مقالات رئيس التحرير

الشيء الآخر وإشكالية التجنيس الأدبي: رواية أم مسرحية

الشيء الآخر وإشكالية التجنيس الأدبي: رواية أم مسرحية

قراءة في نص” الشيء الآخر: من قتل ليلى الحايك” للروائي غسان كنفاني.

بقلم: جواد العقاد/ رئيس التحرير

تمهيد:

لايزال باب التجريب في الأدب العربي مفتوحًا على مصراعيه لا سيما في الأجناس الأدبية الجديدة عند العرب نحو الرواية والمسرحية..، وأعتقد أنه من الضروري التجريب في أجناس أدبية لم يتعدَّ وجودها في الأدب العربي قرن. ومن هنا نجد العديد من النصوص الأدبية أثارت إشكالية عند النقاد من حيث تجنيسها، وأهمها: ” بنك القلق” لتوفيق الحكيم، الذي طرح أمامه النقاد على أنفسهم سؤالًا: هل هو رواية أم مسرحية؟
وفي الأدب الفلسطيني نص “لكع بن لكع” لإميل حبيبي، وقد قُسم إلى ثلاثة فصول يحمل كل منها عنوانًا مستقلًا: مجنونة بدر، بدر، المهرج. إلا أن جميعها تدور في فلك واحد وهو انتقاد الواقع العربي المتأزم. وهذا العمل يتأرجح بين الرواية والمسرحية؛ فقد دمج عناصر من الجنسين الأدبيين في عمل واحد؛ لهذا سماه”حكاية مسرحية”. مما أدى إلى تحيّر القُرّاء والنقاد في تصنيفها، فمنهم من رأى أنها مسرحية مثل الشاعر سميح القاسم، حيث قال: “وشعارات إميل حبيبي كلها فنية وجميلة، وتزيد من جمال مسرحيته.” وآخرون رأوا أنها رواية، والبعض رأى أنها تجديد وتجريب مثل علي محمد طه: “إن ما يقدمه إميل حبيبي هو ثورة على الأسلوب التقليدي، ومثلما كان مجدداً في المتشائل، كان كذلك في حكايته لكع بن لكع”.


إن تأملنا في الأدب العربي المعاصر نستطيع رصد عدة نصوص ضمن هذا المضمار، فقد قرأت مؤخرًا روايتين للروائي الفلسطيني أنور الخطيب، وهما: “مس من الحب، سماء أولى.. جهة سابعة” وأشرت في مقالة سابقة إلى الثانية من حيث وحدة المكان والحبكة ومحدودية الشخصيات، وهذا يتفق مع عناصر المسرحية.

وفي هذه المقالة أتحدث عن”نص الشيء الآخر: من قتل ليلى الحايك” مركزًا على إشكالية تجنيسه الأدبي، فهل هو رواية أم مسرحية أم مزيج من الاثنين، مع العلم أنه نُشر لأول مرة في مجلة “الحوادث” الأسبوعية في بيروت، على تسع حلقات، عام 1966م.

من قتل ليلى الحايك: عرض ومناقشة

النص عبارة عن رسالة من المحامي صالح المتهم بقضية قتل ليلى الحايك، يُبرأ فيها نفسه أمام زوجته ديما من قتل ليلى، يبدأ النص:”أنا لم أقتل ليلى الحايك.” وكان قد تعرف صالح إلى ليلى، صديقة قديمة لزوجته، في ملهى ليلي ليلة عيد ميلاد زوجته ديما، وهذه المصادفة كانت شرارة لعلاقة غرامية بين صالح وليلى الحايك، ومن خلال هذه العلاقة يُعالج الكاتب قضية لا تبدو لي غريبة، وهي أن الخيانة الزوجية لا يُشترط فيها عدم حب الطرف الخائن للآخر، فالمحامي صالح كان يُحب زوجته وفي الوقت نفسه يخونها مع صديقتها ليلى، وأرى أن الكاتب لا يُبرر الخيانة بل يعرض حالة اجتماعية موجودة فعلًا، فيقول: “إن الزوجة هي قيمة اجتماعية رائعة، ولكن كي تظل أنثى يتوجب علينا أن نعرفها أقل، وكي نجعلها تتوقد يجب أن نحولها، كلما مضت للفراش إلى امرأة أخرى، امرأة ثانية. هل تفهمون؟ إن هذه المسألة لا علاقة لها بكمية الحب، ولكن بنوعه وبتجدده فقط..” الأنثى غابة أسرار يبقى الرجل منبهرًا بها إن لم يكتشفها تمامًا، ثمة شيء يشده إليها، وإذا اكتشفها وتعودَ عليها تُصاب العلاقة بالروتين القاتل، فالحب إذا تحول إلى عادة لا يقل بالطبع وإنما يفقد التوهج والتجدد، وهما أهم شيء في علاقة العشاق. لذلك فإن الرجل يبحث عن المرأة ذاتها في نساء أُخريات في حال فشل في إيجاد نساء أخريات في المرأة ذاتها، وهذا لا يقتصر على الرجل فحسب.
الأدلة كلها تُدين المحامي صالح أمام المحكمة، وهو مندهش، ورُغم خبرته الطويلة في المحاماة يفضل الصمت، وهذا من شأنه استفزاز القارئ. ويشتبك القارئ مع الأحداث في محاولة لحل لُغز الجريمة، فيطرح السؤال على نفسه مرارًا: من قتل ليلى الحايك؟ لذلك، رغم أقوال بعض القُرّاء والنقاد بأن النص لم يكتمل، أي استشهد غسان قبل أن يكمله، أرى أنه نص مكتمل، وإن لم يُنشر بشكل نهائي في حياة غسان.
يتواصل سعيد زوج ليلى مع المحامي صالح ليكون وكيل خصمها في قضية ميراث ضخم يتركه والدها، وهو شاب أرجنتيني يدّعي أنه أخوها(ابن غير شرعي)، ويعلل الزوج ذلك بحبه لزوجته وعدم رغبته في تغيرها عليه.

