ثقافة

الشخصيات بين الواقعية والسحرية: دكتور عبد الرحيم حمدان

الشخصيات بين الواقعية والسحرية

رواية (عمو القزم) لخلوصي عويضة أنموذجاً

بقلم د. عبد الرحيم حمدان

تمهيد:

    تمثل الواقعية السحرية إحدى التيّــارات الحديثة في کتابة الروايــة ونقدها، ولمعرفة طبيعة هذا التيار يجدر إدراك مفهوم كل من الواقعية والسحرية.

    يقصد بالواقعي هو ما يجري من أحداث على أرض الواقع، أما السحرية، فهي استعمال عناصر سحرية خيالية غير واقعية في بناء العمل الأدبي، ويأتي بعد ذلك الجمع الدقيق، والمزج  المتوازن بين ما هو واقعي وبين ما هو سحري ذهني وخيالي، بحيث لا يمكن الفصل بين إحداهما عن الآخر بسهولة، وذلك عن طريق استخدام تقنيات وأساليب وعناصر حداثية متقدمة، ومن هذه العناصر: السحر، والأسطورة، والمعتقدات الشعبية، والتقابل والازدواجية، والوصف، والتعبير الشعري عن الواقع، والمفارقات، والغلو المبالغة، والحوار الداخلي ، ويأتي ذلك في العمل الأدبي بدرجات متفاوتة؛ وبذلك يسهل قبول الرواية، واقتناع القارئ بها؛ لما لها من أثر بالغ في سرد أحداث الرواية.

   تعد رواية (عمو القزم)  إحدى روايات الكاتب خلوصي عويضة([1])، صدرت نسختها الأولى في مدينة غزة عن مكتبة اليازجي عام ٢٠١٩م،  وهي تقع في أربع مئة وست عشرة صفحة موزعة على أربع وعشرين جزءاً غير معنون، وكأنها بذلك تتحرر من ربقة التحديد؛ لتسلم نفسها لعنوان رئيسي هو (عمّو القزم) الشخصية المحورية في هذه الرواية الذي يتقاطع فيها الواقع والخيال في تماهٍ متناهٍ.

جاءت الرواية في طبعة أنيقة ومرتبة من الورق الأصفر الواضح، يحمل الخلاف الأمامي صورةً للقزم (ماهر) مثبتة على خلفية ذات لون برتقالي رائع،  ومن الجدير ذكره أن هذه الرواية هي الخامسة في مسيرة الكاتب الروائية.

ملخص الرواية:

    تتناول رواية (عمو القزم (سيرة ذاتية لأحد الأقزام يدعى (ماهر القزم) الذي ينتمي إلى شريحة مهمشة في المجتمع هي شريحة الأقزام، وتحاول الرواية أنْ تعبر عن رؤية هذه الفئة إلى المجتمع، وتسبر أغوارها؛ لتكشف عن أبعادها النفسية، وفيما تختلف فيه عن سائر فئات أفراد المجتمع.  

    وكان هذا القزم يعاني من قصر بنيته الجسدية ونحافته؛ الأمر الذي ولد في نفسه إحساساً عميقاً بالدونية والنقص يقول عن هذه الحالة:

” …ويغشاه إحساسُ ألمٍ، يتبعه حقدٌ تجاه من احتاج لأشرئب بعنقي وأرفع جاهداً رأسي حين أخاطبه”(رواية عمو القزم ص8 ) .

جرت أحداث هذه الرواية في حي شعبي من أحياء مدينة غزة، في منتصف الستينيات ونهاية سبعينيات القرن الماضي، وكان أبوه قزماً يعمل بإحدى دول الخليج العربي، أرسله أبوه خجلاً من المجتمع الخليجي؛ ليعيش في كنف جدته لأبيه. تميز ماهر بالذكاء والتفوق، وعمل لضبط حسابات بقالة التاجر أبي أحمد؛ لما اتصف به من ذكاء وحنكة وفطنة وأمانة.

 لم يرغب ماهر القزم في إكمال مسيرته التعليمية تجنباً لسخرية المجتمع واستهزائه، ومع مرور الوقت أخذ يقتنع بدوره في المجتمع، فأصبح مسئولاً عن تسيير أمور أسرته، ونجح في استثمار ما يتمتع به من ذكاء في انتشال نفسه من مأساة شعوره بالنقص والدونية، فأنشأ بالشراكة مع أمه( إلهام) روضة للأطفال؛ لتكون الوجه المشرق لحياة جديدة. يقول ماهر القزم في مفتتح سيرته الذاتية:

 “مفتوناً بالأحجام الكبيرة ولدتُ، ومع النمو والنشوء بدأتُ أُستثار وأتأثر بالأعضاء البشرية الضخمة، فمثلاً لا أدري كم من السنين انسلتْ منسحبةً من رصيد العمر قبل أن أدركَ أنْ لا علاقة بين كبر حجم الرأس ونشاط العقل” (رواية عمو القزم ص: ٥ ).

  عالج الكاتب في هذه الرواية قضية اجتماعية مهمة وهي قضية الأقزام، فهو يغوص في قضايا مسكوت عنها، لم يتطرق إليها كاتب من قبل.

وقع الاختيار على عنصر الشخصيات دون غيره من العناصر المكونة للخطاب السردي في الرواية؛ لأن مظاهر الواقعية السحرية تتجلى في ملامحها بصورة واضحة بادية القسمات.

   تمثل الشخصية مكوناً وعنصراً اساسياً من مكونات العمل الروائي، وهي تتقاطع مع عناصر العمل الروائي الأخرى في بناء نسيج النص الروائي، وتؤدي الشخصية في الرواية – محل الدارسة – دوراً بارزاً؛ بوصفها البؤرة والنواة الجوهرية التي يتمحور حولها مختلف الأحداث في الرواية.

ويجب التنبيه على أن السحرية والخيالية لا تحضر في الكتابة الروائية على نمط واحد، وإنما تتواجد في أنماط متعددة؛ وَفْقاً لاستخدام الكاتب لعناصر هذه السحرية من سحر وتناصات مع الموروث العربي، ولغة تعبر عن الواقع بالشعر توظيف التراث، وشخصيات الرواية جميعها واقعية عادية مألوفة، ولكن الكاتب أضاف إليها بعضاً من السمات السحرية الخيالية واللاواقعية، وغير المألوفة في عملية مزج وتزاوج بين ما هو واقعي وآخر سحري خيالي بأسلوب متقن ودقيق؛ لثير دهشة المتلقي وتعجبه، ويدفع عنه الملل والرتابة.

    ويمكن تقسيم الشخصيات في هذه الرواية قسمين :الشخصيات الرئيسة(المحورية)، والشخصيات الثانوية(الهامشية).

أولاً – الشخصيات الرئيسة( المحورية) :

     تعد الشخصية الرئيسة العصب الحيوي الذي يُسند إليه دور البطولة في الرواية، فهي لا تغيب عن أي عمل سردي، ولا يمكن الاستغناء عنها،” فطبيعة النص الروائي تفرض شخصيات تقوم بدور رئيسي في إنجاز الأحداث ويطلق عليها الشخصيات الرئيسية في الرواية”([2]) .

وهي العنصر الأساسي التي تنهض بتحريك مجريات الأحداث، وفي رواية (عمو القزم) تتوافر شخصية البطل (ماهر القزم)، وهي شخصية رئيسة واحدة.

 قدم الكاتب للمتلقين ملامح شخصية (ماهر القزم) في صورة واقعية عادية مألوفة، بأبعادها المتنوعة، فهو شخص قزم أي: قصير القامة، ذو ذكاء وتفوق، يمتاز بالنشاط والحيوية والذكاء والفطنة وحسن التصرف،  كان يجنح في سلوكه للوحدة والانطوائية، قصر القامة جعله إنساناً حقوداً على الناس؛ لأن الناس ينظرون إليه نظرة استهزاء وسخرية بالرغم من تفوقه في المدرسة، يقول  مفتخراً عن تفوقه على أنداه في المدرسة: 

إذ وجَّهْتُ صفعةَ ظفرٍ لكل تلاميذ المدرسة وأولاد الحارة، فأَعلنتْ نتائجُ المدرسة أنَّ القردَ المسخوط كما كانوا يتغامزون ضاحكين ومتهكمين من قصر قامتي، والسحلية ساخرين -ببشاعةٍ- من نحولي هو الأولُ على جميع الفصول، وليس فصلي فقط”(رواية عمو القزم، ص٢٥).  

 وقد أشار الروائي إلى شتى أبعاد شخصية البطل الخارجية والداخلية والاجتماعية، فركز على البعد الخارجي المادي المتصل بتركيب جسم الشخصية أي: المظهر العام لاسيما سمة القزامة.  والبعد الداخلي الذي يتعلق بالأحوال النفسية والفكرية للشخصية، وما ينتج عنها من سلوك، أما البعد الاجتماعي، فيتعلق بالظروف الاجتماعية والمركز الذي تشغله الشخصية في المجتمع .

ولكن الكاتب لم يقف عند رصد هذه المفردات الواقعية في حياة البطل، ذلك أنه إذا اقتصر على نسخها لا يعد عمله عملاً فنياً، ولا يأخذ صبغة الأدب، ولكنه مزج هذه الملامح الواقعية المألوفة بعناصر سحرية خيالية غير واقعية؛ الأمر الذي جعل من شخصية البطل شخصية روائية تحمل سمات فنية جمالية، قادرة عل جلب انتباه المتلقين واهتمامهم، وتحقيق الإمتاع وإثارة الدهشة.

وتبرز دلالة اسم البطل (عّمُّو القزم) كمؤشر على انفتاح الدلالة واتساعها، فاسم الرواية (عّمُّو القزم) يشي بسمات البطل الواقعي السحري، فعمو توحي بالاحترام والتقدير، والقزم توحي بشريحة من شرائح المجتمع المهمشة  التي يحاول البعض إقصاءها عن المشاركة في حركة المجتمع، وإضاعة حقوقها المستحقة، أما اسم البطل ماهر، فيوحي بالمهارة والحذق وحسن التصرف والخبرة في تطوير العلاقات المجتمعية والمشاريع.

وفي رواية عمو القزم، يلحظ القارئ ملامح الواقعية السحرية بدءاً من العنوان، فقد جاء العنوان في كلمتي (عّمُّو القزم ) مكثفاً يمثّل أعلی اقتصاد لغوي ممكن([3])، وهذا العنوان دعوة للإبحار في عالم هذه الشخصية ومكنوناتها، والبحث عن دواخلها النفسية، وسبر أغوارها، وفك ألغاز النص وأسراره، والتعرف إلى عالم هذه الشريحة من المجتمع، وانشغالاتها الفكرية، وكشف المسكوت منها في السرد العربي تحت ضغط المقموع المجتمعي، فالنصوص السحرية عادةً ما تُفصح عن هويتها عبر عناوينها، فالعنوان موجه فعال في عملية تشكيل البناء السحري؛ لأنّه خطاب سحري يمارس كينونة النص([4]).

  ومن العناصر السحرية الخيالية التي أضفتها الرواية على معالم شخصية البطل وملامحها عناصر الموروث الشعبي والديني، والسحري وقد جاءت على النحو الآتي:

  • العرق دساس:  

      كان قصر القامة هي القضية التي تؤرق البطل، وتقضُّ مضاجعه، وتسبب له معاناة نفسية عميقة، وتجعله يشعر بالنقص والدونية في المجتمع، ففي بعض الأوقات أخذ يسأل جدته باكياً، ويطرح عليها تساؤلاته التي تعكس حيرته:

  – لماذا توقفتْ قامتي عن النمو لأعلى؟ لماذا أنا قصير جداً كالقزم هكذا؟ وهل هناك أمل في أنْ تنمو قامتي ولو قليلاً؟ ومتى؟ (رواية عمو القزم ص47 ) .

   ولم يكن جواب جدته عن سؤاله سوى تكرارها لعبارة إنَّ(الْعِرق دسَّاس)، ولم يكن البطل يدرك معنى جواب جدته، فتوجه بالسؤال الى أمه التي هونت عليه وبيَّنت له أنَّ العقل أهم من الجسد فرد عليها بغضب قائلا:

ملعون أبو الزفت العقل، ولكن قبل أن تعديني أجيبي بوضوح عن معنى قول جدتي العرق دساس (رواية عمو القزم ص48 )، وجاء جواب أمه من وجهة نظر علمية:  

  • عندما تكبر تدرك مدى تأثير الجينات الوراثية  .

  لقد أدرك ماهر القزم بعد ذلك هذه الحقيقة، وأنه ورث القزامة عن أبيه الذي كان قزماً، وجده لأمه الذي كان قزماً، ولكن عمه (عوض) كان طويل القامة، وأمه (إلهام) كانت طويلة إلى حد ما، أما أخته (مرح) ، فنموذجية ليس بها من ملامح القزامة شيء، إذن الأمر قسمة ونصيب وحظ، وعليه أن يتقبل ذلك عن رضى وقناعة.

 حاول الكاتب تفسير سر هذه القزامة مستعيناً بالتراث الشعبي والديني، فقد ورد عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه قال : “اختاروا لنطفكم، فإن العرق دساس” ([5])، فالعرق هنا يعني الأصل البنية الجسدية والعقلية للإنسان، أي بالنسبة لطول القامة أو قصرها ، بيد أنه قد يمتد ليشمل أموراً أخرى مثل: الذكاء والتربية والصفات الخلقية وغيرها.   

 ويؤيد هذا القول ما ثبُت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه- : ” أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وُلِدَ لِي غُلاَمٌ أَسْوَدُ ، فَقَالَ : هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ ؟ ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : مَا أَلْوَانُهَا ؟ ، قَالَ : حُمْرٌ ، قَالَ : هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ ([6]) ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَأَنَّى ذَلِكَ ؟ ، قَالَ : لَعَلَّهُ نَزَعَهُ عِرْقٌ ، قَالَ : فَلَعَلَّ ابْنَكَ هَذَا نَزَعَهُ عِرْقٌ “ ([7]).

    يتبين من الحديث السابق أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد أطلق اسم (الْعِرْق) على مفهوم الجين الذي يحمل الصفات الوراثية المتناقلة بين الأجيال، فالصفات الإنسانية يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد، وتتجلى في هذه القضية -أيضاً – ثقافةُ الكاتب الواسعة وإلمامه العميق بالمعارف العصرية المتنوعة.

٢المسخوط:     

المسخوط صفة تعني ذا البنية الجسدية القصيرة الذي يقرب الى الأرض أي القزم، وهي صفة مستمدة من التراث الديني، إذ إنه من المعلوم أن الله- تبارك وتعالى – عندما غضب على بني إسرائيل مسخهم وسخطهم قردة وخنازير، قال تعالى : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ( البقرة ٦٥ ).

فقد كانت هذه الصفة مسبة ومنقصة في حق ماهر، فحينما اعترض ماهر القزم على زواج أمه من الحاج أبي أحمد الخميني، الذي قال له شاتماً ومؤدباً:   

“اخرس يا كلب، شرع ربنا.. وين المشكلة؟ شو دخلك أنت يا مسخوط، ما فيك شي طويل غير لسانك.. بدو قص، ابلعه أحسن لك، وإياك أن تنطق أو تشتم أحداً، ح اسخطك أكثر. (رواية عمو القزم ص ٢٢٤ ).

وفي موضع آخر يسخر من الحاج أبو أحمد، فيقول له:

“ولم لا؟ فيد واستفيد قانون الحياة، بدونه تخرب الأرض، وكقصد الشرع، عمارتها يا جاهل، يا مسخوط أفندي” (رواية عمو القزم ص 287 ).

فالسخط هو تحول في الصورة الظاهرة للإنسان، وهذه الصفة تحمل دلالات المنقصة والمسبة، فقد كان أفراد المجتمع ينادونه بالقرد المسخوط، ولكن الراوي حمَّلها في الرواية معاني أخرى، فكانت سمة المسخوط دلالة على الذكاء والفطنة والحذاقة، وحسن التصرف، تقول محاسن زوج عمه متلطفة:

عملت من الحبة قبة يا مسخوط، ما في شيء محرز الزعل(رواية عمو القزم ص188 ) .  وفي مكان آخر تقول له أمه إلهام عندما نادها بأم مرح  :

 –يجبر خاطرك يا مسخوط، ما حدا غيرك يناديني بأحب الأسماء إليَّ(رواية عمو القزم، ص257)

    وتقول محاسن مرة أخرى  :

  • وأنا يا مسخوط نسيتني؟(رواية عمو القزم ص282 ) .

     وتقول كذلك متعجبة بعد أن نجح في ترتيب أمور زواج:

  • صاير خاطبة  يا مسخوظ؟ ثم جحا أولى بلحم ثوره. (رواية عمو القزم ص398 ) .

      لقد تطورت نظرة الشخصيات الأخرى لمواقف ماهر القزم، ورأت في مواقفه ما يستحق الإشادة والاحترام، قالت محاسن مقدرة موقف ماهر القزم بقولها:

“-  والله كبرت يا مسخوط، يا زينة الشباب، توكل ع الله، ولك الحلاوة إن صافيته( تقصد سمعة)، خلونا نشتغل وبالنا رايق، يلعن أبو النكد” (رواية عمو القزم ص ٣٧١).

٣نص انصيص:  

    تحمل شخصية نص انصيص دلالات السحر والشيطنة والحكايات الشعبية الخرافية، ذلك أن شخصية نص انصيص ترمز للشخص القزم، ضئيل حجم البنية الجسدية، ولكنه يتسم بالشطارة والخفة والحركة الدائبة والتدبير المحكم، والحيلة والخداع الذي يمكنه من النجاة من المآزق والأزمات والعثرات، فثمة حكايات خرافية تحكي: أنه أنقذ أخويه من شر الغولة، وأنقذ القرية بأجمعها بذكائه وحسن حيلته من شرها.

 وقد جاء في إحدى الحكايات الخرافية أن والدة نص انصيص عندما جلبتْ امرأةٌ عاقر رمانةً للحمل، أكل زوجها نصفها دون أن يعلم ماهيتها، فاضطرت المرأة أن تأكل نصف الرمانة المتبقي، وعلى إثر ذلك حملت، ووضعت مولوداً ذا شكل نصفي، له رِجل واحدة ، ويدٌ واحدة، ونصفُ رأس، ونصفُ بدن([8]).

    تردد وصف شخصية البطل بلقب نص انصيص في غير موضع في الرواية، فقد ورد على لسان سمعة يقصد إيلام البطل:

   ماشي يا نص انصيص، راح أصدقك، واشوفك إخلاصك من خيانتك(رواية عمو القزم ص36).

وفي موضع آخر يقول سمعه قاصداً إهانته والسخرية منه:

  • قسماً يا نص انصيص، إنك ابن حرام صرف، وبقص ايدي إنْ ما كنت عارف كل شيء (رواية عمو القزم ص60 ) .   

      وقد وظف الروائي تقانة التناص ببراعة وقدرة على تقمص شخصياته مع شخصيات تراثية ومع الموروثات العربية الشعبية القديمة؛ ليغني نصوصه بأفكار وتوجهات تخدم شخصياته، معبراً عن بواطنهم وآلامهم كما وجد المتلقي تناص شخصية (القزم) مع الحكاية الخرافية نص انصيص.

4     – القرين:

   حاول الكاتب أن يضفي على شخصية البطل العادية الواقعية سمات الواقعية السحرية، إذ أضاف إلى شخصيته شخصية القرين، وهي إحدى الشخصيات الملازمة للبطل في الرواية، وهي تنتمي إلى عالم الجن، وقد كان دورها يتمثل في إبراز الصراع الداخلي في نفس البطل بين الخير والشر، أو بين العقل والقلب والضمير؛ لتلبية رغباته وإشباع شهواته، وهي من الشخصيات غير الواقعية التي أعطت للرواية بعداً سحرياً وخيالياً.    

وشخصية القرين مستمدة من التراث والمعتقدات الشعبية، فهي شخصية خيالية سحرية،  تحمل سمات السحر والجن، إذ إن لكل إنسان قريناً من الجن، فالقرين إذا كان صالحاً ينفع صاحبه، وإذ كان طالحاً يجر عليه الأذى، فهو روح شفافة لا تُرى، تلازم الإنسان منذ أن ترى عيناه النور إلى الممات.

ففي المعتقد الشعبي أن كلَّ واحد وله شيطان، ومن المصادر الدينية قول القرآن الكريم):  قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ( ( الصافات51).

وفي الحديث النبوي الشريف:  عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما منكم من أحدٍ إلا وقد وكِّل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله ؟ قال: وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير[9])), وفي رواية عمو القزم إشاراتٌ لهذا القرين، يقول الكاتب على لسان ماهر القزم:

“سأبدأ من سني عهدي الأول بالحياة أكلم نفسي ضاحكاً باكياً، وأحاور قريني؛ فلطالما التصق بي التصاق الحلزون بصدفته” (رواية عمُّو القزم ص 5). وكان يتحدث عنه، ويدعوه بالرفيق أو المرافق القرين، فيقول:

“حتى هذا الشعور الآني أجهضه الرفيق أو المرافق القرين الذي هو بعضٌ أو كلٌّ أو صنو أو ظل نفسي، أم هو شيء آخر لا أدري رغم أنَّ صوته ينبع من أعماقي…. إنك كلا ..كلا، إنك يا قريني عقلي أو شيطاني، يا صوتي، يا أنا، كاذبٌ، ومنافق، وأفاق، ومتناقض، (رواية عمُّو القزم ص 62).

      وفي موضع آخر يستغل الكاتب القرين، فيجعل البطل يجرد من نفسه شخصاً آخر يناجيه ويجري معه حواراً داخلياً (مونولوج )غير مسموع ، يناجي البطل قرينه ناهراً إياه:

– إليك عني يا قريني، يا صديقي، يا أنت ، تنحَّ الآن مطمئناً، فماهر لن يحب سوى ماهر (رواية عمُّو القزم ص 63).

وهكذا أسست الرواية حوارًا داخلياً ينطلق من ذات (ماهر القزم) ويعود إليها، وهو يحاور نفسه المتمثل في القرين، ويحاول الإجابة عن كثير من الأسئلة التي تطرحها عليه الأحداث .

إن ملازمة القرين لشخصية ماهر القزم وتلبسه به، وهيمنته على تفكيره جعلت ملامح شخصيته تتسم بالحقد والسخط والقلق، والتردد، والشعور بالتعاسة، والاضطراب النفسي، الارتباك، والعجز عن اتخاذ القرار السليم، واحتدام الصراع الداخلي بين القلب والعقل والضمير؛ الأمر الذي دفعه إلى اللجوء الى الشيخ الكفيف الذي منحه الطمأنينة واليقين، يقول الروائي على لسان الشيخ الأعمى الكفيف:

عليك أولاً أن تتصالح مع نفسك، وتتوقف عن مقتها، وأن ترضى بما قسمه الله لك، فالرضا والسخط هما منشأ وجذر وأصل كل سعادة الإنسان وتعاسته، واعلم أن اختيارك للرضاوهو أعلى مقامات الإيمان- صعبُ المنال يحتاج الظفر به إلى شن حرب لا هوادة فيها ضد إبليس وجنده وأنصاره”(رواية عمو القزم ص: ٢٣٧).

وقد كشفت تجربة الأسر في سجون الاحتلال الصهيوني التي مرّ بها ماهر القزم حالة الوحدة والانطوائية والشعور بالانكسار والضياع في مجتمع يهمش فئة الأقزام، فالسمة الواضحة في شخصية ماهر القزم هي الشعور بالضياع، وساهم الإحساس بضياع القيمة والمكانة في المجتمع في تعميق غموض البطل وإضفاء صبغة السحرية عليه، إن شعور شخصية القزم بالصراع النفسي بين العقل والقلب والضمير ساهم في تجسيد حالة الوحدة والانطوائية والتوتر وفي تعميق غموض البطل وإضفاء صبغة السحرية على ملامح شخصية وقسماتها.

لقد نشأ ماهر القزم وحيداً في مشاعره، متوحداً مع همومه، يعاني الاغتراب الذي يعيشه جراء التهميش، ففي عالمه الفردي، يبدو فاقداً لخصوصياته، يعبر عن حالته النفسية وهو في الأسر قائلاً :

” أجـل؛ كرهـت الـوطـن والمواطـن والبيت والحـارة والعمـل والمدرسـة، شـغلني هـم نـفـسي فمصـابي بنظـري أعـظـم مـن أي بـلاء، ثـم إن طبيعـة ابتلائـي أجبرتنـي عـلى الشـعـور والاقتنـاع أنـي بالمطلـق لا أصلـح لمجـرد التفكير بالعمـل الوطنـي، فاحترمت نفسي وابتعـدت، بـل أبعـدتُ قهـراً بسـبب ملازمـة إحسـاس الضآلة والمهـانـة، فانزويـتُ بجحـر مـن جـحـور الحيـاة أرقـب وألحـظ الشـأن الـعـام عـن بعـد وبـلا اكـتراث، وأحيانـاً بـلا شـعـور سـوى الحقـد على الحيـاة ذاتهـا”( رواية عمو القزم ص : 145 ).

وصفوة القول في شخصية البطل أن الكاتب حاول أن يمزج السمات الواقعية العادية المألوفة لماهر القزم بسمات الشخصية السحرية بما تتكون فيها من عناصر الموروث الشعبي والديني والسحر والمنولوج الداخلي، والمبالغة، فقد أبرز الكاتب في شيء من المبالغة قدرات البطل ماهر القزم ورجاحة عقله وكفاءته وأمانته؛ ليكون محط ثقة الحاج أحمد في تسيير أمور تجارته، وفي قدرته على تحمل مسئولية تسيير أمور البيت، إذ أخذ يشعر بوطأة المسئولية، فهو رجل الأسرة المعتمد عليه.  وقد أضفى على ملامح شخصيته صفات تتجلى فيها سمات المبالغة، وذلك حين أسند إليه إتمام مشروع إنشاء روضة للأطفال بالشراكة مع أمه إلهام؛ بوصفه المعلم والمساعد الإداري للروضة، وقد ألفَّ للروضة نشيداً جذب انتباه الضيوف واهتمامهم، وضمن للروضة الإقبال والنجاح والذي يقول فيه:

عمو القزم، عمو القزم

ماسك قلم ، حامل علم

قلبه كبير كبير

علمه حلو كثير كثير

علمنا ألف باء بابا

ألف ميم ماما

يضحك معنا    يلعب معنا

يرسم معنا     يكتب معنا

يقرأ معنا

عمو القزم،    عمو القزم

                                                      (رواية عمُّو القزم ص ٤١٣ ، 414).

 حاول الكاتب جاهداً أن يبني شخصية البطل بناء فنيا ً قائماً على النمو والتطور والتغيير، فقد نمت ملامح شخصية القزم ماهر وتطورت، ومرت في نموها وتطورها بمراحل سواء أكان ذلك في الوجدان أم التفكير، فإذا به يستبدل الحب بالحقد، والحياة بالجمود، والأمل باليأس، والانفتاح والمشاركة بالوحدة والانطواء؛ الأمر الذي أكسب الشخصية ثراءً وحيوية، وجعلها فاعلة متماهية مع سائر الشخصيات في الرواية.

ثانياً – الشخصيات الثانوية ( الهامشية):

  تعد الشخصية الثانوية عنصراً مكملاً ومتمماً لتلك التي تؤديها الشخصيات الحكائية الأخرى، وهي عنصر مساند للشخصية المحورية الرئيسة، فالشخصيات الثانوية لا تقل أهميةً عن الشخصيات الرئيسية، فهي تساهم مساهمة فاعلة في بناء الشخصيات الأساسية ومؤازرتها، على الرغم من أنها تحمل وظيفةً أقل، ودوراً محدداً، فإنها في الوقت ذاته ضرورية ومهمة، وهي شخصيات لا يعتني النص الروائي بصفاتها وملامحها الجسدية والمعنوية فحسب، بل تدور مع الشخصيات الرئيسية، وتتصل بها اتصالاً مباشراً.

فالشخصية الثانوية لها دور مهم في هندسة البناء الروائي في رواية(عمو القزم)، وهي تؤدي دورًا بارزًا في الأحداث، ويكاد يتقارب بعضها من بعض، ويكاد بعضها يكون تكملة للوحة الروائية.  لقد التقط الروائي شخصياته من الواقع الذي تعيش فيه، وقد ترسخت في ذهنه، بل وجعل لها ملفًا عنده حتى لا تضيع ملامحها ومعالمها  .

 قدمت الرواية ملامح واقعية مثالية لبعض الشخصيات الثانوية في الرواية، ولكن الروائي لم يكتف بهذا التصوير الواقعي الذي يجسد نثريات الواقع وجزئياته، وإنما أضفى عليها مسحة من عناصر الواقعية السحرية، مزاوجاً فيها بين الواقعي المألوف والسحري غير المألوف في لوحات إبداعية جذبت القارئ وأسرته.

 إن هذه الصفات السحرية الخيالية في الشخصيات ليست مقحمة داخل الأحداث والزمان والمكان، بل جاءت منسجمة انسجاماً محكماً ومتقناً من قبل الروائي، كما ساهمت في خلق الدهشة، والابتعاد عن الرتابة والملل والسأم. ومن الشخصيات الثانوية الواقعية السحرية الشخصيات الآتية:

1 – إسماعيل(سمعة):

ومن الشــخصيات الثانوية الغريبة في الرواية يمکن الإشارة إلی شخصية (سمعة )، وهو نموذج للغباء والجهل، والقوة المصحوبة بالعنف، طلب أبو أحمد من ماهر القزم؛ أن يساعد ابنه (سمعة) في التعليم، وافق ماهر لإحساسه بأهمية (سمعة) وتميزه, من جهة, واتخاذه درعاً، ورأس حربة يردع منافسيه في الدراسة أو الساخرين من قصر قامته,  وكان أبو أحمد يظهر له الود, وكان دائماً يطلب منه ترويض ابنه سمعة تجاه كل ما هو ضعيف وجميل, مثل قتله العصافير شنقاً, والمشاجرة مع التلاميذ المتفوقين الأقوياء منهم.

   وقد سعي الروائي إلى أن يضفي على ملامح هذه الشخصية مسحة من الازدواجية والمفارقة بين شخصية سمعة ذي القوة والضخامة مع التياسة والغباء وشخصية ماهر القزم مع الذكاء والفطنة والتفوق.  

فكثيراً ما كان (سمعة) يسخر من ماهر القزم ويستهزئ منه وينعته بأوصاف نابية يتأذى منها يقول سمعه مخاطباً ماهر القزم:

يا مسخوط،  يا قرد، يا نص انصيص، يا سحلية، ويوما أضاف حشرة فشقني وجعها. ( رواية عمو القزم : ص 92 ).

  • –    ماشي يا نص انصيص، راح اصدقك ، واشوف إخلاصك من خيانتك ( رواية عمو القزم : ص ٣٦ ). وفي مكان ثالث من الرواية ينعته بجملة من الصفات منها:

 أنت تنفع بدل المتر أن نقيس بك ( رواية عمو القزم : ص 89 ).

 –  أكثر زبائنا من النساء، الآن تأتي لتسليتهنَّ، وإضحاكهنَّ، فيزداد البيع ( رواية عمو القزم : ص 90 ). وكان ماهر القزم ينعته بأنه تيس أو بغل ويصفه بعدم الرجولة، يقول ماهر موجهاً كلامه للعم أبي حمد وفيه نبرة من السخرية والاستهزاء:

  • اطمئن يا عمي سأحرص أن نراجع ونحفظ دروسنا معاً، وأظن أن إسماعيل يخفي عنا وعن نفسه مخزوناً هائلاً من الذكاء، سأسعى لاستخراجه و…

علق أبوه مستهزأ:

  • إسماعيل!! هذا التيس ههههه، هذا يخفي مخزوناً من الذكاء!!

وفي موضع أخر يقول ماهر القزم لإسماعيل:

  • سمعة،  يا عزيزي، متى تدرك أنَّ قزم الجسد مثلي أفضل من بغلٍ عملاقٍ قزم العقل مثلك. ( رواية عمو القزم : ص 89 ، 90), ويقول له في موضع آخر:
  • لا تغتر بمظاهر فحولتك،  فوضعك هذا وأشرت نحو وجهه، ممسِكاً بلحيتي باعتزاز – مخزٍ وخطير، قد ينبئ عن ضعف رجولتك، فافحص نفسك ( رواية عمو القزم : ص 92 ).

  ويوازن الكاتب بين سمعة البغل وماهر القزم، وجاءت الموازنة على لسان القرين الذي يعلم ماهر كيف يرد على سمعه وكيف يحاوره ويرشده إلى الطريقة التي يرد عليه بها ويقول له:

جميل وجيّد اعترافك الصريح بأنك بغل، فهذا أمر طبيعي، فأنت تعلف مؤنة المطبخ، وأنَّ همك في الحياة محصور قصراً على بطنك؛ فطبيعي أن تكون بغلاً قوياً ينتفع به أصحابه، أما أنا ففائدتي بعقلي، وهذا دأب العلماء والحكماء والفلاسفة، قوتهم في فكرهم ثمرة عقولهم، أتفهم ما أقول؟ أنسيتَ أنك ببداية صحبتنا كنتَ تلميذي وكنتُ أستاذك؟ (رواية عمو القزم : ص47),

    وهكذا كان لصفة الازدواجية والتقابل أثرٌ كبير في إضفاء سمات الواقعية السحرية على معالم تلك الشخصيات .

