ثقافة

الفنيق وصياغة الحكاية: قراءة في قصيدة آخر كلام للشاعر زاهر حنني 

بقلم: خالد خضر يوسف

الفنيق وصياغة الحكاية: قراءة في قصيدة آخر كلام للشاعر زاهر حنني

بقلم: خالد خضر يوسف/ باحث 

ليس سهلا أن يستخرج القارئ مكنون النص الشعري وخبيئته من القراءة الأولى، لكن الانطباع الأولي الذي تتركه القراءة يجرّ القارئ إلى تكرار القراءة بهدف العودة إلى المتعة، ومحاولة الوصول إلى فهم أعمق لما يضمره الشاعر في حنايا النص .

وآخر الكلام للشاعر د. زاهر حنني بيان الإنسان الفلسطيني وصرخته في وجه الواقع العجيب، والقصيدة رسالة إلى العالم بآخر الكلام الذي لا قول بعده، فالشاعر هو الإنسان الفلسطيني في كل مكان في الأرض، ولسان حاله وعقله الباطن، وحواره مع نفسه وتساؤلاته الحيرى الكبيرة : أين الوطن ؟ لم الفرار ؟ التي تفتح فضاء الذهن إلى أوسع مدى في محاولة لتفسير حالة الضياع العربي وانهيار المبادئ، وتساقط العرب تباعا في الوحل، وحالة الفوضى الفلسطينية وضبابية الصورة.

الآن…

تفترشُ الصحارى همَّنا

وتضيعُ فينا مرةً أخرى

ولن يكون هذا الوجع ( هي رحلة كبرى وألوية غريبة ) نهاية الفلسطيني لأنه الأصل وصاحب الحق والأرض، الفينيق الذي يخرج من موته في كل مرة كي بصنع قصة مجده، ويعيد صياغة الحكاية من جديد

هي رحلةٌ كبرى وألويةٌ غريبة

ستخرجُ من ظلالِ الروحِ

قصتُكَ الرهيبة

وَتُعِدُّ آمالاً

وأعلاماً

تعلقُها على نزقِ الحياةِ

وسوفَ تمضي حاملاً عبئاً جديداً

كُنَّا هنا..

رَقَصَتْ على أشلائِنا آياتُنا

مِتْنَا هنا..

والموتُ جمَّعَنَا

قُمْنَا هنا..

وتبعثرتْ سُحُبُ الرُّكامِ، تبدلتْ أسماؤُنا

عُدْنَا هنا…

كنا ومتنا وقمنا وعدنا هنا على هذه الأرض ولن ننتهي، ونحن نخرج من الوجع لنعيد تصحيح مسار البوصلة، ونعيد كتابة الواقع والمستقبل اتكاء على وجودنا التاريخي، وتستخدم سلسة التراكيب ( كنا هنا، متنا هنا، قمنا هنا، عدنا هنا ) اللغة الجمعية؛ لأن الكل في الهم سواء، والكل مسؤول والكل صاحب حق وعليه واجب ولابد أن تكون له وقفة، والوطن للكل والكل للزطن، وتنطلق من سلسلة التراكيب هذه محاولة تصحيح المسار وتوضيح المشهد .

ويلجأ الشاعر لأجل هذا الهدف إلى التناص الديني مع ما أثر عن النبي ﷺ ” إياكم وخضراء الدمن”

وقامت الشبهاتُ وانطلقَ الوشاةُ لحضنِ خضراءِ الدِّمَن

فالذين طعنوا الفلسطيني في ظهره ارتموا في حضن سقوط لا قعر له، وستكتب نهايتهم خضراء الدمن، وهو وصف دقيق لكيان الوهم الغربي، الذي يخلب بسمعته الزائفة وهيئته الكاذبة ألباب السفهاء، ثم تكون العاقبة وبالا عليهم، فكان الشاعر موفقًا في انتقاء هذا الوصف النبوي .

وعندما تعصف بالفلسطيني حالة التفرق والفوضى في واقعه المتأزم، تنتج حيرة يفقد فيها الجميع القدرة على التفريق بين الصواب والخطأ :

وبقيتُ أبحثُ عن خطايَ وعن.. وعن

….

واليوم…

تعصفُ بي نبوءاتُ التفرقِ والتلاقي

ما عدتُ أعرفُ كيفَ ينبلجُ انطلاقي

خبأتُني بينَ احتراقي وافتراقي

يقف عندها الشاعر ثابتًا أمام عواصف التفرق والتيه، فهو من يرسم معالم الطريق هنا في أرضه، وعلى تراب وطنه، فقد عثر على نفسه، ووجد طريق الحلم

وأعدتُ ترتيبَ اشتياقي.. ها هنا

حتى أفرَّ من السباقِ

لِمَ الفرارُ!؟

اقعدْ… فأنتَ الآنَ لازمةُ التوحُّدِ والبُهاقِ

أنتَ مفتاحُ التأملِ في العِناقِ

لقد مات سيزيف رمز العذاب الأبدي، وعلى الفلسطيني أن ينهي رحلة عذابه ومسيرة آلامه، وأن يعيد تجميع أشلائه لنهوض من جديد، إنه الأمل الوحيد والأخير الذي يمكن أن يشفي الحاضر العربي المعتلّ بالأوبئة.

تمثل القصيدة ردا على جريمة الأعلام الصهيونية التي خرجت لهدف واحد هو إعادة الثقة بالنفس، وإثبات الوجود في ظل تصاعد أثر الوجود الفلسطيني في المدينة المقدسة وفلسطين التاريخية، رغم عقود التهويد الطويلة ( هي رحلة كبرى وأعلام غريبة ) فالزمن لا يغير شيئا فالغريب غريب وإن طال به الدهر (عدنا هنا … آه يا قدسي ) ورحلة الغريب التي بدأت منذ زمن بعيد إلى هنا، بدأت تنسج تذكرة العودة من قماش أعلامها الغريبة، ويبقى مكانه العلم الحقيقي الأصيل ( وَتُعِدُّ آمالاً / وأعلاماً / تعلقُها على نزقِ الحياةِ ).

إنها آخر الكلام الفلسطيني الذي يمر عبر وقفة مع الذات لتصحيح خط السير، وتحديد طريق الحل، وآخر الكلام إلى العدو ومن خلفه العالم أجمع، كنا هنا ونحن هنا أمس واليوم وغدا، وهذا الوجود والصمود أصبح أيقونة النصر، وجسر العبور إلى الحرية، والعودة من المنفى إلى المرسى.

نص القصيدة:

آخر الكلام…

شعر: د. زاهر حنني

الآن…

تفترشُ الصحارى همَّنا

وتضيعُ فينا مرةً أخرى

دعْ عنكَ سيلَ دموعِكَ الحَرَّى

وفتنتَكَ العجيبة

هي رحلةٌ كبرى وألويةٌ غريبة

ستخرجُ من ظلالِ الروحِ

قصتُكَ الرهيبة

وَتُعِدُّ آمالاً

وأعلاماً

تعلقُها على نزقِ الحياةِ

وسوفَ تمضي حاملاً عبئاً جديداً

كُنَّا هنا..

رَقَصَتْ على أشلائِنا آياتُنا

مِتْنَا هنا..

والموتُ جمَّعَنَا

قُمْنَا هنا..

وتبعثرتْ سُحُبُ الرُّكامِ، تبدلتْ أسماؤُنا

عُدْنَا هنا…

*******

جَمَّعْتُ أوزاري وأوزارَ المِحَن وحفظتُها في جعبتي ملءَ الزمن

يا قارئِي، فتِّش قرابينَ الفِتَن تنبيكَ أني زائرٌ، أينَ الوطن؟؟؟؟

كلُّ الرؤى عاينتُها، متلهفاً، وبقيتُ أبحثُ عن خطايَ وعن.. وعن

سيزيفُ ماتَ، وقامت الشبهاتُ وانطلقَ الوشاةُ لحضنِ خضراءِ الدِّمَن

*******

واليوم…

تعصفُ بي نبوءاتُ التفرقِ والتلاقي

ما عدتُ أعرفُ كيفَ ينبلجُ انطلاقي

خبأتُني بينَ احتراقي وافتراقي

ووجدتُني ما بينَ أحداقي وساقي

فكشفتُ أوراقي

أنا…

وأعدتُ ترتيبَ اشتياقي.. ها هنا

حتى أفرَّ من السباقِ

لِمَ الفرارُ!؟

اقعدْ… فأنتَ الآنَ لازمةُ التوحُّدِ والبُهاقِ

أنتَ مفتاحُ التأملِ في العِناقِ

وأنتَ مغلاقُ التأزمِ في شفاهِ الوردِ أنت

وأنتَ أكبرُ تحفةٍ فنيةٍ صَنَعَتْكَ آلهةُ الشِّباقِ

وأنتَ أصغرُ ما يراهُ المترفون

وهم يعيدونَ الشآم إلى العراق

وهم يمدون الجسورَ من الحنينِ إلى السباقِ

والقدسُ مئذنةُ الزمانِ وصرخةٌ من قحفِ رأسِ

آهِ يا قدسي

******

بيت فوريك/ 2022

زر الذهاب إلى الأعلى