إذا كان سؤال وعقدة النص الأساس هو “من قتل ليلى الحايك”، فإن القارئ يطرح إلى جانبه سؤالًا آخرًا وهو”لماذا صمتَ صالح”. بدأ النص بقول صالح في الرسالة إلى زوجته: “أنا لم أقتل ليلى الحايك..” وانتهى بقوله:”وأن تستطيع رحلة الصمت عبور تلك الخطوط الرهيبة إلى الموت.” هذه الجملة إقرار من صالح بأن الصمت سيقتله، واختار الصمت، ومن خلال ذلك يؤكد غسان كنفاني على عبارته الشهيرة في رواية”رجال في الشمس”: “لماذا لم تدقوا جدران الخزان.” بمعنى أن موقف الإنسان يُحقق وجوده، والصمت موت.

وأخيرًا: أنا كقارئ أستطيع إدانة أغلب الشخصيات: صالح وزوجته ديما، وسعيد زوج ليلى، والشاب الأرجنتيني.. فالنص يحكي جريمة لم تكتمل معالمها، لهذا فلا يُعتبر قصة بوليسية.

إشكالية التجنيس الأدبي في نص”الشيء الآخر”

يقودنا نص” الشيء الآخر..” إلى إشكالية معروفة في النقد الأدبي وهي التجنيس الأدبي، فهل هذا النص رواية أم مسرحية، مع العلم أن أغلب قوائم كتب غسان كنفاني الموجودة في نهاية كل عمل من أعماله تُدرجه تحت الروايات، والشائع أنه رواية أيضًا، مع أن غسان لم يعطه تجنيسًا واستشهد قبل أن ينشره بين دفتيّ كتاب، وبالطبع هذا لا يكفي لاعتباره رواية خاصة إذا تمعنّا في النص ورأينا ملامح العمل المسرحي، فالنص يقوم على وحدة الحدث وهو حكاية مقتل ليلى الحايك، والأحداث الأُخرى تخدم الحدث الأساس. وكذلك وحدة العاطفة أو بالأدق تمحور النص حول موقف واحد وهو الجريمة، أثار عدة عواطف تمثلت في: صراع صالح مع صمته، والخيانة الزوجية، وشعور سعيد الحايك تجاه زوجته ليلى، إلخ. وقد بدأ النص بالتمهيد ثم العقدة وبعد ذلك التدرج إلى الحل، مع التركيز على وحدة الحدث. ونلاحظ أن الحوار كان له نصيب الأسد في النص وهو كذلك في شروط المسرحية.

أما لغة النص فجاءت بالفصحى البسيطة، وقد أبدعَ كنفاني في الوصف ورسم المشهد، لا سيما حين تحدث عن العلاقة الخاصة بين صالح وليلى، إذ يقول في وصف ليلى: “وحولتها أصابعي إلى نمرة، وأوقدت قلبي خزان النبيذ في أعماقها فالتهبت، وقد تم الأمر بلا طقوس، على ذلك المقعد الطويل في غرفة الجلوس، وحين طحنتها اللذة ألقت برأسها إلى الوراء، وتصورتها لوهلة جثة..” مما جعلني أقول: كل عمل أدبي ليس فيه توهج الأنوثة لا يُعول عليه. أعرف أني أبالغ. الحق أن هذه الحالة أعطت النص توهجًا خاصًا، فالكاتب عبَّر عن شدة اللذة بقوله: “طحنتها اللذة” وأزعم عدم وجود عبارة أكثر تعبيرًا عن قمة اللذة من هذه.

الخلاصة:

نستطيع القول أن عناصر الرواية هي ذاتها عناصر المسرحية تقريبًا، في الأولى بمقدور الكاتب تطويعها حسب رؤيته، بيد أنها في الثانية تكون محدودة، حيث أن نقاد المسرح تحدثوا قديمًا عن قانون الوحدات الثلاث: وحدة الزمان، وحدة المكان، وحدة الحدث. ولعل بعض الاتجاهات المسرحية تجاوزت أول وحدتين، في حين معظمها يتفق على وحدة الحدث وهي بلا شك متوفرة في نص” الشيء الآخر”، ومن هنا أرى النص أقرب إلى المسرحية؛ لتوفر هذه الوحدات فيه، ناهيك عن عنصر الحوار، الذي يعتمد عليه العمل المسرحي في المقام الأول. في كل حال، يبقى الأمر نسبيًّا فقد يأتي قارئ آخر ويرى النص قصة طويلة ولا ضير في ذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى