ملفات اليمامة

ثنائيات الشعر: اضطرابات نفسية وتجليات العصاب عند المتنبي

ثنائيات الشعر: اضطرابات نفسية وتجليات العصاب عند المتنبي قراءة في قصيدة واحر قلباه وفق المنهج النفسي بقلم: أماني حمد/ باحثة أماني حمد الشعر انعكاس لما يجول في الأخلاد، وما هو إلا مرآة لما يدور في النفوس، فالشعر تنفيس عن الهموم، وتفريج للكروب، وتفجير للحروب والصراعات الداخلية، وبث التجارب والأمنيات، والاعتراف بخيبات الواقع والهروب من خذلانه، والتحليق في الأماني العلية، والأحلام المنتظرة، فها هي ثنائيات الألم والأمل، والواقع واللاواقع، والشعور واللاشعور، تتجلى في أبهى حُللها في الشعر العربي، لا سيما قصيدة (واحر قلباه)، لأبي الطيب المتنبي، التي يلوم فيها ويعتب، يحب ويسخط، ينكسر وينتصر، يمدح الممدوح ثم يتركه ويفخر بنفسه، اضطرابات واضحة، تدل على نفسية حزينة منكسرة، ونرجسية منتصرة في آنٍ معًا، و ما كان منه إلا إسقاط عُقده النفسية على القصيدة. فالمتنبي إنسان عصابي، والعصاب هو وصف لحالة اضطراب تشمل القلق الذي يتم التعبير عنه من خلال آليات دفاعية تتبلور في صورة مخاوف أو وساوس أو اضطرابات سلوكية . واستنادا إلى ما سبق نلاحظ الاضطراب النفسي عند المتنبي، قد ظهر من خلال التعبير عن مخاوفه من فقد سيف الدولة، في نسق من الأفكار العصابية، وما ينتج عنها من نتائج أمن بها، ومن الاستحالة أن يستطيع أحد أن يقنعه بغيرها، أو أن يصل معه ولو لمرحلة الشك؛ فهو مقتنع بتلك النتائج من الوساوس والمخاوف حقَّ الاقتناع، ومؤمن بها كل الإيمان. وإذا تاملنا القصيدة نجد الاضرابات النفسية لدى المتنبي واضحة، فالاستهلال كان منافيا للختام، فبدا المتنبي منكسرا في بداية القصيدة، ومنتصرا في نهاياتها وفي طياتها، أما الانكسار فبان جليا في قوله : واحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ مالي أُكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَدي وَتَدَّعي حُبَّ سَيفِ الدَولَةِ الأُمَمُ فالانكسار تجلى باستخدام أسلوب الندبة المتفجر بالتوجع والألم، مقابل اللامبالاة عند سيف الدولة، وعدم اكتراثه لحجم الألم الذي سببه للمتنبي، وتلك مقارنة واضحة بين النار المضرمة في ضلوع المتنبي وبرود سيف الدولة القاتل، وأشار الشاعر إلى نسق في اللاوعي الجمعي، وهو الجهاد في كتم الحب وعدم الاعتراف به وعدم التعبير عنه ومحاولة إخفائه، وكأنه منقصة لدى الرجل الشرقي فضعف كبريائه وينتقص من رجولته، ولكنَّ نُحول جسمه كشفه وفضحه، فلم يستطع إخفاء ذلك الحب، ثم حاول إثبات ذلك الحب الصادق الذي ينافي حب المتظاهرين والمدعين حب سيف الدولة. لكن هذا الانكسار أبى إلا أن يوشحه بشي من المكابرة؛ وذلك من خلال تغليبه ضمير الجمع (يجمعنا، نقتسم) في مقابل ضمير المفرد حين قصد سيف الدولة في (غرته). وعليه فالمتنبي أذاب كل الشخصيات التي تدعي حب سيف الدولة في شخصيته، وربما هذا الموضع الوحيد الذي كانت في الأنا غائبة، وهذا في قوله: إن كانَ يَجمَعُنا حُبٌّ لِغُرَّتِهِ فَلَيتَ أَنّا بِقَدرِ الحُبِّ نَقتَسِمُ ورغم الألم المتفجر في المشهد السابق إلّا إن الفارس العربي لا يتخلى عن زجّ روح الشجاعة والإقدام وذكر المعارك والحروب، وما يتخللها من انتصارات وتضحيات وبطولات، فالفخر بكل ما سبق ملازمة لشعراء العرب بل ضرورة، ونرى ذلك في قوله أن سيف الدولة من أحسن الخلق في كل حالاته، أي في السلم وفي الحرب: قَد زُرتُهُ وَسُيوفُ الهِندِ مُغمَدَةٌ وَقَد نَظَرتُ إِلَيهِ وَالسُيوفُ دَمُ فَكانَ أَحسَنَ خَلقِ اللَهِ كُلِّهِمِ وَكانَ أَحسَنَ مافي الأَحسَنِ الشِيَمُ ولكن هذا المدح بسيف الدولة المبالغ به ربما كان يحمل هجاء مبطنا؛ لأنه وصف حربا لم تحدث أصلا، وربما يشير إلى أنه أمير لا يستحق الإمارة، وهذا من باب الحسد والغيرة والنقص عند المتنبي، فهو كان طامحا للوصول إلى أعلى مراتب الشهرة، ويَعُدُّ نفسه لا يقل أهمية عن الأمراء والملوك، وعليه، فإما أن يكون قدْ بالغ في مدحه، أو هجاه هجاء مبطنا خاصة أن الدولة الحمدانية لم تكن قوية، وكانت تعاني اضطرابات كثيرة كما فشلت في مواجهة الفاطميين ، وهذا في قوله : فَوتُ العَدُوِّ الَّذي يَمَّمتَهُ ظَفَرٌ في طَيِّهِ أَسَفٌ في طَيِّهِ نِعَمُ قَد نابَ عَنكَ شَديدُ الخَوفِ وَاِصطَنَعَت لَكَ المَهابَةُ مالا تَصنَعُ البُهَمُ أَلزَمتَ نَفسَكَ شَيئاً لَيسَ يَلزَمُها أَن لا يُوارِيَهُم أَرضٌ وَلا عَلَمُ أَكُلَّما رُمتَ جَيشاً فَاِنثَنى هَرَباً تَصَرَّفَت بِكَ في آثارِهِ الهِمَمُ عَلَيكَ هَزمُهُمُ في كُل مُعتَرَكٍ وَما عَلَيكَ بِهِم عارٌ إِذا اِنهَزَموا أَما تَرى ظَفَراً حُلواً سِوى ظَفَر تَصافَحَت فيهِ بيضُ الهِندِ وَاللِمَمُ يواصل المتنبي عتابه ولومه لسيف الدولة مبديا شعوره بالاضطهاد وهذا ما يسميه علماء النفس بهذيان الاضطهاد المقرون بفكرة العظمة كما أنّ هذا الاضطهاد يكون عن بعد بوسائل سحرية ، وهذا ما يفسر شعور المتنبي بالحسد من كل من كان حوله وغيرتهم منه لقربه من سيف الدولة. يا أَعدَلَ الناسِ إِلّا في مُعامَلَتي فيكَ الخِصامُ وَأَنتَ الخَصمُ وَالحَكَمُ أُعيذُها نَظَراتٍ مِنكَ صادِقَةً أَن تَحسَبَ الشَحمَ فيمَن شَحمُهُ وَرَمُ وسرعان ما ينتقل إلى حالة التكبر والجبرت والاعتداد بالنفس، ويتكلم بجرأة مطلقة تنمّ عن ثقة عمياء بنفسه، وعدم الأخذ بأي اعتبار بأنه يتكلم مع ملك فلم يكن يرى غير نفسه، فيتهم سيف الدولة بالعمى؛ لأنه لا يميز بينه (النور) وبين غيره (الظلام)، وهذا ليس بغريب عليه؛ كونه مصابا بجنون العظمة، فهو مقتنع تماما باستثنائيته ومثاليته، ومن أشهر شخصيات عصره وشاغل بال زمانه، وذلك في قوله : وَما اِنتِفاعُ أَخي الدُنيا بِناظِرِهِ إِذا اِستَوَت عِندَهُ الأَنوارُ وَالظُلَمُ سيعلُم الجمعُ ممن ضمَّ مجلسُنا بأنني خيرُ من تسعى به قَدَمُ وتتضخم الأنا العليا أكثر فأكثر، وهذا ما يسمى بالبارانويا وهي حالة نفسية مرضية توهم صاحبها بأنه مستهدف للتآمر والاضطهاد من الآخرين، ويشعر بالعظمة وأنه نبي أو قائد أو أمير، و ربما يطمح لكل ما تم ذكره مجتمعا، وهذا التوهم يكون منظما ومنطقيا ومقنعا للآخرين، وهذا نابع من شعوره بالزعامة والموهبة بصورة غير واقعية ، ونلاحظ ذلك من خلال القصيدة، ومن خلال استخدامه ضمير الأنا بكل غرور وفوقية، في قوله : أنا الَّذي نَظَرَ الأَعمى إِلى أَدَبي وَأَسمَعَت كَلِماتي مَن بِهِ صَمَمُ أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ وَجاهِلٍ مَدَّهُ في جَهلِهِ ضَحِكي حَتّى أَتَتهُ يَدٌ فَرّاسَةٌ وَفَمُ ويمتزج جنون العظمة أو البارانويا مع التهديد، وهذا ردُّ فعلٍ منطقيٌّ لعظمته وتفسير الاستثنائيته، فالتعالي سيد الموقف: إِذا رأيتَ نُيوبَ اللَيثِ بارِزَةً فَلا تَظُنَّنَّ أَنَّ اللَيثَ يبتَسِمُ وَمُهجَةٍ مُهجَتي مِن هَمِّ صاحِبِها أَدرَكتُها بِجَوادٍ ظَهرُهُ حَرَمُ رِجلاهُ في الرَكضِ رِجلٌ وَاليَدانِ يَدٌ وَفِعلُهُ ما تُريدُ الكَفُّ وَالقَدَمُ وَمُرهَفٍ سِرتُ بَينَ الجَحفَلَينِ بِهِ حَتّى ضَرَبتُ وَمَوجُ المَوتِ يَلتَطِمُ ويستمر المتنبي غارقا بجنون العظمة أو البارانويا من خلال نسبة نفسه إلى الفروسية (الخيل، السيف، الرمح) والشجاعة (الليل، البيداء، الفلوات، الوحش، منفردا)، والعلم والثقافة (القرطاس، القلم)، فشخصيته كاملة متكاملة وشاملة؛ فهو صاحب رسالة، وعالم، و فارس، وشجاع. كما يريد أن يستقل بذاته وفي نسبتها إلى أشياء كالبأس والحرب والسيف والرمح، لا إلى أشخاص فلم ينسبها إلى أبيه . وذلك في قوله: الخَيلُ وَاللَيلُ وَالبَيداءُ تَعرِفُني وَالسَيفُ وَالرُمحُ وَالقِرطاسُ وَالقَلَمُ صَحِبتُ في الفَلَواتِ الوَحشَ مُنفَرِداً حتّى تَعَجَّبَ مِنّي القورُ وَالأَكَمُ ثم نلحظ تساوي الضمائر، وتخليه عن أناه قليلا، في محاولة لتجديد الاعتراف بالحب وإظهاره، وشرح المعاناة بعد الفراق، هذه المعاناة التي لن تكون سهلة حتى لو أنه سيكابر. وذلك في قوله : يا مَن يَعِزُّ عَلَينا أَن نُفارِقَهُم وِجدانُنا كُلَّ شَيءٍ بَعدَكُم عَدَمُ ما كانَ أَخلَقَنا مِنكُم بِتَكرُمَةٍ و أَنَّ أَمرَكُمُ مِن أَمرِنا أَمَمُ إِن كانَ سَرَّكُمُ ما قالَ حاسِدُنا فَما لِجُرحٍ إِذا أَرضاكُمُ أَلَمُ وَبَينَنا لَو رَعَيتُم ذاكَ مَعرِفَةٌ إِنَّ المَعارِفَ في أَهلِ النُهى ذِمَمُ كَم تَطلُبونَ لَنا عَيباً فَيُعجِزُكُم وَيَكرَهُ اللَهُ ما تَأتونَ وَالكَرَمُ ومن العقد النفسية الأخرى عند المتنبي النرجسيةُ، وهي عبارة عن مصطلح له علاقة واضحة بعلم نفس الطفولة، والعصاب والنوم والحب وهي ما وراء الاكتئاب والزهو والحلم، كما تعني عشق الذات والتركيز عليها ويعامل النرجسي من حوله كما أنهم امتداد له وذواتهم ذائبه في ذاته ومن هنا جاءت فكرة عدم حب الآخرين واحترامهم للنرجسيين ، وهذا المصطلح هو امتداد لنظرية الليبيدو . واستنادا إلى ما سبق نرى المتنبي يقدس ذاته ويعشقها، لدرجة أنه ينفي أي عيب أو نقص يمكن أن يتصل بها، وذلك في قوله : ما أَبعَدَ العَيبَ وَالنُقصانَ عَن شَرَفي أَنا الثُرَيّا وَذانِ الشَيبُ وَالهَرَمُ لَيتَ الغَمامَ الَّذي عِندي صَواعِقُهُ يُزيلُهُنَّ إِلى مَن عِندَهُ الدِيَمُ أَرى النَوى تَقتَضيني كُلَّ مَرحَلَةٍ لا تَستَقِلُّ بِها الوَخّادَةُ الرُسُمُ لَئِن تَرَكنَ ضُمَيراً عَن مَيامِنِنا لَيَحدُثَنَّ لِمَن وَدَّعتُهُم نَدَمُ إِذا تَرَحَّلتَ عَن قَومٍ وَقَد قَدَروا أَن لا تُفارِقَهُم فَالراحِلونَ هُمُ رغم كل هذا التغني بالذات وتقديس الأنا العليا، فلا تغيب الحكمة عن ذهن المتنبي، ويعترف في ختام القصيدة بحبه لسيف الدولة وأن هذا الحب هو سبب العتاب، الذي لم يكن خالصا، فقد طعّمه بالكثير من التغني بذاته، ومنه قوله: شرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بِهِ وَشَرُّ ما يَكسِبُ الإِنسانُ ما يَصِمُ وَشَرُّ ما قَنَصَتهُ راحَتي قَنَصٌ شُهبُ البُزاةِ سَواءٌ فيهِ وَالرَخَمُ بِأَيِّ لَفظٍ تَقولُ الشِعرَ زِعنِفَة تَجوزُ عِندَكَ لا عُربٌ وَلا عَجَمُ هَذا عِتابُكَ إِلّا أَنَّهُ مِقَةٌ قَد ضُمِّنَ الدُرَّ إِلّا أَنَّهُ كَلِمُ وبعد، لقد تعرفنا على المتنبي الشاعر الإنسان، وما يجول في إعماق نفسه من حروب ضرسة، وصراعات شرسة، ورغبات مكبوتة، تدحرجت في شعره، وكشفت الستار عن الشخصية القوية المختبئة خلف نرجسيتها، وهذا لا يعني أبدا التقليل من حجم تلك الشخصية، بل على العكس فقد عمد المقال إلى الكشف عن الجوانب النفسية لدى الشاعر ومدى قدرته الفذة على توظيفه اللغة وفقا لشعوره، وتطويع المقروء لما هو محسوس.

زر الذهاب إلى الأعلى