؤل، واعتزاز بالنفس، وثقة عالية وإصرار عميق على العودة إلى تلك الديار بعد أن تُطهر من دنس المحتلين.

وهكذا استخدم الشاعر القصة؛ بوصفها وسيلة تعبيرية موحية ومؤثرة،  أكسبت الإطار الشعري مزيداً من الخصب والثراء، وارتفعت به من الناحية التعبيرية إلى مستوى رفيع.

أدى الإيقاع النغمي دوراً مهماً في تغذية النَفس السردي لا سيما القافية الرائية المردوفة بحرف المد الياء مثل: الحواكير، البواكير، وفير، أسير، النواعير، الفواخير.

وفي قصيدة أخرى تبرز فيها شخصية الشاعر؛ بوصفه الراوي العليم بكل شيء، والذي له القدرة على عرض كل ما يريد من غير أن يحول بينه وبين ذلك حائل. إذ تتفاوت نسب وجود عناصر القصة من قصيدة إلى أخرى.

والقصيدة بهذه المثابة تجربة وجدانية نابعة عن موقف فكري خاص بالشاعر، ملونة بمشاعره وعواطفه الجياشة، فالشاعر في لحظة استرجاع لذاكرته بصيغة الاحتفال والزهو لأيام مضت يتذكر فيها أيام الصبا، والتحولات التي طرأت على الحياة، وهذا ما جعله يشعر بالأسى وتنتابه صعقات الحزن، فأرضه أصبحت شاحبة الوجه، ذابلة الحروف.  ويتجلى السرد القصصي  بوضوح في قصيدة “رماد” ، إذ يقول الشاعر:

على جناح الليل

 يحلّق “ساهر”

 يتسكع. 

على أرصفة المدينة

الغارقة في وحلها 

أنَّى لساهر 

يطارد الغيمات…  

في المقاهي العتيقة 

أنْ يغمض عينيه 

يا ساهر الليل، 

لا يغرنك هذا الغيم 

سديم الغيم، 

في المدن السحيقة  

سحابة صيف…  

من دخان السجائر النتنة 

لا يجلوها. غير كيِّ المطر الغابر 

ودیونیسوس([6]) المشاغب

 ينفخ التبغ الفاسد 

على مرمى شهقة

 من ربيع 

في فصل الرماد.  (على مرمى غيمة .٥٦ ، ٥٧).

تجلت في هذه القصيدة الكثير من عناصر البناء القصصي، ومن أبرزها عنصر الحكاية، حيث تبرز من خلالها شخصية ” ساهر”، – وهو رمز للمواطن العربي المطحون- بأشكالها الخاصة، ويتولد عنها في نفْس المتلقي إحساس بأنه يشاهد الواقع ماثلاً أمامه، فشخصية ” ساهر” هي التي تعبر عن همِّ الإنسان العربي في انتظار الخلاص والانعتاق، ولكنه خُدع بسحابة صيف،  وأخفق في تغيير الواقع، ولم يستطع أن يبدّل شيئاً من حال الإنسان العربي المنكود، فكان عمله بمثابة،  تخدير لسعي الإنسان العربي، فظل مخموراً سكِراً، بلا وعي أو إدراك، وقد وظف الشاعر الأسطورة اليونانية باخوس؛ ليرمز لحالة الضياع والقلق  التي يعيشها الإنسان العربي.

تمكّن الشاعر من أن يبلور شخصية “ساهر”  من خلال علاقتها بالواقع العربي المعيش، واحتكاكه به.

يتميز شعر شفيق التلولي بعامة بالأسلوب القصصي، ويلمح المتلقي ذلك في عنوان قصيدة (رماد)، فالعنوان يوحي بحالة الإخفاق، وعدم تحقيق الأحلام والأمنيات، فكل ما حدث لا يعدو كونه رماداً لا فائدة تُرجى منه، فالعنوان يحمل دلالات سيميائية تشي بمضمون النص الشعري ونهايته.