    ويجــد المتلقي للمفارقات والازدواجية الــلتين تعتبران من عناصر الواقعية الســحرية، نماذج عدة في روايــة “عمو القزم”،ّ فتتجلی الازدواجيــة في هذه الرواية في تقابل بين عنصري “الخير والشر” ، بحيث يواجهها القارئ من بداية الرواية.   

     إن العداء کثيراً ما أدی إلی الخصومة والافتراق، فالقزمُ ماهر محب لا يســتطيع أن يخفي حبه، ومبغض إلی درجة الحقد. هادئ، وهكذا يدرك المتلقي أن الروائي قد بنی روايته علی عناصر متناقضة للتعبير عن تناقضات مجتمعه.     

2 – أبو أحمد (الخميني):

    هو كائن حي واقعي، إنسان عربجي، جميل القسمات، فيه غلظة وقسوة في معاملته مع أهل الحارة، وهو صاحب دكان بقالة، تحول إلى تاجر مواشٍ، وبعد أن فقد ابنه أحمد دهساً تحت عجلات سيارة نقل الحيوانات, أطلق لحيته حداداً وحزناً،  وأصبح يلقب بالخميني، ترك البقالة، وافتتح متجراً لبيع القماش والحرامات، وتبين أنه يعمل في غسيل الأموال، والمحرمات، انطلاقاً من مقولة متداولة في السوق “فيد واستفيد”، ولقب بالحاج، وقد عرض أبو أحمد على ماهر القزم العمل عنده؛ ليكون مسئولاً عن الحسابات, لتفوقه في الدراسة, وترك ابنه (سمعة) المشاكس يبيع البطاطا عند باب المدرسة لعدم رغبته في التعليم،  يقول الراوي على لسان أبي أحمد الذي بدا مرتاحاً في كلامه مع ماهر القزم:

  • –                         قسماً إنَّ عقلك أنصح من عقول المهافيف البهاليل الطوال السمان، كأن الله عوضك بعقلٍ جبار، فلديك بُعد نظر واستشراف، أنت يا ماهر تاجر وابن سوق بالفطرة ( رواية عمو القزم : ص 44 ).

   اعتقل أبو أحمد من قبل الاحتلال الصهيوني بسبب هذه التجارة، وحين نوى الزواج من (إلهام) أم ماهر حلق لحيته، وبدا في مظهر جديد جميل؛ حتى تقبل به إلهام زوجاً لها، يرصد الكاتب التحول في شخصية الخميني :

“…وقد شخُص الخميني أمامي حليق اللحية، مهذب الشارب من الوسط، ولم يعد للصقر متكأً على جنابيه، ومهندب اللباس أيضاً، إذ خلع الكوفية، واستبدلها بلفحة جورية اللون تناسب سواد الجاكيت، ورمادية السروال”(رواية عمو القزم ص :١٢٣).

    رأى ماهر القزم في هذا التحول والتغير الذي طرأ على سلوك الخميني أمراً صادماً يثير العجب والدهشة، ويولد الحيرة لدى العاملين في الدكان.

  إن إضفاء صفات التحول والتغير التي طرأت على ملامح شخصية الحاج أبي أحمد قد كان منبعها المصالح الشخصية الذاتية التي يسعى إلى تحقيقها.

حاول الكاتب أن يضفي على ملامح شخصية أبي أحمد (الخميني) مسحة من واقعية سحرية، فتوسل بتقنية الوصف لأبعاده الجسدية والنفسية الغريبة، يقول الراوي:

  “للخميني يدان رحبتان بارزتا العظام ، نافرتا العروق: خضراء وسوداء، يسلم بحرارة، فحين يصافحه أحد، يعصر يده، فيكاد المصافِح يسحب يده متأوهاً، أما إنْ تكلم، فلا أدري أيداه تترجم عن لسانه أم لسانه يترجم عن إشارات يديه السريعة المتلاحقة( رواية عمو القزم: ص 38 ).

  يلحظ المتلقي في الوصف المشهدي السابق لملامح شخصية أبي أحمد (الخميني) أن الوصف يساعد على تعميق الحدث، ويكشف عن الدلالات الثرية، ويغوص في أعماق الشخصيات.  فما هو إلا وجه من وجوه الوصف الواقعي السحري الكاشف عن لون من ألوان المبالغة في التشخيص والدقة، مع العناية بالجزئيات المكونة لنسيج الرواية، وقد نجح الراوي في إكساب الخطاب لمحات متفرقة عن شخصية أبى أحمد الخميني تظل عالقة في ذهن القارئ عند الانتهاء من قراءة الرواية .

كمال :

قصير القامة، قزم، متفوق في دراسته، جمعته مع ماهر صداقة، جاء به الروائي؛ ليكون شخصية معادلة نفسياً وفكرياً لشخصية ماهر القزم، إذ تجمعهما صفة القزامة، مع وجود قسمات فارقة مائزة بينهما، فليس ماهر هو القزم الوحيد في المدينة، فهناك أمثاله كثر، فكمال فقير متفوق في الدراسة, ومثقف ثوري يساري, عجز عن إكمال دراسته، بسبب الفقر والعوز، اضطر للعمل لدى أبي أحمد لإعالة أسرته، بتزكيةٍ من صديقه ماهر، فيطلب منه أبو أحمد لكفاءته وحسن سيرته, إطلاق لحيته, ويلحقه بالعمل لدى الحاج عطية في أعمال لضبط الحسابات التجارية. كان كمال راضياً بقسمته في هذه الحياة غير متمرد، على واقعه.

أبو ماهر:     

هو أبو ماهر القزم، ورث عنه ابنه ماهر قصر القامة، ولكنَّ القزامة لم تَحُل بينه وبين طموحه، فحصل على مؤهل جامعي, وسافر ليعمل محاسباً في دولة خليجية في مجال المال والأعمال، كان يسعى للثراء والغنى، تزوج من (إلهام) الجميلة، طويلة القامة نوعاً ما، أنجب منها بكرهما ماهر القزم، وما أن بلغ ماهر الخامسة من عمره حتى أرسلاه الى غزة؛ ليعيش تحت رعاية جدته وعمه عوض وزوجته محاسن، خجلا من تواجد ابنه القزم معه في الخليج، ثم أنجبا بعد عشر سنين الطفلة (مرح) الجميلة ألحقاها بأخيها ماهر؛ لتعيش في كنف العائلة في غزة,  وكانت نموذجية ليس لها سمات القزامة.

لم يكن ماهر القزم يكِّن لوالديه مشاعر الحب والود، وكان يتهمهما بحب المال، ويعدُّهما من عبدة المال، فهما (عابدا المال كقارون )(رواية عمو القزم ص 62 )،  وكان يراهما أنانييْن متجردين من المشاعر الإنسانية تجاه أطفالهما، يحملان قدراً من الجفاء الوجداني والغياب. يقول عن علاقة الزوجين:

“بين أبي وأمي قاسم مشترك، متين الجذور، عميق الغور، في نفسيهما هو ما عزز أركان زواجهما ووحَّد رؤيتهما في اختيار درب الحياة، إنه حب المال حباً جماً، عشق المال أولاً وعاشراً”(رواية عمو القزم ص 11 ) .

وفيما كان أبو ماهر مشغولاً في البورصة وسوق المال والاستثمار في العقارات وغسيل الأموال في الخليج, أصيب بجلطة أودت بحياته, ودفن غريباً, فاضطرت زوجه (إلهام) للعودة إلى بيت الأسرة دون رجعة.

إلهام:  

هي أم ماهر القزم فارعة الطول, حازت على شهادة في التمريض, تمتلك روحاً ريادية مقتحمة, قبلت الزواج من ماهر الذي كان يعمل في إحدى دول الخليج، وعملت هي في مؤسسة رعاية كبار السن والمعاقين.

 لقد حاولت الأم أن تجعل ابنها القزم ماهر يتقبل وضعه الاجتماعي عن رضى وإيمان، فشاركته في إنشاء روضة للأطفال، ليخرج من مأساته وشعوره بالقزامة، وقد تزوجت من الحاج أبي أحمد، وأنجبت منه ابناً هو حاتم.

عوض:

هو عم ماهر القزم، شخصية واقعية، وهو في الوقت ذاته شخصية غريبة عجيبة، ابن العائلة البكر، الطويل القامة جميل القسمات، المدخن الشره والمنسحب عن حياة الحارة، ويعيش على ما يرسله أخوه أبو ماهر من مال للإنفاق على العائلة, وكان متزوجاً من محاسن التي كان يكابد المفارقة بين حبه لأمه، والخنوع لزوجه محاسن سليطة اللسان، قليلة الجمال، وكان سلوكه مصدراً لتعجب ماهر القزم ودهشته، يقول القزم ماهر القزم عن عمه عوض:

“فقد كان بالحجم الذي تشتهيه كل أنثى؛ أكانت أماً لولدها، أمْ زوجةً لبعلها، أم محبوبةً لحبيبها …ولكنه كان يرتعد من رعد صوت زوجته (محاسن) التي تكويه بكلام ساخر، فترمقها جدتي بنظرات زاجرة، لا تلقي لها بالاً او أدنى إكتراث، بل تواصل تهكمها بنبرة تسلطية، فيستوقفها عمي عوض مستعطفاً بحياءٍ ظاهر وخورٍ باطن:

  • كفى ارجوك، ليس أمام أمي والأولاد.   

     كانت جدتي تظن ان عمي لو نفخ صوبها شحنةَ زفيرٍ من أحشائه لترنحت آيلةً للسقوط، فهي عكسه من وزن الريشة كما يسمونه في رياضة الملاكمة والمصارعة التي أهواها؛ لأنها فن الضرب والإيذاء، كيف ولماذا كانت أقوى منه!؟( رواية عمو القزم ص: 5 ).

 كانت محاسن على الرغم من بنيتها الضعيفة تملك شخصية قوية، وكانت أمه تندب حظها، واعتادت أن تردد العبارة الآتية، فتقول: إنها أم المتعوس المنحوس (رواية عمو القزم ص: 12 )، فأولاد عوض يموتون بعد الولادة، وتمنيا لو يبقى لهما ولد، أي ولد ولو كان قزماً مثل ماهر.

ويلحظ المتلقي أنَّ للشخصية الواحدة في الرواية بعدين: أحدهما بعد واقعي لا يختلف عن أبعاد الشــخصيات في الروايات الواقعية، والآخر بعد سحري ّخيالي يختص بالواقعية الســحرية، وبعبارة أخری إن الکاتب في الواقعية الســحرية يخلق شخصيات بطريقــة لا تفاجئ المتلقي عندما تنتقل مــن العالم الواقعي إلی العالم السحري، وتقدر أن تعيش في العالمين دون الشــعور بالغرابة أو الحــيرة وأن تنتقل بينهما وکأنه لم يحدث لها أي أمر غير طبيعي([10]).

ومما تجدر الإشارة إليه أن الكاتب استثمر عدداً من عناصر الواقعية السحرية في هذه الرواية؛ ليضفي على ملامح شخصيات مسحة من الواقعية السحرية، ومن هذه العناصر عنصر التعبير عن الواقع باللغة الشعرية.

فقد وظف الراوي اللغة الشعرية لغة الواقعية السحرية؛ بوصفها عنصراً أساسياً من عناصر الواقعية السحرية، فتوسل بها، التي تقترب من تخوم الشعر وشواطئه؛ لتعبر عن هذا الواقع المعيش الجديد الذي يحتاج من الكاتب أن يتناوله بعمق في سرد محكم البناء، ينقل فيه المتلقي من الخاص إلى العام بسهولة ويسر . يقول الكاتب على لسان السارد القزم في مفتتح الرواية:

“ملقياً نظرةً واهية أمامي، ونظراتٍ متفحصة ورائي، تلك هي الآن حالي، وأنا أرتقي صاعداً صوب هرم العمر، فأراني ألوِّح لذكرى أيام خلت كنت حينها أتحسس بتوجس خَلِفٍ مواقعَ خطاي نحو سواد القادم، فإذا الصبح يسفر عن فجر جديد”  (رواية عمو القزم ص: 4 ).  

إن نظرة فاحصة واعية في المقطع السردي السابق تجعل القارئ الواعي يدرك مدى جمال المجازات اللغوية، وقدرة الكاتب على انتقاء الألفاظ الموحية التي تحمل دلالات ذات طاقات إيحائية، مثل : “ صوب هرم العمر، فأراني ألوِّح لذكرى أيام، سواد القادم ، فإذا الصبح يسفر عن فجر جديد “، نظرةً واهية أمامي، ونظراتٍ متفحصة ورائي، سواد القادم، فجر جديد.

إن مثل هذه الافتتاحية ذات الدلالات الموحية تحمل المتلقي على الإمتاع، وإثارة الدهشة، وتحمله على الاستمرار في قراءة النص مدفوعاً بما يحمله الخطاب من جمال فني يحقق للقارئ المتعة والراحة النفسية.

ويجد المتلقي أن الكاتب يعبر عن الإنسان بما هو إنسان في كل زمان ومكان، فقد عبرت لغة الرواية عن إنسان الأحياء الشعبية في مدينة غزة زمن الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي مستخدماً اللغة الثالثة، اللغة الفصيحة معممة واللغة العامية المفصحة.

لقد استثمر الكاتب إمكانات السردية اللغوية التي تعني اللغة التي تعتمد علی التصوير الاستعاري، واستخدام الألفاظ والرموز الموحية المتعددة، الدلالات، واللغة النابضة بالإيقاع والتلوين البياني والبديعي([11]).

فقد تمكن الروائي من القبض على اللغة الثالثة “لغة تفصيح العامية وتعميم الفصحى”, وهي تكتب بالفصحى وتلفظ بالعامية حاملة شحنات القبول حسب الأحوال والأحداث والمواقف النفسية وتباين إلقائها وطريقة لفظها حسب مستويات ثقافة الأشخاص وأدوارهم ولهجاتهم في مجتمع الرواية([12]). 

إن لغة السرد هي اللغة التي يتحدث بها السارد في متن النص الروائي، وهي تعكس ثقافته وقدرته على ابتكار الكلام ورصانة الأسلوب، ويفترض في هذه اللغة أن تكون فصيحة وراقية.

 لقد  جاء تركيز الكاتب علی اللغة واضحاً؛ بوصفها الأداة الأولي لتكوين المحكي السحري، ولها الدور البارز في تشكيل العلاقة مع سائر مكونات البناء الفني. إن آليات السرد والتشكيل في الخطاب السحري تشتغل علی التعاضد والتماسك مع سائر المكونات البناء الفني للرواية ، يقول في المقطع الأخير من الرواية تحت عنوان ثم ينفجر البياض مستثمراً ما تكتنزه الألوان من رموز ودلالات:

   “جلست أرقـب مـشـهـد السـماء وولادة الضيـاء، حيـث يتـوالى انسحاب، كـتـل السـحب السـوداء مـن أفـق السمـاء، تتوالـد الألـوان وتتمـاوج متمـازجـة في مهرجـان فـرح عجيـب، تنقبـض وتنبسـط، تقترب وتبتعـد؛ ليبـدو الرمـادي ملتحـاً بالبرتقـالي بـين الأصفـر والأحمـر، ومـن رحمهـا أو أحدهمـا ينبثـق الأزرق الشـفـاف ليقـترن؛ کمـا لـو أنـه حبـيـب مـشـتـاق يحتضـن الأصفـر المشـع، قطـع كـانـت متراصـة ملتصقـة؛ هـا هـي تفك التحامهـا ببعـض وتتشـعب إلى جزئيـات كبـيرة، متوسـطة، صغـيرة، ترتحـل إلى جهـات مختلفـة، ويستمر ابتعـاد الـرمـاد والسـواد ليرخـي سـتائر عتـمـتـه عـلى تخـوم أخـرى، ويقـوى ضيـاء الأزرق والأرجـواني والأصفر، ثـم ينفجـر البيـاض مسـفـراً عـن صـبـح جـديـد. (رواية عمو القزم ص 416 ).

اشتمل المقطع السردي السابق على خطاب جمالي حضر في كثير من النصوص السحرية التي تفتح أفق المتلقّي علی الإدهاش والحيرة، وتحفزه علی التأمل ، فهذا المقطع السردي كأنّه نصٌ شعري ، فللمفردات سحرها وفاعليتها، النابع من تشكيلها اللغوي الجميل في الفضاء الشعري: مرونتَه وصفائه، وهو أشبه بلوحة فنية قابلة للتأويل، فالمقطع يحتوي على كثير من الرموز: الصبح والألوان والظلال الأبيض والأسود والرمادي التي تنفتح على معانٍ ودلالات رحبة، فالرموز هي “الكلمات والألفاظ المستعملة ليست مرادة لذاتها بالضبط، وعلی وجه الحقيقة، وإنّما غايتها الإيحاء، كلٌّ منها يطلق موكباً ملوناً من الإيحاء([13]).

 وجملة القول، فقد أضفى الكاتب على ملامح شخصياته الواقعية المألوفة سمات سحرية خيالية وجسدها في بساطة ووضوح، فلم يجعل منها شخصيات غيبية تحمل صفات خارقة للعادة، أو مغايرة للمألوف والمعتاد، من خلال تحولها إلى شخصيات سحرية او أسطورية، وقد رسم معالمها وسماتها بأسلوب فني مزج فيه بين الواقعي والخيالي السحري. وجاءت شخصياته شخصيات واقعية سحرية تعبر عن المجتمع”، وقد امتاح ملامحها من واقع الأحياء الشعبية التي كانت تقطنها.


[1] ) كاتب وروائي فلسطيني من غزة صدر له عدد من الروايات هي: حبر الروح (3013)، وماما فاطمة (2014)، والمباهلة (2015)، والأفعى تطوق الأرض (2017). بالإضافة إلى مجموعة قصصية (أحلامنا لغيرنا  2016( .

[2] ) حميد لحميداني: بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1 ،1991م، ص 51،52

[3] ) محمد فكري الجزار، العنوان وسميوطيقا الاتصال الأدبي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م، ص ١٠ .

[4] ) داود نجاتي، أحمد صاعدي، آليات السرد ودورها في تشكيل بنية النص، السحري، مقاربة أسلوبية لرواية «حارث المياه» لهدى بركات، مجلة الخطاب، المجلد 13 العدد ٢، ص ١٩٧ .

[5]) المكتبة الشاملة الحديثة. تخريج حديث تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس-maktaba.org   https://al 

[6] ) الأورق من الإبل ما كان في لونه أبيض إلى سواد: (ابن منظور، لسان العرب مادة (ورق)، دار صادر بيروت).

[7] ) مسلم ، مسلم ، ١٩٩٤ ، صحيح مسلم بشرح النووي، تحقيق وفهرسة عصام الصبابطي وآخرون ، دار الحديث ، القاهرة ، ط١. حديث رقم (1500).

[8] ) ينظر: كناعنة، شريف، وابراهيم مهوي، (قول يا طير) حكايات للأطفال من التراث الشعبي الفلسطيني، ص24

[9] ) مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي، رقم الحديث: (2814).

[10]) رضا ناظميان، ويسرا شادمان، الواقعية السحرية في خماسية مدن الملح لعبدالرحمن منيف، مجلة إضاءات نقدية، السنة الثامنة، العدد التاسع والعشرون، ٢٠١٨ ص ١١٧

[11] ) عبد الرحيم حمدان، اللغة في رواية “تجليات الروح” للكاتب محمد نصار، مجلة الجامعة  الإسلامية (سلسلة الدراسات الإنسانية)، المجلد السادس عشر، العدد الثاني، 2008م، ص ١٢.

[12] ) غريب عسقلاني،  قراءة في رواية “عمو القزم” للروائي خلوصي عويضة، ، نشر في 2019 م. https://www.prealmedia.com › post

[13] ) محمد راتب الحلاق، النص والممانعة، دمشق، منشورات اتّحاد الكتّاب العرب، 1999م، ص 42 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى