ثقافة

الحوار الروائي في أعجاز حب خاوية

الحوار الروائي في أعجاز حب خاوية للكاتب الفلسطيني محمود البسيوني

بقلم: أمل أبو عاصي/ كاتبة فلسطينية 

 

اخترتُ لغةَ الحوار لأنهُ حلبةٌ لتبادل الأفكار والمواقف والأيدولوجيات، وهو أحد صور التواصل الحجاجي الإقناعي بين الأطراف المتحاورة.

 

لقد حمَلَ الكاتبُ الحوارَ في عمومه في الرواية على التّبسيط اللغوي، ويبدو أن ذلك جاء على غير مقصد، ولكنه بعمق النص ينسحب على كلّ ما يمكن أنْ يغري للسفر مع اللغة.

في فاتحة الرواية نفاجأ بالاستهلال الحواري، الذي يشد القارئ، ويُسرِّع الحكائية، ويعرف بالشخصية.

والحوار يعد من أهم نقاط التحول التي يمر عبرها النص الروائي، باعتباره سردية ضمنية للتغيير، ويعرفه أرسطو بأنه (انقلاب الفعل إلى ضدهِ، وفقًا للضرورة والاحتمال).

وذلك من خلال وصول الأحداث عن طريق تحريك الفعل السردي إلى نقطة معينة، وأي دفع باتجاه هذه النقطة يحدث تغييرًا في مسار السرد، وسلوك الشخصية.

ومن هنا، فإن الحوار يقوم بإنشاء استراتيجية تهدف إلى تعرّف أبعاد التحول الدرامي داخل النص السردي من خلال تحبيك الأزمة. وهذا ما نجده في بعض المونولوج أو الديولوج.

انظروا مثلا إلى الحوار بين شهد ومحمود عبر الهاتف، حين أخبرته عن مرض والده، الذي لم يذكره في السرد، واكتفى بإطلاعنا عليه عبر الحوار.

ولنتأمل إفصاح منال عن سبب غيابها لمحمود في حوارٍ اختصر مسيرة أيام سابقة. وكذلك قصة حنان التي عرضت من خلال حوار نمرُّ عبره مباشرة إلى الحركة بهذا المستوى المتسارع جدا، وبقوة شلال عظيم وتيار قوي، لتلخيص أحداث سبقت في حركة سريعة تتآكل فيها الأزمنة  الماضية.

….

اعتمد الراوي على النواة، أو الفكرة الأساسية، لربط الشخصيات والأحداث (تقول آمال لمحمود: إنها متعبة كثيرا وأكثر ما يتعبها الحب الذي اختلط بسرطان جسدها).

إذن فالفكرة الأساسية هنا وقع بناؤها لابتداء الفعل السردي والعمل الحكائي.

وما يدعم قولنا هنا أن معظم الكتابات العظيمة والتي استندت إلى فكرة نواة؛ كانت ناجحة وخالدة.

فمثلاً الابتداء الحواري لمسرحية روميو وجولييت، هي فكرة بذرة كل ما فيها: وجوب انتصار الحب على الكراهية. بينما الحوار في روايتنا ينطلق من نواة أن الحب لا يكتب له الانتصار.

وليس معنى ذلك أن يلتزم المؤلف الروائي بأن يبدأ بالحوار ، بل يعني إنشاء فكرة بذرة بدأت بالنمو لتكشف عن الموضوع بأكمله.

 

يعكس الكاتب وجهة نظره داخل النص الروائي من خلال الحوار، على لسان البطل محمود: (إن المرأة لا تزينها دبلة في يدها، بل يزينها رداء يغطي جسدها، ويعلن للعالم أنها ملكة لمن اختارها).

وأقدِّر أن البسيوني نجح في اختيار الفكرة التي عبر بها من خلال الحوار، وهي فكرة ناضجة واضحة المعالم، سليمة التكوين، وما يؤسس لذلك بتقديري تلك الصياغة التي أعطت مساحةً داخل الحدث كي تكمل رسم الخطوط العامة للشخصيات.

يمتاز الفن الرفيع بحوارٍ يرقى بالواقع عن الحياة درجاتٍ، دون أن يُقصِّر في أدائه وتصويره.

إن الأديب الحق ليس مسجلًّا لكلام الناس على علاته كما يسجله الفونوغراف، بل إن من وظائف الحوار داخل رواية البسيوني أولا ورئيسًا الإشارةَ إلى مواطن الشخصية، وتفكيكَ الواقع، لا نقله.

..

ولاحظنا أنّ خاصية الحوار أخذت في الاعتبار وجود المتلقي أو القارئ، فجاء الحوار يتلمس طبيعة القارئ، مثالُ ذلك حديثُ البطل عن الحجاب مع منال، فعرض الكاتبُ موقفَ البطل، وموقف منال المخالف، وفي ذلك تلمُّسٌ ليس للقراء فحسب، وإنما لاختلافاتهم، وإن كانت أوامر الشرع ليست مما يمكن أن نختلف فيه.

والمتابع للحوار تشحنه اللغةُ الحوارية حينًا وتفرغه عاطفيًّا حينًا

فمتى برز الإيجاز في استعمال الكلمات والعبارة الدقيقة الموحية؛ كانت القوة في جودة الحوار وغائيته ومقصديته، يقول محمود: (الرضيع زرعٌ، والكبير حصادٌ، وقد أفسد العدو الزرع والحصاد).

ونلحظ ما في هذا الحوار من علاقة تقابلية، مع التكثيف والاختزال، وتداخلِ الذاتي والموضوعي، وشحذِ طبيعةِ التخييل السردي داخل متنِ النص، وإعمالٍ للفلسفة المقارِنة، وتوسيعِ دائرة المعنى بالعبارة، بالاعتماد على أسلوبٍ تتشظى فيه اللغةُ، وتبرز المفارقةُ لتحقيق توازن التضادات، وذلك سعيًا لترك البصمة الفنية البنائية والمعنوية في نفس المتلقي.

….

أبعاد لغة الحوار الروائي:‏

تلتبسُ لغة الحوار الروائي في بعض مفاهيمها وعلاقاتها، فهي ظاهرة لغوية وفنية، ولكنها سياسية وقومية أيضًا، ومن هذه الأبعاد:‏

1ــ البعد القومي:‏

فاللغة العربية هي سبيل الحفاظ على الثقافة والشخصية العربية، وقد أثبتت تجربة العرب في العصر الحديث أن اللغة العربية هي السبيل الأمضى إلى وعي الذات، ووعي الهوية، وأنها سلاح بيد الأدباء من أجل الأصالة في مواجهة الغزو وصنوف التبعية الواضحة والمُقنَّعة.

لقد ناضل كثير من الروائيين العرب ضد الازدواج اللغوي بفروعه: الفصحى، والعامية، واللغات الأخرى.

إن اختيار الفصحى وحدها للغة الحوار الروائي في رواية البسيوني هو ضرورة قومية وحضارية، مثلما هو حاجة فنية وتعبيرية.

ولم تكن القومية فقط في انتمائه للفصحى حوارًا، بل كانت حاضرة حتى في فكرة الحوار، كما في حديثه عن لبنان، واحتضنانها للاجئين الفلسطينيين.

2ــ البعد التراثي:‏

للأسف؛ “الأسلبة” هي الغالبة على لغة الأدب العربي الحديث، أي استلاب الأديب العربي الحديث أمام الغرب ولغته وعاداته، والمؤثراتُ الأجنبية هي المعادل الموضوعي لتفكير الأديب باللغة، فهو في تعامله مع تراثه يرى أنه مقيد بالثوابت، وقد اعترف بعض الأدباء العرب بحيرتهم أمام الأساليب الموروثة، إغفالًا أو جهلًا، أو تجاهلًا لإمكاناتها الهائلة في تحديث الإبداع العربي. ولا شك أن القضية تتعدى تجربة (الحرية) مع اللغة، إلى إعمال وعي الذات لدى الروائي. فليس هناك لغة تراثية واحدة، ولا أسلوب موروث واحد، وليس هناك لغة حوار روائي واحدة.

إن البعد التراثي للغة العربية مَعينٌ لإبداع الروائي، ورأينا كيف استفاد البسيوني من ذلك في الحوار العائلي عن طريقة زواج أم البطل من أبيه.

3ــ البعد الشعبي:‏

لا شك أن الإبداع برمته مرهون بينابيعه الشعبية، ومنها لغة التراث الشعبي كالأساطير والحكايات والأمثال، على أن التراث الشعبي نفسَه إنتاجُ مرحلته التاريخية.

إن أعجاز حب خاوية، وإن كانت لا تصنف من الأدب الشعبي، إلا أن البعد الشعبي لم يكن غائبا في الحوار، فثمة أدب شعبي هو تعبيرٌ عن قيمٍ مرفوضة؛ كالاستكانة والخمول والجبن والخوف وقبول الاستعمار والإرهاب والاضطهاد والقمع، وكثير من هذه المفاهيم كانت حاضرة في الحوار الروائي.

3- البعد الإيصالي:‏

ويتصلُ بقدرة اللغة على الإيصال، فاللغة ناقل للأفكار والمعاني والمشاعر، ولكنها ترهن محمولها الفكري والشعوري والعاطفي بخبرات متوارَثة ومتأصِّلة، تطبع الرسالة المنقولة بطوابع اللغة نفسها.

وقد كان البعد الإيصالي للغة الحوار الروائي في رواية البسيوني حاضرًا، فلغته جاءت موصلةً ناقلةً حاملةً للأفكار، شديدةَ الصلة بمستويات اللغة التي لا تتوافر للهجات العامة.

5ــ البعد الفني:‏

وهو بعدٌ خطير من أبعاد لغة الحوار الروائي، إذ باسم الحاجات الفنية يباح للمبدع صوغُ لغته في السرد والحوار، وهذا يفضي إلى الاعتراف بمكانة الكلمة في التعبير الروائي، وتوظيف المبدع للغة روايته.

وقد تناول هذا الجانبَ باستفاضة أ. محمد نصار، أقفز عنه منعًا للتكرار.

6- البعد الوطني والفلسفي:

وقد كان البعد الوطني حاضرًا في بعض أجزاء الحوار، تقول منال:

(غزة يا صديقي معقل الأشياء المختلفة، تجدك وأنت تقرأها من بعيد كأنك المثقف الوحيد الذي قرأ كل الكتب، وأضاف لقاموس معرفته معرفةَ الحياة من الولادة حتى الموت).

أما البعد الفلسفي فقد جاء على شكل فلاشات حوارية تشظى في الرواية، حاملةً معها بعدًا فلسفيًّا عميقًا، يصلح ليكون قانون حياة، تأملوا معي قول سعيد: ( أخرج نفسك من دائرة الطاحونة، فلا شيء داخل الرحى تخرج به إلا تآكل الأحلام في الدوران).

ختامًا

لقد سعى الكاتب إلى تقديم عناصرِ حوارهِ ناضجة واضحة، فوجدنا بلاغة دقيقة، وإيجازا وتكثيفا ظاهرين، وهو ما حفظَ طاقات التعبير وحافظ على تدفق المعاني.

وقد أدى الحوار الروائي في رواية أعجاز حب خاوية ثلاث وظائف: السير بالعقدة، وتقدمها أو تدرجها، والكشف عن الشخصيات.

كما ساعد فنيا وتقنيا على تلميع المسرود وتنويعه، لكن يبقى للحوار بالسرد الروائي وظيفة ضمنية تكمن في رسم الجو النفسي العام للرواية، وهذا من القيم الدراميكية التي يُخفق فيها كثير من الكتاب.

زر الذهاب إلى الأعلى