ثقافة

الروائي محمد نصار يكتب: يسرى الخطيب في مدينة العناكب

الروائي محمد نصار يكتب: يسرى الخطيب في مدينة العناكب

عنوان يحمل الكثير من المعاني والدلالات، فرغم أنه عتبة من عتبات النص، التي تفضي إلى المتن الروائي وما يحمل من مضامين، إلا أنها عتبة مشرعة على الكثير من التأويل، بما تحمل من تناص قرآني يشي بما بعده “وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت” العنكبوت”، توصيف دقيق لتلك المدينة “غزة “، التي يجري الحديث عنها في العمل الروائي، الماثل بين يدينا، فمن المعروف علميا، أن خيوط العنكبوت قوية جدا ومتينة على نحو لا يتخيله أحد، حتى أن بعض الدراسات قالت: لو أنه تم تصنيع حبل منها بحجم الأصبع، لاستطاع حمل طائرة جامبو، لكن المراد بالوهن هنا هو البيت وما حوى بداخله، فلقد تبين بعد متابعة لحياة العناكب، من أجل فهم مرامي الآية القرآنية، أن أنثى العنكبوت تقتل زوجها بعد التزاوج ومن بعد يقتل الأبناء بعضهم بعضا من أجل الطعام ومن ثم يقتلون أمهم، حالة تشبه إلى حد كبير حالنا في هذه الأيام وفي هذه الفوضى التي تعم أرجاء منطقتنا، بحيث صار الرجل يقتل ولا يدري فيما قتل ويقتل لا يدري فيما قتل ونحن في غزة لسنا ببعيد عما يجري حولنا وإن كانت لنا خصوصية الصراع المباشر مع العدو والتي من المفترض أن تشكل لنا حرزا واقيا أمام هذا البلاء، إلا أننا لم نلتفت لذلك.

مدينة العناكب رواية صدرت حديثا للكاتبة يسرى الخطيب، عن مكتبة سمير منصور بغزة وتقع في ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط وتتناول في مجملها قصة شاب مناضل “شريف” من اسرة لها تاريخ طويل في هذا الباب، جرى اعتقاله في ظروف غامضة من الجهات الحاكمة في غزة وبعد عام من اعتقاله، يعلن عن وفاته في ظروف يكتنفها الكثير من الشك والغموض، الأمر الذي ينعكس سلبا على حياة العائلة وسمعتها، لتبدأ من بعدها رحلة البحث عن الحقيقة التي يقودها عز الدين، الذي تعرض للإصابة من قبل في إحدى قدميه، ثم من بعد يأتي يوسف الذي ترك حبيبته وابنة عمه” مجد” في بلاد الغربة وعاد للبحث عن الحقيقة ونزع ثوب العار الذي ألصقوه بهم.

تبدأ الكاتبة بحيلة ذكية، لكي تنأى بنفسها عن أية تبعات، قد تترتب على المضمون الشائك والمعقد والخطر ايضا، الذي تناولته، بالزعم أن الرواية ليست ملكها وليست من كتبتها وإنما هي وصلت إليها عبر البريد الالكتروني، من فتاة لم تفصح عن اسمها، لنكتشف فيما بعد أنها آسيا الفنانة الرقيقة، التي دفعت ثمنا باهظا جراء ما وقع للعائلة، حيث تخلى عنها دكتور الجامعة الذي وعدها بالتقدم لخطبتها وتركها تعاني أحزانها وصدمتها من ذلك الفعل، إلا أنها بجلدها وقوة إرادتها تخطت تلك العقبة وواصلت حياتها، بتصميم أشد لكشف حقيقة مقتل ابن عمها، حتى أنها رفضت السفر إلى الخارج والمشاركة في معاض دولية للرسم، من أجل تحقيق ذلك الهدف.

هذا الواقع المأزوم الذي تعيشه الأسرة والمحاصر بالكثير من الشك والريبة وكثير من العيون التي تراقب وتتبع الخطى والأنفاس، من أجل كبحهم عن الوصول إلى الحقيقة، جعل كل منهم داخل العائلة ينظر إلى الآخر بعين الريبة والشك وأحيانا كثيرة بعين الخوف، ربما ليس خوفا منه ولكن خوفا عليه، لدرجة بدأوا بعدها بالحرص الشديد في الحديث فيما بينهم، إذ لم تعد تلك الصراحة السابقة والعفوية التي اعتادوا عليها، بل صار التكتم سيد الموقف ومراقبة بعضهم بعضا في كل صغيرة وكبيرة وباتت الانطوائية طبعا يلازمهم، حتى صار البيت سجنا وجحيما لا يطاق وأشبه ما يكون ببيت العنكبوت، حتى اهتدت آسيا إلى وسيلة تمكنها من توثيق ما حدث والبوح بكل مخاوفها وشكوكها، من خلال عمل روائي، قد يصل يوما إلى شريحة اوسع تشجع من يخشون قول الحقيقة على قولها وتسهم بشكل ما في رفع الضيم عنهم، استحسنوا جميعا الفكرة وبدأوا بسرد حكايتهم وتكفلت هي بنشرها مهما كلف الأمر، حتى وصلت للكاتبة التي تكفلت بنشرها .

تبدأ الرواية بفصل معنون ب ” سري للغاية ” وهي تتحدث فيه عن وصولها، إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب، لتجد روايتها هناك ” مدينة للعناكب “، ثم تبدأ بالتذكر والحديث قائلة: منذ عامين تواصلت معي فتاة لم تفصح عن اسمها وكأننا نتداول حديثا سريا غامضا، حاورتني بطريقة مراوغة، قالت كل شيء ولم أتيقن من أي شيء، لأدرك أننا نتحدث عن أمر خطير يحتاج للكتمان التام.

ثم تبدأ بعدها الكاتبة بالحديث عن الشخصيات وفق الترتيب الذي وصلها وكأنها لا علاقة لها بالأمر، فتبدأ ب “مجدولين” التي ولدت لأب فلسطيني وأم بريطانية، عاشت طفولتها وصباها مع أمها في بريطانيا، لكون امها لم تحتمل العيش في مدينة العناكب، فانفصلت عن والدها وعادت إلى بلادها وبعد حين عادت مجد إلى أبيها، طبعا الكاتبة في هذا الفصل تخوض في تفاصيل التفاصيل، المتعلقة بحياة مجد وحتى اختيار اسمها، ثم تأتي بعد ذلك على أسدود أختها التي تلقبها بالصندوق الأسود لشدة كتمانها وهكذا دوليك مع باقي الشخصيات، الجدة والعمة ويوسف وعز الدين وآسيا.. بتفاصيل التفاصيل وإن كان لي من مأخذ على الكاتبة، فهو إسهابها في سرد كافة التفاصيل عن كل شخصية، رغم تشابه بعض المواقف والظروف، التي لا تلزم الكاتبة بإعادة سردها مع كل شخصية .

جاءت الرواية مفعمة بالكثير من المواقف والأحداث، التي تجسد واقعا قد لا يكون أقل وهنا وتعقيد من بيت العنكبوت، الاسم الذي اختارته الكاتبة بحنكة وذكاء، كذلك جاءت بلغة سليمة حرصت الكاتبة، حتى على تشكيلها في بعض المواقف وبسرد شيق رغم طوله في بعض الأحيان وبجرأة يأبى الكثير منا الخوض فيها نظرا لتبعاتها.

بيت العنكبوت عمل روائي جميل، لكاتبة تملك زمام القلم ونضج الفكرة وجرأة التعبير عنها والقدرة على إيصالها، شكرا للكاتبة مع تمنياتي بدوام التوفيق والإبداع.

زر الذهاب إلى الأعلى