يظهر في هذا المجتزأ بجلاء السرد القصصي الذي يصور حالة شخصية “ساهر” القلقة الموحية للمتلقي بوجود قضية يعاني منها.

تميزت لغة الشاعر بأنها لغة سهلة وممتنعة وشفّافة ومتدفّقة ومغلّفة بالإيحاء، وهذا ملمح آخر من ملامح قصائده، المستمدة من لغة فصيحة قريبة من أفهام عامة الناس مثقفين وغير مثقفين، وهي سمة تنسجم مع واقع القصيدة العربية المعاصرة، وتتكلم بلسان أبناء عصرها، لا بلسان العصور السابقة.

يلحظ المتلقي قدرة الشاعر الفائقة على انتقاء الألفاظ والعبارات واختيارها بدقة وعناية فائقة التي توحي بالنفَس القصصي.

استخدم الشاعر تقنية الحُلُم  في أسلوب السرد القصصي، ويبرز ذلك في قصيدة “غواية”، التي يقول: الشاعر:

كأني سقطتُ

 كشجرة عتيقة

 أتعبَها انتظارُ الربيع

 فهوتْ صريعة في

 موسم الريح.

 …. أو كأني نحلةٌ 

تحط 

في زمن المرار.. 

كأن روحي قامتْ 

من موتها أيقظتها 

الرعشةُ القصوى. (على مرمى غيمة ٨٥ ، ٨٦).

وظف الشاعر في الأسلوب القصصي آلية الحلم، إلى جانب تقنية الارتداد، إنه يرسم مشهداً حيّاً يسترجع فيه الأحلام والأماني التي بناها الإنسان العربي من أجل نهضته وثورته على واقعه المعيش.

وهذا الاسترجاع المؤلم هو الذي مهّد لليقظة والعودة للواقع؛ لينكشف الأمر كله عن استباق زمني، إذ إن النهضة والثورة الحقيقة لم تحدث بالفعل، وتبين أن الأمر لم يكن سوى حلم، يستبق الواقع، ويتنبأ بالمستقبل المشرق عندما يتحول إلى حقيقة على أرض الواقع لا على أرض الحلم!

تتجلى في هذه القصيدة شخصية الراوي/ الشاعر، إذ بدأ قصيدته بالراوي، وهو الشاعر نفسه الذي يمثّل طبقة المثقفين والشعراء والأدباء الذين ينشدون الحرية، والتغيير، والحقيقة، ويتحملون في سبيلها إخفاقات ومتاعب من أجل التمتع بها، فيترك للقارئ تحديد صفات هذه الشخصية من خلال مشاركتها في الحدث وتناميه في القصيدة، ويجد المتلقي الراوي في هذا المجتزأ يمثل السارد الحقيقي لأحداث القصيدة، حيث يبدأ بتشبيه نفسه بالشجرة العتيقة، أو النحلة اللتين لم تستمرا في الحياة لانتظار الظفر والانتصار، وقد عرضها بإيجاز شديد، إنه ينتقد الواقع المعيش بسخرية واستهزاء وذكاء أيضاً، دون أن يتعرض لأي أذىً، ويكون بمأمن من غدرهم وخطرهم .

وفي قصيدة أخرى بعنوان “حلم في ربيع قارس”، يصور الشاعر بأسلوب قصصي حلم الأطفال في ظل الاحتلال والتطبيق مع العدو، يقول الشاعر:

يا صغارنا في الخيام

لا تحلموا بطائرات عربية ..

من ورق.

عيدانها :

نجمة سداسية

وطياروها

على نخب صقيعكم

يقدحون الكؤوس..

ويحتسون العرق..

يا صغار غزة والشام

لا سماء لطائراتكم الورقية .                           (على مرمى غيمة 46).

إن القصد من الأسلوب السردي ليس الحكاية والوصف وبناء الحدث؛ إنما الغاية الإيحاء، ونقل الإحساس، وتعمد الإبهار، فيكون الحُلُم تجلياً لعوالم الشعور والإحساس.

المتأمل في السرد القصصي عند الشاعر يكتشف أن الميزة الأهم للشعر السردي الذي يميزه عن النثر – وإن كان شعرياً- هو التعبيرية في السرد.

وظّف الشاعر في الأسلوب القصصي آلية الحلم قصيدة “غواية”، إذ    استخدم الشاعر في الأسلوب القصصي السابق آلية الحلم، إلى جانب تقنية الارتداد، إنه يرسم مشهداً يسترجع فيه الأحلام والأماني التي بناها الإنسان العربي من أجل نهضته وثورته على واقعه المعيش، هذا الاسترجاع المؤلم هو الذي مهّد لليقظة والعودة للواقع؛ لينكشف الأمر كله عن استباق زمني، إذ إن النهضة والثورة الحقيقة لم تحدث بالفعل، وتبين أن الأمر لم يكن سوى حلم، يستبق الواقع، ويتنبأ بالمستقبل المشرق عندما يتحول إلى حقيقة على أرض الواقع لا على أرض الحلم.

ب – الأسلوب الحواري:

يمثل الأسلوب الحواري سمة بارزة في بنية ديوان (على مرمى خيمة)؛ ويقصد به ذلك السرد الذي يتم بواسطة إدراج الحوارات بين الشخصيات المختلفة في القصيدة.

وهو أحد أنواع النصوص الأدبية، ويكمن الهدف والغاية من هذا النوع من النصوص إيصال إحدى الأفكار والرؤى إلى الشخص القارئ للنص الحواري .

يوظف الأسلوب الحواري عادة تقنية الحوار؛ بوصفه أداة فنية للخروج من نزعة الغنائية الشعرية، وهو هنا وسيلة للتعبير عن الرؤية المتعددة.  إذ يعد الحوار الدرامي عنصراً محورياً في بناء العمل الشعري ذي النزعة السردية، وهو تقنية  فنية متميزة تساهم  في جعل المتلقي يُصغي إلى أصداء أفكار الشاعر وإيقاع أحاسيسه، والحوار حديث الشخصية الإنسانية المنبعث من أعماقها، والمعبر عنها أدق تعبير؛ لأن الشخصية الصامتة تبدو مثل لوحة ساكنة، ولكنْ ما إن تتحاور حتى تنبض ملامحها، وتتحرك الحياة فيها، حينذاك يتكون الانطباع الأول عنها.

يبدو أن الشاعر الفلسطيني قد وجد في أسلوب الحوار بنوعيه: الخارجي والداخلي عوناً له في بناء خطابه الشعري بناء سردياً، وذلك؛ لأن الحوار” يوضح أبعاد القضية المطروحة أو الموضوع المثار على نحو يزيده ثراء وتكثيفاً ([7]). ومن أنواع الحوار الدرامي المباشر؛ قصيدةُ “مغامرة”، يقول الشاعر:

” حملتُ البحر

 إليها. 

قالت: 

اتبعني بنهايات الموج ..

ضللتُ اتجاه الريح..  

 

 

 

سقطتُ كسيزيف .. ([8])

صَمَتُّ

 … مسكتُ عن الكلام…  

كتبتُ لها 

على جدار البوح 

لا تُسقطي الموجة الأخيرة..  

من على حافة الانتظار… 

صاحت: 

أنا جنية البحر. 

صرختُ من تحت الماء:

 لستُ حطاباً

 … يجيد صعود الجبال.   

قالت:    

-إذن أنت غودو([9]

 – بل أنا حاتم الخيال..  

وأنت قديستي.

   سئمت انتظار غودو

 ولعنة آلهة الصخرة

 ومغامرات الغوص

 والاحتطاب..    (على مرمى غيمة، ص ٨٢ ، ٨٣ ).

استخدم الشاعر الحوار المباشر الذي يتضمن بعداً نفسياً يعبر عن الرؤية، وهو حوار سردي متعدد الأصوات، استخدم فعلي (قال – وقالت).

وظف الشاعر – أيضاً – أسطورة سيزيف، وأسقطها على الإنسان الفلسطيني، فشعره يجسد عذابات  “عوليس الفلسطيني “، حيث الحزن والمرارة، وهو يحمل -أيضاً- كلّ معاني الثورة والغضب والإصرار والأمل،  إذ ترمز أسطورة  سيزيف القصصية للتحدي والإصرار، وهذه الأسطورة يقاربها الشاعر بواقع الشعب الفلسطيني الذي لا يستسلم ولا يعرف الانسحاب؛ بذلك ازداد المعنى عمقاً وجمالاً.

إن توظيف فعل القول( قال وقالت) أضفى مسحة سردية على بنية النص الشعري لتأتي بعدها تفاصيل الحكي في سردية مأساوية تصور حكاية العيش التي تمثل روتين الحياة اليومية البائسة للشعب الفلسطيني بخاصة.

فالحوار هو اللغة المعترضة التي تقع وسطاً بين المناجاة، واللغة السردية وهو هنا مقتضب ومكثف؛ ينهض على فعل الحكي في الماضي “قال- قالت”، كون هذه الطريقة، أو الأسلوب في السرد، هو ما يمكِّن السارد من إبداء وجهة نظره تُجاه الحكاية المحكية، وتبني فكرة ما أو رفضها، من دون أن يكون شخصية مقمحة بداخلها.

وقد مال أسلوب الشاعر إلى توظيف الأساطير والحكايات الشعبية، التي جاءت بصورة متراكمة، فضلا عن توظيف تقنية العجائبية الغرائبية في سرده الشعري؛ ليضفي على شعره مسحة من الجمال والفن، وينبئ عن ثقافة واسعة، ومعرفة عميقة، وقد جاءت تلك الأساطير والحكايات الشعبية متماهية مع الأسلوب مندغمة معه، ولم تكن ملصقة بالجدار الخارجي للنص الشعري.

تتعدد الأصوات في قصيدة “ثنائية اللوز”، إذ تبدأ الذات الشاعرة الحوار المباشر بقولها محاورة محبوبة وهمية:

انتظرينِي .. عند حدود الغيم

 سأُهديكِ زهرة 

من نوار اللوز قبل الغيث والنوى.

 – سأكونُ هناك

 .. فالتقطني أنا قطرة الماء

.. لا تخشَ الصحراء 

خذني.. 

سياجاً لزهر اللوز 

الغيمُ أنا … 

المطر حدودي

.. ………….

– احتويني .. تنشّقِيني..

كالثّرى..  

في يومٍ ماطر

 أقيمي.. أنفاسُكِ هنا …   

 كوني حدودَ كَرْمِي.. 

– لا حدودَ للغيم.. 

-لا حدودَ للانتظار… 

– لا حدودَ للغيم..

  لا حدودَ للانتظار..

– أنا وأنتَ 

زهرتا لوز..

  –  أنتِ تشبهين قلبي.

   – أنا وأنتِ زهرتا لوز

 –  وأنتَ تشبه قلبي   (على مرمى غيمة ٣٥ – ٣٧ ).

المتأمل في هذه القصيدة يدرك أن الشاعر يبحث عن أصوات تنوب عنه في تقديم الرؤى، إذ يعبر كل صوت سردي عن رؤيته الخاصة.

تتجلى في هذه القصيدة الرغبة القوية بين الشخصيتين في الاتحاد والتواصل والالتحام، وإنهاء الانقسام؛ لتحقيق المصالح الواحدة، إذ استعان الشاعر بالألفاظ الموحية ذات الحمولات الدلالية الرحبة مثل: (انتظريني، احتويني، تنشقيني، التقطني) ففيها بوح شعري يعبر عن عاطفة وجدانية صادقة متدفقة، إذ تنفتح بعض المفردات على دلالات غنية بالمعاني والرموز مثل: المطر، الغيث، الغيم ، الصحراء . وفيها التكرار النغمي المتمثل في قوله: ( لا حدود للغيم.. لا حدود للانتظار… لا حدود للغيم.. لا حدود للانتظار.. – أنا وأنتَ – أنا وأنتِ) وغلبة الأسلوب الإنشائي (أمر ونهي) على بنية القصيدة تنبئ عن الانطباعات العاطفية دون العبارات  العقلية، فهي تعكس أزمة الشعور، وحيرة العقل، ونمطية هذه التراكيب وانحرافاتها وسياقاتها الإيحائية تكشف عما تحمله من كثافة شعورية، وصياغة فنية جمالية.

