الشاعر الذي أحياه الظلم وقتله

الشاعر الذي أحياه الظلم وقتله
صفاء حميد- اليمامة الجديدة
قد يأتي شيطان الشعر مبكراً وقد لا يأتي أبداً، لم يعرف أحد على مرّ التاريخ كيف تولد الموهبة الشعرية، رغم أنّهم عرفوا كثيراً عن وسائل صقلها وتطويرها.
قديماً نسبت العرب الموهبة الشعرية إلى الجن فقالوا إن شعراء الجنّ يسكنون وادياً يقال له وادي عبقر فمن زار هذا الوادي من البشر، لاحقه شاعر من الجن فلقنه شعره، لكن شاعرنا لم يزر وادي عبقر، وبلم يعرف ماذا يعني الشعر حتى، ولا كان قد قال كلاماً موزوناً من قبل.
لكن الظلم قوة عظمى، طالما صنعت البشر، وصيّرتهم في مصائر لم يكونوا ليتخيلوها من قبل، صنعَ الاشرار الظلمَ ليقصموا فيه الرّقاب، فقامت رقابٌ تحوّل الظلم لأراضٍ تعتليها نحو مجدها الشخصي، لا يخلو التاريخ من شخصيات خلقها الظلم وحده، دون معونة من أي عاملٍ آخر، كما لا يخلو التاريخ من شخصياتٍ قتلها الظلمُ وحده دون معونة من أيّ عامل آخر.
كان عبيد بن الأبرص فتى فقيراً يرعى الأغنام ويأكل قلبه والسماء حين تضيق به الدنيا عن قوت يومه، لم يكن يعرف ما الشعر ولم يكن يقوله، لكنّه ذهب ذات يومٍ إلى مصيره بقدميه.
ذهب ليسقي قطيعاً صغيراً من الماشية برفقة أخته، فعاد من مشواره شاعراً.
منعه الرجال عن الماء وظلموه، ولمّا كان أصغر وأضعف من أن يدفع الأذى عن نفسه وأخته، لم يملك غير أن يدعو الله على الرجل ويطلب منه أن يعينه عليه، لكن جمرة الظلم التي نزلت في قلبه أبت أن تهدأ، ظلّت تحرقه حتى كادت تأتي عليه، وغفا ليلته ينتظر من الله نصراً.
لكن الله لم يبعث له جيشاً سماوياً، ولا بعث له بسيف من نار، ولا حتى أرسل بلاءًا على الرجل الذي آذاه، لم يكن ذاك زمناً للمعجزات، لقد كان زمن الشعر والكلمة لذلك أرسل الله له رؤيا، أتاه فيها رجل يحمل كبّة من الشعر ويلقيها في فمه.
لم يفسّر عبيد بن الأبرص المنام، فقد فسّر له المنام نفسه، حين قام منه يرتجز شعراً ولم يكن قبل ذاك يقول الشعر أبداً.
ومنذ ذلك الحين لم يتوقف عن قول الشعر، حتى صار من أعلام الشعراء في الجاهلية، وصار لسان قومه في كل محفل وصدح شعره ليبلغ كل أفق متاح وكل مكان محيط، بل وألحقت قصيدة له بالمعلقات فخلّدت بالاسم واللفظ لتظل تتردّد بعده سنوات طوال.
عاش عبيد بن الأبرص بالشعر، انتشله الشعر من تحت أثقال الظلم إلى فسحة الحياة، فصار بعد فقر غنياً وبعد ذلّ عزيزاً، وبعد حاجة قوياً ومانحاً.
وكما ذهب إلى حياته دون أن يدري، ذهب إلى موته، حين أقبل على النعمان بن المنذر ملك الحيرة العظيم، المهووس بقتل من يفِد إليه في يوم دعاه يوم البؤس.
فلم تشفع له سنوات كثيرة يجرها خلف ظهره، ولا شفعت له أشعار بلغت أقاصي البلاد، ولا شفعت له رؤياه مرة أخرى، فقتله الظلم أخيراً وأنهى سيرة شاعر كان قد خلقه بنفسه ذات يوم.