ثقافة

الخطاب الفلسفي في مسرحية “ادفنوا الموتى” لـ إروين شو (Irwin Shaw)

الخطاب الفلسفي في مسرحية “ادفنوا الموتى” لـ إروين شو (Irwin Shaw)

سمير أحمد الشريف- الأردن

“الأعمال العظيمة لا تموت”، هذا ما يتبادر للذهن من الوهلة الأولى والمتلقي يتشرَّب فكرة النص المسرحي القصير الذي أبدعه اروين شو، الكاتب الأمريكي في العام 1935 وفي فصل واحد فقط. طرح فيه نبوءته لما تنهض عليه الحروب من عذابات وويلات، لدرجة أنه اعتبر النص استقراء وإرهاصاً لما سيؤول عليه العالم، باندلاع الحرب العالمية الثانية.

لعمق طرح المسرحية تم اختيارها واحدة من أفضل عشرين نصاً مسرحياً في الأدب الأمريكي المعاصر، وتم تقديمها على المسارح الأمريكية والإنجليزية والإيرلندية عشرات المرات.

عاش كاتبها بعد نجاح مسرحيته، وانتشار آراءه فيها بعيداً عن وطنه، حيث كان من الكُتَّاب الذين أعلنوا رفضهم للحرب التي تقودها أمريكا ولسياسات قادتها؛ إدراكا منه ومن غيره من الكُتَّاب أن للقلم دور، وللأدب رسالة عليه أن يوظِّفها في إدانة دعاة الحروب والمستفيدين من إشعالها، داعين للسلام، مدافعين عن الحرية وحقوق الناس .

اللافت هنا أن اروين شو قد كتب مسرحيته وتشكل حسُّه الإنساني ووعيه السياسي ولم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره، كان خلال ذلك في سنته الثانية الجامعية وعاش أزمة العالم الاقتصادية التي تفاقمت آنذاك وانعكست سلباً على كل شعوب الأرض بما فيها الشعب الأمريكي، مستشعراً بحس إنساني عميق ما يهدد العالم من ويلات وكوارث جرَّاء الحروب.

يدور النص المسرحي زمنياً في بداية السنة الثانية للحرب الكونية، داعياً للسلام والامتناع عن المشاركة بأي حرب.

نجاح المسرحية وانتشارها تحقَّقَ لأسباب كثيرة أهمها أن خطابها ساخر وعنيف، يمثل صرخة بوجه تجار الحروب ومن يعتاشون على ويلاتها، ناهيك عن الحس الإنساني البديع الذي تكتسي به حواراتها ومواقف شخوصها. يلفت في بناء المسرحي الفني غياب التقسيم المعتاد من مشاهد وفصول، بل جاء النص متتابعاً من أوله حتى نهايته مستعيضاً عن نظام المشاهد ونهاية الفصول بحركة الأضواء والإظلام، وتوظيف الكشافات والتحكم بألوانها، وتلك ميزة نادرة ساعدت الكاتب على الانتقال من مشهد لآخر، وتبنِّي نمط فني جديد ليقترب به من تقنيات السينما وينأى به عن الاشتباك مع النمط التقليدي المعتاد فنياً ولم يشتغل عليه غالبية كتَّاب المسرح، ومن هنا فتمثيل هذا النص وتجسيده على المسرح يحتاج لمسرح حديث مزوَّد بالتقنيات الحديثة، ومخرج يستطيع إدارة الممثلين بناءً على هذه التقنية.

المسرحية بمجملها تدور حول فكرة رئيسة، وهي: “رفض الحرب”، ممثلة بستة جنود لاقوا حتفهم لأنهم يرفضون عملية دفنهم، كأنهم يعلنونها صرخة وعي جديد ضد حروب تصادر إنسانيتهم وتدافع عن الظلم الذي حاق بهم، وضد مهندسي الحروب والمخططين لها من خلال انتفاضة ستة جنود ينهضون بعد الموت، ولهذا اعتبرت المسرحية من أعنف الاتهامات التي قيلت فنياً ضد الحروب.

هذا النص الواقعي السريالي الفنتازي الساخر يرتفع فيه بوضوح حس وطني مخلص وإحساس بالمسؤولية تجاه الذات الآخر، نص معبأ بمساحات إنسانية ونقدات سياسية كثيرة، كتبها مؤلفها مندداً ومعترضاً في نص يحتوي الكثير من التأثير لدرجة أن نظر النقاد إليها إرهاص نبوءة للحرب العالمية الثانية.

أسئلة كثيرة تطرحها المسرحية لعل في مقدمتها: مَنْ المستفيد من إذكاء نيران الحروب، والمستفيد الرئيس منها؟ ألا يكفي هذا السؤال للالتفات للإنسان؟ ألا تعتبر دعوة للتمرد على كل المنتفعين المتاجرين بمصائب البشرية؟

هذا النص الذي لا يبلى مع تقادم الأيام؛ لأنه يعالج موضوعاً إنسانياً يخص الناس في كل وقت يفضح ويعرِّي الأنظمة التي تدفع بشبابها لتحقيق مكاسب سياسية باسم الوطنية، وتكشف اللثام عن التفكير الساديِّ العقيم لدى الساسة الذين يعملون المستحيل لوأد بؤرة أيِّ تململٍ أو تمرُّد أو محاولة نهوض، حتى لو جاء من موتى!

على الجانب الآخر فالنص يحمل خطابه الفكري الفلسفي الذي يدل على وعي وتميز شاب في سن العشرين، ومَنْ يطالع النص يقف أمام الكثير من هذه الإشارات الفلسفية مثل “لا أخشى الموت بل أخاف أن أموت بلا ثمن …، هاك سلام أعمق وأصدق من هذا الذي لا يتحقق إلا بأن نكون خلاله طعاماً للدود وجذور النبات…، ما الذي يمكن أن يكون مقابلاً لروح إنسان أُزهقت دون أن يستمتع بحياته كما يليق…، في الحرب لا يموت الجنود في سبيل الأوطان بل من أجل بضعة نياشين ملونة يزرعها على صدورهم جنرالات تافهون….، الجنرالات والكبار يخططون، والصغار من يدفعون الثمن … الوطنية يُدلل عليها بالدم أكثر مما يؤكد عليها بالإخلاص للعمل والاستماتة للبناء والوفاء بالوعد والعهد واحترام الآخر…، هل يموت الجنود من أجل الحفاظ على الوطن أم للحفاظ على رُتَبِ الجنرالات؟
دعاة الحرب لا يقفون في صفوف المعركة ولن تمسهم رصاصاتها ولن يفقدوا بالتالي قطرة دم…..، قد يموت الإنسان وهو سعيد ويُدفن وهو راضٍ إذا مات في سبيل نفسه أو لسبب يهمه هو.

من وحي بشاعة الحرب وأثرها المدمر على الأفراد والحكومات والشهداء وعوائلهم، ومن أجواء الحروب والموت والقتل والمتاجرة بمصائر البسطاء؛ كتب اروين شو نصه ليكون شاهداً على بشاعة البعض، وقدرة وتصميم البعض الآخر على رفع الصوت عالياً ضد الظلم والظالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى