الشاعرُ الفلسطينيُّ أنور الخطيب وصلاة الحمام

الشاعرُ الفلسطينيُّ أنور الخطيب وصلاة الحمام
ناصر عطا الله ـ شاعر فلسطيني
الخوضُ في مستوياتِ الألمِ عند الشاعر أنور الخطيب قد يتجاوزُ المنسوبَ المهتدى إليه عند غيرِه، ليس من عدمِ رضى بما حل به كشاعرٍ يعيشُ هذا الألم بتفاصيلَ كثيرةٍ، وبعمقٍ شعوريٍّ يكادُ يكون سحيقًا في كثيرٍ من محطاتِ عمره، خاصةً تلك التي كونتْ وعيَه بعد هجرةِ أسرتهِ من الوطنِ إلى لُبنان، وما لبنان للفلسطينيين على أغلبهم سوى مخيم محاصر بالبؤسِ والفقرِ وكتمانِ الفرح بل لأنه يعيشُ حرمانَ الوطنِ كقضيةِ وجود، ومدبراتُ التعايشِ خارجه ليست اختيارَه ،بل اضطرارُ المتنفسِ بخرطومِ هواءٍ متصل بأسطوانةٍ مصنّعة، وما حياته الحقيقية إلا بهواءِ وطنِهِ على امتدادِ رقعتِه.
ولعميق قاعِ الوجعِ عند الذاتِ الشاعرة، يساوي أنور الخطيب بين الوطنِ البعيد المفقود، وتمنيه والسعي إليه واصطياد الخطوة اتجاهه، وبين تعاطي الأفيون كجريمة ومستنكر بتصريف موازين الغير فيه.
وأن تكون شاعرًا وغريبًا، أن تقاومَ الانتحار
ليفتحَ بابَ أوجاعِه شعرًا على سيرةٍ مريرةٍ يتجرعُ فيها الهزيمة! .
ولكنه يبني أبراجَ المنى عاليةً رغم حلكةِ الدروب ويطلبُ صراحةً مقايضةَ الشعرِ بالوطن، وكأنه يقول لو لم يكن وطنُه سليباً لما كتب الشعر، أي أن شعرَه مجبولٌ بمرارةِ فقدِ الوطن وحرمانِه ،فيقول:
خذوا كلَّ الشعر يا سادتي
وامنحوني ساعة
أطاردُ فيها فراشةً في وطني..
ولا يقفلُ الشاعر أنور الخطيب علاقتَه مع الشعرِ على بوابةِ الجرح، بل يسايرُه إلى أن يجعلَه أسلوبَ حياة؛ لمناهضةِ اليأس والركونِ إلى التسليم، فيجعل من كل مواجهةٍ مع المحتل، صنعةَ كرامة، وردَّ اعتبارٍ، فيقولُ في معرضِ رسالةٍ شعريةٍ وجَّهها إلى غزة :
غزة أنثى نعم، لكنها
حين يدوسُ الغزاةُ الزناةُ وردها
تشق صدرَها فيخرج الشهداء
ممتشقين الحياة يقاتلون..
ومواجهاتُ الشاعرِ لم تنحصرْ بصمودِه الشخصي أمام النكبة والمعاناة والهجرة وشغف العيش وصفيح المخيم، بل يعيش مواجهاتٍ خفيةً ربما تكونُ أشرسَ من تلك الظاهرة، وهي مواجهاتُه مع النفس؛ لتعويضِ الوطنِ والحياةِ الطبيعيةِ وحتى المصير ،وهذا ما نجدُه في نصه” آيتي أن أكلم الناس”، حيث يقول:
آيتي أن أكلمَ الناس من شرفة الضوء
أبعثُ فيهم دمي
أسربُ صوتي لطفل
تلعثم في يوم جمعة
تنهد في يوم أحد
قطعوه
ونادوه فلم يأتِ أحد
آيتي أن أوقظَ الطفلَ في كهفه
وإن لم يفقْ
أوقظ الكهف في طفله
وإن لم يفقْ
أعيدُ الطفلَ إلى رحمه
مبتهلاً: مدد يا أناي مدد..
وفي جلجلةِ الشاعر السابحة في مجموعتِه “صلاة الحمام” نجدُ الحنين والشوق والذكريات والوطن والمنفى والدوزان والأم والماء والسراب والليل والخيل والصوت والدار والغناء والمرأة والقلب والناي والمرايا والسفر.. إلخ، وهي مفرداتٌ شكلت معجمَه الشعري، ورسمتْ صورَهُ البليغة في العبارةِ، وأدت الرسالة.
ولم يتأخر الشاعرُ بحملِ باقاتِ وردٍ شعرية للغائبين؛ ليستحضرَ أيامَهم ،ويؤكدَ على أنهم غرسوا فيه الكثيرَ من المعاني، وخاصة والدته- رحمها الله- التي توزعت النصوصُ المعبرةُ عن علاقتِه بها ،وما فعله حرمانه منها، ولا يقلُّ أثراً أليمًا عن حرمانِه من الوطن، نافيًا سنةَ الكون في الأموات إذا غادروا الحياة أن يعودوا، ولكنه هنا يقول:
أنت عودي فقط
وامخري الحياة ثانية سأكون مرساتك
أسمع في العمق ما تحكينه عن رجل طفلٍ يغافله ماءُ عينيه يهرب كلما مررت في حروفه كما يمر الرب في صلواته
أنت عودي فقط
ماذا سيحدث لو لم أزر بيتك الرخامي ولم أقل تعالي نعود..
ومثل هذا ما كتبه عن سميح القاسم، ورامز منصور، ومحمود درويش،وإلى شقيقته نهلة، والشهيدة إيمان حجو، وأم محمد فرحات، بمستوى أخف وجعًا وأقل مرارةً، وهذا طبيعي، فالشاعر عند أمه يرجع طفلاً، وعند غيرها يكون الشاعر ندًا مهما كان الغائب كبيرًا، ولم تخْلُ قصائدُه من صور الوفاءِ للأحياء، فكتب للشاعرة اللبنانية ربى سابا ،وللإعلامي الصديق أحمد زكارنة الذي أمّله بزيارة إلى فلسطين فيقول له:
هل قلت لي يا صديقي
سيحملني الله إليها ثم يحملها إلي
وسنلتقي ذات دمعة
في الطريق المؤدي إلى رحمها؟
هل قلت لي ستمسح كفها قصيدتي
وتزيل عن إيقاعها تفعيلة الغبار؟
وهناك ما يقال في قصيدة “صلاة الحمام” التي منحها عتبة المجموعة، وأوسمها عنوانًا جامعًا لمجموعته في دلالةٍ واضحةٍ وجامعةٍ عن سعيِه الدؤوب للطمأنينة
( الصلاة) والسلام ( الحمام).
وأما عن الحب فالشاعر مرهفُ الإحساس متكتنزُ العواطف، يلقي قلبه قطعةَ خبزٍ للعشيقات ،فيقول في “لو مرت بك امرأة حيّها”
لو مرت بك امرأة أو مررت بحيّها
حيّها
ونادها باسمها وقل لها
ما يقوله الصباح إذ يلاطف طيفها.
ونجده هنا بولهٍ متدفقٍ و طافح وكأنّها سومطريةٌ صافية، وفي هذا تماماً ما يعيشه الشاعر من وجدانياتٍ نقيةٍ تؤشر إلى أن المعاناةَ رغم سماكتِها وطولِها وجميعِ أوجاعها ومراراتِ عيشِها لم تنلْ منه كإنسانٍ طبيعيٍّ يحبُّ ويعشقُ ويتأملُ ويفتحُ النوافذَ للغد.
الشاعر أنور الخطيب من نخبةِ الشعراء الفلسطينيين الذين سطروا رسالتهم إلى الدنيا شعرًا ملتزمًا وإنسانيًا، وبعثها مستمرٌ إلى أن تتعبَ اللغةُ إن تعبت، أو يصطاد حلمه الأجمل بالعودة إلى وطنه وقريته العكاوية شعب.
“صلاة الحمام” مواليد دار تجوال للطباعة والنشر والتوزيع بطبعتها الأولي، تضمنت 64 نصًا شعريًا مسكونة في 178 صفحة من القطع المتوسط، والغلاف للفنانة صفاء عامر لحمامة على عمود مقطوع أمام البحر وكأنّها تنتظر العودة.
والشاعر من مواليد لبنان، هاجرت أسرته بعد نكبة 1948 من عكا، وفي لبنان درس الشعر مراحله التعليمية الأساسية، واستكمل دراسته الجامعية في جامعة قسنطينة الجزائرية، وغادرها للعمل في الكويت، ومن هناك استقرَّت إقامته بين إمارة أبو ظبي في دولة الإمارات، وبيرت في لبنان، وتتسم مسيرته الأدبية بالتجريب البديع، والبعيد عن التكرار الشاحب والتقليد الممل، وكما حسن إبداعه في الشعر، استحسنه إبداعًا في الرواية والقصة والمقال الأدبي، فصدر له 16 رواية، و3 مجموعات قصصية، و9 مجموعات شعرية، يضافُ إليها كتابٌ جمع فيه مقالاتِه في أدب المرأة في الإمارات.