يتبين مما سبق أن عنصر الحوار يعمل على تنمية الحدث وتطويره؛ لأنه يرصد الوقائع ويدخلها في سياق الحدث؛ لتكون جزءاً منه، فهو يعمل على تكثيف الصراع؛ بين شخصيتين.

لم يقف توظيف الشاعر عند الحوار الخارجي المباشر في المتن الشعري؛ وإنما تعداه إلى توظيف تقنية الحوار الداخلي غير المباشر، ففي قصيدة “ذاكرة شتائية” يقول الشاعر:

أشتاقُ لموقد نار 

تحت ندف المطر.

  لراحلٍ…

  كم أحبُ النبش 

في رماد الحطب!  

أتوقُ لرائحة دخان 

لأعقابِ سجائر 

لبقايا فحم 

لحكاياته عن العمر 

لرغيف زعتر 

محمّصٍ على الجمر.. (على مرمى غيمة: 32).

يرسم الشاعر لوحة فنية يخاطب بها نفسه من خلال استرجاع ذكريات الطفولة البريئة، وما كانت تتمتع به من مفردات الريف الفلسطيني، ولا يعدو عمله هذا أن يكون حواراً داخلياً يترجم ذكرياته، وما يحن إليه من أشياء اختمرت في باطن الذات الشاعرة، لذلك يبني قصيدته “ذاكرة شتائية” على هذا البناء الحواري؛ بوصفه أداة تعبيرية قادرة على الكشف عن عمق الرؤية الشعرية، والموقف الفكري والروحي والنفسي له.

وقد ترتبط لحظة الحوار الداخلي (المونولوج) بعالم الأماني والرغبات التي قد يستحيل تحقيقها.  فالشخصية ترغب في الوصول إلى ما تصبو إليه ولكن رغباتها تظل معلقة بحبل الأماني:

أشتاقُ لموقد نار 

تحت ندف المطر.

  لراحلٍ…

  كم أحبُ النبش 

في رماد الحطب!  

وفي قصيدة أخرى يوظف الشاعر تقنية المناجاة، لاسترجاع تاريخ عظيم، لعله يعود في زماننا، يقول في قصيدة “يرموك” :

يرموكُ 

 يا سواراً:

في معصمي

 أفديكَ بروحي

 وقلبي ودمي؛ 

كي تقومَ الشمس

 فيكَ

 وليلكَ ينجلي.. 

يرموكُ 

يا رفيقَ عمري

 وميسمي 

فيكَ ظلي..

فيكَ سمري .. وقمري ومرتعي.. 

يرموكُ 

عُدْ بنا 

إلى صبحك الأول…   

وربيعِ عمرك الندي

 … أينما وُجد المخيم 

فذاكَ موطني. 

كل المدن تتشابه

 إلا المخيم …

يشبهُ قلبي الطري..   (على مرمى غيمة، ٦٥ ، ٦٦ ).

 

بدأ الحدث في القصيدة كمشهد سينمائيّ محكم يشاهده القارئ، إذ تكشف هذه الأسطر عن شعر عاطفي وجداني، إذ أجرى الشاعر في المجتزأ السابق حواراً داخلياً أشبه بالمناجاة بينه وبين مفردات أخرى غير اليرموك، التي بدأها بالنداء المحبب،  مثل:(الكنعانية، والأم، العصفور)، وتلك المفردات لم تجب حوار الشاعر، وإن امتثل بعضها له، يقول في قصيدة “عصفور مضى باكراً”:

يا صغيرَنا 

قبل أن تنام 

أخبرْنا 

كيف تموتُ العصافير؟ 

لا تبكي أختاه 

على ملاكٍ 

الجنةُ مثواه عصفور..  

طار إلى سكناه 

تاركاً ریشه 

غصةً .. في القلب

 آه !

لا تذْرفِي الدمع

 يا أختاه ..

احمليه

إلى الله..     (على مرمى غيمة، 100 ، 101 ).

ومن أدوات البناء السردي ؛ توظيفُ الحوار في النص الشعري، ففي قصيدة “عصفور مضى باكراً”، يبدأ الشاعر قصيدته بالحوار بين الأخت والعصفور وبين العصفور والأخت، وبين السارد الشاعر المتكلم/ السارد،

تُشكل هذه القصيدة شبه مناجاة بين عصفور- هو رمز للطفل الشهيد البريء- وبين أخت له، إذ يردُّ عليها العصفور سؤالها، قائلاً: إنّ روحه صعدت طاهرة بريئة إلى بارئها.

تمثل هذه القصيدة بجدارة تقنية تعدد الأصوات، فهي تجمع صوت الذات الشاعرة، وصوت الأخت المفجوعة، وصوت العصفور الشهيد، وهذا التعدد في الأصوات يحمل دلالات جمالية وفنية، فهو يبتعد بالنص عن أحادية الصوت، ويخلّص النص الشعري من نزعة الغنائية، ويميل به نحو الدرامية وينأى به عن الميوعة الذاتية إلى الموضوعية.

إن تعدد الأصوات في هذا النص المكثّف يحقق نسجاً متفرداً من التكثيف، إذ لا يجد القارئ عبارة إلا وهي صوت، وهذه براعة تكثيفية، وهي فعلاً مظهر جليّ ورفيع للسردية التعبيرية. يعرض الشاعر في القصيدة السابقة كأنه مشهد تصويري يُمثل على خشبة المسرح.

ومن أنواع شبه المناجاة التي تعد لوناً من ألوان الحوار الداخلي؛ قولُ الشاعر في قصيدة له بعنوان: (على صليب يهوذا)، إذ يقول:

یا مریمُ،

خذينا

إلى زكريا،

خذينا

إلى نخلةِ المخاض؛

نُميّز الطيب من الخبيث،

فالسّحَرةُ

يعيشون في آذاننا

من على منابر الردة

ينفخون فينا

سمَّ الكلام

 یا مریمُ،

 كم مرة يصلب الإسخريوطي([10]

على مذبح أشباه الرُّسل ؟! (على مرمى غيمة ص:٥٤ ،٥٥).

تتناص هذه القصيدة مع  قصة السيدة مريم البتول، وسيدنا زكريا – عليهما السلام-، وتتناص -أيضاً-  مع حكاية الإسخريوطي زمن النبي عيسى – عليه السلام -؛ الأمر الذي عمّق النَفَس الحواري في الخطاب الشعري، وأضفى عليه جمالاً وفناً وحياة .

ساهمت تلك المناجاة في نسج خيوط الحلم الذي أحسنَ الشاعر بإقحام القارئ فيه من أول القصيدة دون تمهيد،  إذ يعد الحوار من أهم الأساليب الفنية التي وُظفت في القول الشعري المعاصر، لما هو تواصل بين أصوات متخاطبة في النص الشعري، وقد احتفى به الشعر العربي الحديث؛ بوصفها أداة تعبيرية درامية تساهم في نقل التجربة والموقف الشعريين.

والبنية الحوارية في ديوان “على مرمى غيمة” لم تكن عملاً مستقلاً عن سائر المكونات والتقنيات السردية والدرامية؛ وإنما كانت بنية متفاعلة معها في علائق، باعتباره انحرافاُ تعبيرياً يتيح للشاعر أن يعبر عن أفكاره الداخلية وعواطفه بطريقة غير مباشرة.

إن هذا الأسلوب الحواري الذي وظفه الشاعر، قد أضفى على الموقف المراد التعبير عنه أبعاداً لم تكن لتظهر لو اكتفى الشاعر بالحركة في اتجاه واحد، واكتفى من الواقعة بالإخبار عنها بشكل تقريري مباشر، ولكن تجسيم الموقف وتصوير المشاعر من خلال التوظيف الحواري، قد جعله بلا شك أكثر تأثيراً وإقناعاً وجمالية.

وخلاصة القول أن الأسلوب القصصي قد استُخدم في البناء الشعري المعاصر؛ ليؤدي وظيفة جمالية تعبيرية ، فهو يغني النص الشعري، ويدفع به للتخلص من الغنائية للوصول إلى الدرامية، ومن الذاتية إلى الموضوعية. ومن ثم يمكن للدارس أن يؤكد أن تجربة الشاعر المعاصر شفيق التلولي أتاحت له الفرصة لاستخدام آليات ووسائل تعبيرية مقترضة من أجناس أدبية أخرى؛ لتعزيز تجربته الشعرية والانفتاح على تقنيات التخاطب في كل تجلياته التعبيرية، مع الحفاظ على جوهر الشعرية.

[1] )  عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر (قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية) دار الفكر العربي، ص: ٢٤.

[2] ) شفيق التلولي: كاتب وأديب وباحث وناشط سياسي ونقابي، وهو عضو اتحاد الكتاب الفلسطينيين، عضو المجلس الوطني الفلسطيني، صدر له العديد من المؤلفات الأدبية منها في مجال الرواية “نصفي الآخر”، “زمن الشيطنة”، وفي مجال الشعر صدر له ديوان بعنوان “على مرمى غيمة”، صدر له نصوص بعنوان “على ضفاف القلب”، وصدر له مجموعة قصصية بعنوان: “العصافير تأتي باكرا”.

[3] ) حميد لحمداني، بنية النص السردي/ منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، ط3، 2000م:45

[4] ) توظيف السرد في الشعر العربي الحديث ، البردوني نموذجا، محمد صالح المحفلي، دار التنوير، الجزائر، ط١، ٢٠٠١، ص: ٢٦.

[5] ) نواعير، مفردها،( نَّاعُورَةُ ): وهي دولاب ذو دِلاء أو نحوها، يدور بدفع الماء أو جر الماشية، فيخرج الماء من البئر أو النهر. ينظر المعجم الوسيط، https://www.maajim.com

 

[6] ) ديونيسوس أو باكوس أو باخوس، من أشهر رموز الميثيولوجيا الإغريقية،  هو إله الخمر عند الإغريق القدماء وملهم طقوس الابتهاج والنشوة،و يعرف أيضا باسم باكوس أو باخوس ( ينظر:   https://ar.wikipedia.org   ).

[7] ) عبلة ثابت، البنيات التركيبية في الشعر الفلسطيني المعاصر، رسالة دكتوراه غير منشورة، جامعة عين شمس. ٢٠٠٩ ، ص: ١٧١ .

[8] ) سيزيف أسطورة يونانية، كان ملكاً عوقب بأن يدفع صخرة لأعلى الجبل, فقط ليراها تتدحرج إلى الوادي، فيعود لدفعها أعلى الجبل تارة أخرى، ويظل يفعل ذلك إلى الأبد، ويرمز سيزيف  إلى العمل الإنساني العابث، والعذاب الدائم. (ينظر: https://m.marefa.org ).

[9] ) جودو شخصية رئيسة في المسرحية الكوميدية المأساوي للكاتب صامويل بيكيت  “في انتظار جودو”، وهو شخصية ترمز للانتظار العبثي ، إذ إنها تُمثل  حالة الانتظار التي يعيش فيها الإنسان طوال حياته آملا في أن تتحقق أحلامه ومساعيه. (ينظر: https://mawdoo3.com ).

[10] ) يهوذا الإسخريوطي، هو واحد من تلاميذ المسيح – عليه السلام-، وهو الذي خان يسوع، وسلمه لليهود مقابل ثلاثين قطعة فضة، وبعد ذلك ندم على فعلته، وردّ المال لليهود، وذهب وقتل نفسه.

https://ar.m.wikipedia.org

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى