مقالات

الكون الروائي.. قراءة في تجربة الكاتب “كمال صبح” الروائية.. بقلم: عبد الرحيم حمدان

الكون الروائي.. قرااءة في تجربة الكاتب (كمال صبح) الروائية

رواية (إيفانوف في إسرائيل) شاهد على النكبة أنموذجاً.

إعداد د. عبد الرحيم حمدان

 

صدر عن مكتبة سمير منصور للطباعة والنشر والتوزيع بغزة، فلسطين، رواية” ايفانوف في إسرائيل، شاهد على النكبة” للكاتب كمال صبح([1]) سنة ٢٠٢٣م، في طبعتها الأولى، وتقع الرواية في (٢٣٩) صفحة من القطع المتوسط في طباعة أنيقة ورائعة.

ملخص الرواية:

تحكي الرواية حكاية طفل روسيّ يسكن في قرية (فياتسكو) بالقرب من موسكو، ماتت والدته، فتزوج والده من “إيستر” جارته اليهودية، انتقلت “إيستر” وبنتها “راحيل” الطفلة؛ لتسكن معهم، وذلك مع بدايات الحرب العالمية الثانية، تبذل “إيستر” كل جهدها لإقناع والد “ايفانوف” بالهجرة إلى فلسطين، بمساعدة “أربيل” منسق الوكالة اليهودية، فيهاجرون معاً إلى كيبوتس (بيتاح تكفا) المقامة على جزء من أراضي قرية (ملبس) الفلسطينية، يقضي “إيفانوف” حقبة صباه وشبابه بين أسلاك الكيبوتس، ويتزوج من “راحيل” التي تجبره على الانضمام إلى منظمة (البلماح) الصهيونية، ويشهد معها كل ما كانت تقوم به العصابات الصهيونية من: قتل وسرقة وتدمير للقرى العربية المجاورة، كما يشهد معها موجات الهجرة الصهيونية إلى فلسطين من شتى أصقاع العالم، وقد شهد تواطؤ الانتداب البريطاني معهم، وفي النهاية يهرب “إيفانوف” من الكيبوتس، فيصادف في طريق هروبه فلسطيني هارب من قريته، يدعى “كريم”، ويسيران معاً حتى يستقرا في حي العجمي في يافا، ويشهد في طريقه كل المجازر التي نفذتها القوات الصهيونية في القرى العربية، ثم يقرر الهرب أخيراً بأبنائه عائداً إلى قريته في روسيا، وفي طريق عودته يروي لأبنائه الثلاثة قصته منذ أن كان طفلاً يبكي أمام جسد أمه المسجى.

وتمثل رواية (إينافوف في إسرائيل) أشبه ما تكون بسيرة ذاتية طويلة، متواصلة بلا فصول، وهي رواية واقعية تاريخية يتذكر فيها البطل كل اللحظات الصعبة التي قضاها في إسرائيل برفقة زوجته اليهودية (راحيل)، وكلّ ما عاناه من خيبات الأمل في تواجده في كبوتس( بيتاح تكفا).

تعد هذه الرواية في مجملها عملاً روائياً متكاملاً: شكلاً ومضموناً، إذ تثير عدداً من الإشكالات والتساؤلات التي تحتاج الإجابة عنها، وبذلك يبرز ملمح نقدي مهم، وهو اهتمام الروائي بالمتلقي، وإعطائه رقعة واسعة؛ ليسبح فيها في سبيل الوصول إلى المعاني والأفكار والدلالات والرموز التي يود الكاتب  نقلها للمتلقي،  إثارة له، لكي يصل إليها بنفسه؛ فتزداد متعته وثقته بنفسه، فالمتلقي مبدع ثان للعمل الأدبي، يساهم في إعادة إنتاج الدلالات  والمعاني وتفسيرها وتحليل عناصر العمل الفني  الأساسية . وفي الإمكان دراسة هذه الإطلالة النقدية من خلال بعدين:

البعد الأول: المضامين الفكرية في الرواية.

أثارت هذه الرواية جملة من الإشكالات والتساؤلات التي  تحتاج من المتلقي أن يجد لها أجوبة؛ لتصل إليه رسالة المؤلف التي تغيَّا نقلها؛ بقصد إثارته، ومن هذه الإشكالات:

أ -إشكالية العلاقة بين السرد التاريخي والسرد الروائي،

تعد رواية الكاتب وثيقة  تاريخية مهمة، رصد فيها بدقة تاريخ فلسطين في حقبة الحرب العالمية الثانية، وإعلان دولة الصهاينة 1948م.

وعليه، فإن السؤال الذي يثار هو:  هل ما قام به الكاتب هو عملية إعادة للتاريخ واجتراره، أم أنه وظف التاريخ؛ ليخدم العمل الأدبي؟

إذن هنالك حقائق تاريخية في الرواية، استمدها الكاتب من الكتب والمذكرات والوثائق التي أرخت لتلك الفترة، لكن بعد المقارنة بين ما جاء في الرواية وبين ما أرخت له كتب التاريخ، نلحظ أن الروائي لم يعمد إلى تكرار أحداث ووقائع نعثر عليها في أي كتاب تاريخي، وإنما عمد إلى اتخاذ التاريخ إطـاراً عاماً لمادته الأدبية، فالتاريخ هو الإطار المحيط بالأحداث الثورية. فمن الوثائق التاريخية ما أورده الكاتب في قوله:

“أنتم أبناء مجموعة صهيون الأولى، إذ إنكم جميعاً تعيشون في بتاح تكفا، فإن مسئولية ترويع القرويين في قرية ملبس تقع  على عاتقكم، كل عمل تقومون به من حرق لمزارعهم أو قتل لأبنائهم، ستتحمل منظمات الأرجون وشتيرن مسئوليته، وبعلاقتنا مع بريطانيا سنكون قد حققنا هدفين معاً، طرد العرب وخداع بريطانيا، لذلك عليكم ان تكثفوا من أعمالكم، ولكن بعيداً عن أعين الإنجليز”( الرواية، ص: ٧٢ ).

استخدم الكاتب في المجتزأ السابق الإطار العام للحقبة التاريخية، ولم يَسْعَ لرصد حوادث تاريخية، فقـد عمد  للخيال المؤطّر بالحقيقة والواقع؛ ليقترب به من الواقع.

والحقيقة، فقد قدم الكاتب حقائق ووقائع تاريخية ثابتة، ذلك أنه  استعين بالوثائق التاريخية، والمذكرات والمصادر التاريخية الأصيلة التي تتعلق بمادة روايته، وقام بمزجها بالسرد الروائي، فهو لا يتعامل مع أحداث الرواية التاريخية بطريقة فوتوغرافية، أي: ينقلها كما هي، وإنما يتعالق معها ويحولها إلى مادة روائية.

ب – إشكالية كشف زيف المجتمع الإسرائيلي:

 حاولت الرواية كشف زيف المجتمع الإسرائيلي القائم على تفعيل الهجرة إلى فلسطين، وتعرية الدعاية الصهيونية التي كانت تزين للمهاجرين القول بأنهم ذاهبون إلى أرض الجنة (جنة السماء والأرض) أرض الميعاد، أرض السمن والعسل، وتكشف أن هذه الدعاية الصهيونية مبنية على التحايل والإغراء والكذب، وتكشف عن شريحة المهاجرين الذين أغوتهم الدعاية الصهيونية للهجرة إلى كيان الاحتلال، ليتفاجؤوا بأن كل ما قيل لهم من وعود هو مجرد أكاذيب ووهم.

ج- إشكالية المنظمات الصهيونية الإرهابية مثل: منظمة “شتيرم” “الأرغون”، و”الهاجاناة”، ومنظمة البلماح،  وما ارتكبته هذه المنظمات الإجرامية من مجازر ضد الفلسطيني من: قتل وتدمیر وحرق وسلب ونهب.

وتذكر الرواية أن راحيل زوجة إيفانوف قد أجبرته  على الانضمام الى منظمة “البلماح” الصهيونية، وشهد معها كل ما كانت تقوم به تلك العصابات  من قتل، سرقة، وتدمير للقرى العربية المجاورة. ذلك أن المتلقي  حينما يقرأ الرواية يشعر بحجم المأساة التي عانى منها الشعب الفلسطيني تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي ووحشيته وعنصريته. ومن الوثائق التاريخية ما أورده الكاتب في قوله:

“أنتم أبناء مجموعة صهيون الأولى، إذ إنكم جميعاً تعيشون في بتاح تكفا، فإن مسئولية ترويع القرويين في قرية (ملبس) تقع على عاتقكم، كل عمل تقومون به من حرق لمزارعهم أو قتل لأبنائهم، ستحمل منظماتا الأرجون وشتيرن مسئوليته، وبعلاقتنا مع بريطانيا سنكون قد حققنا هدفين معا، طرد العرب، وخداع بريطانيا، لذلك عليكم أن تكثفوا من أعمالكم، ولكن بعيدا أعين الإنجليز” (الرواية ص: ٧٢).

د – إشكالية تواطؤ الانتداب الإنجليزي مع العصابات الصهيونية.

أشارت الرواية بدون ذكر التفاصيل التاريخية إلى علاقة المنظمات الصهيونية بالانتداب البريطاني وافتعال الأزمات، وكيف كان الانتداب يترك مخازن الأسلحة دون حراسة،  وهو يعلم أن هذه العصابات ستقوم بسرقتها، ويفتعل البحث عنها، مبيناً أن أكثر من كان يعاني من عمليات البحث في أعقاب كل عملية سرقة للسلاح هي القرى العربية. وينقل السارد البطل الحوار الذي دار بينه وبين زوجته  راحيل التي قالت:

“قبل اقتحام المعسكر اتفقنا مع الحراس الذين رأيتهم، وهم  من اختار لنا هذا التوقيت، بعد تفريغ المخزن كان لا بد من قتلهم وافتعال اشتباك سينسحب منه شبابنا بعد لحظات.

 – ولماذا نقتلهم وقد أكفونا عناء المواجهة مع جند

المعسكر؟!

  – لأننا لو لم نقتلهم، سيعرف الإنجليز خيانتهم وربما قادهم التحقيق إلينا، ستبدو عملية سطو عادية والموتى يسألهم أحد“( الرواية، ص: ٩٨).

ه – زيف الدعاية الصهيونية ضد سكان فلسطين الأصليين( القرويين)، ورسم صور بشعة للتعامل معهم بشكل متعمد ومدروس.

ويرى المتلقي أن المبدع عانى معاناة شديدة لنقل الحدث الروائي من حيز التاريخي / الواقعي إلى فضاء الإبداع، وهو في سبيل نقله كان ضرورياً أن يمر الحدث بمصفاة لتنقية ما يصلح للعمل الروائي وما لا يصلح منه.

و – إشكالية أن الرواية تنتمي إلى رواية الشخصية:

الشخصية البؤرية في الرواية هي شخصية (إيفانوف)، وهي شخصية تخييلية من ابتداع  بنات أفكار الكاتب وخياله، والرواية بمثابة سيرة ذاتية لبطل الرواية، وهو الفاعل الأوّل في الرواية.

برزت قوة السرد للأحداث، من خلال شرح الكاتب على لسان بطل روايته خلال رحلة عودته لبلاده، عن الأهوال التي شهدها طيلة حياته، منذ أن كان طفلاً يبكي أمام جسد أمه المسجى، إلى العصابات التي أُجبر على أن يكن فردًا منها، إرضاءً لزوجته، مرورًا بكل المجازر والانتهاكات التي مارستها تلك العصابات الصهيونية بحق العرب.

٣- صورة المرأة الصهيونية في الرواية.

وقد تمثل تلك الصورة في كل من شخصية “استير”، وشخصية “راحيل” اللتين قامتا بدور فاعل في خدمة الأفكار والمبادئ الصهيونية، وأدتا دوراً مهماً في العمليات الإرهابية تُجاه الفلسطينيين أصحاب الأرض وأهلها،  وكانت المرأتان تمثلان نموذجاً حياً تعكسان دور المرأة الصهيونية، وما تملكه من سلاح الجنس والحيلة والخداع من أجل خدمة أغراض الصهيونية.

ويرى المتلقي أن المبدع عانى معاناة شديدة لنقل الحدث الروائي من حيز التاريخي/الواقعي إلى فضاء الإبداع، وهو في سبيل نقله كان ضرورياً أن يمر الحدث بمصفاة لتنقية ما يصلح للعمل الروائي وما لا يصلح منه.

بيد أن المؤلف وُفق في تحقيق التناغم الدقيق والتوازن المنشود بين السرد التاريخي والسرد الروائي، وتمكن من المزج والتعالق بينهما. وأبقى الإجابة عن بعض الأسئلة للمتلقين؛ ليجدوا الإجابة بأنفسهم،  مثال ذلك الحوار الذي دار بين راحيل وزوجها إيفانوف، تقول:

“- نحن أصحاب الأرض التي يقيمون عليها ويزرعونها.

 -أي أرض يا راحيل؟ ألم نترك أرضنا في فياتسكو، كيف نكون أصحاب هذه الأرض أيضاً؟

– لا عليك يا حبيبي، أنت لم تدرس التلمود مثلي، كنت ستعرف كيف نكون أصحاب هذه الأرض  (الرواية ، ص ٤٧) .

المبحث الثاني والأخير: التقنيات السردية في الرواية، وكيفية استخدمها لخدمة بناء الرواية.

تتمثل هذه التقنيات الفنية في العناصر الآتية:

أ – البناء الفني: 

جاء البناء الفني في الرواية بناءً  محكماً بمعنى: تضامن جميع عناصر النص لإقامة تشكيل جمالي يحمل رؤية جمالية معينة([2])،  إذ صبَّ المؤلف رؤيته ووجهة نظره في قالب فني يستسيغه المتلقي، ويتعامل معه.

في الواقع، لقد شدَّ السبك الروائي الذي قدمه الكاتب في روايته القارئ، حيث اشتمل على العناصر الفنية الأساسية، دون ترهل أو إسفاف .

وهذا البناء الفني يقود  إلى اتصاف الرواية بسمة الانضباط، إذ تبين للقارئ أن الرواية منضبطة في أحداثها، وفي شخصياتها. وفي لغتها، وفي حدودها، وفي هدفها، زمانها ومكانها لا يخرج المؤلف عن هذا الانضباط  ولا يحيد عنه.

ومما ساند البناء الفني في الرواية ودعمه عدم تدخل الراوي على لسان الشخصيات بميوله وأهوائه، فلم تجنح الرواية للتلقي المباشر، المفعم بالنصح والإرشاد، بطريق المباشرة والتقريرية.

بيد أن الكاتب كان يتدخل في شرح المفردات والمصطلحات في الهامش التي يمكن أن تكون فيها مشقة للقارئ مثل شرحه لمفردة الكيباة: “الكيباة هي قبعة صغيرة يلبسها المتدينون من اليهود في طقوسهم الدينية. (إيفانوف في إسرائيل ،ص ٥٢).

ومثل شرحه في الهامش لفئة البلاشفة “البلاشفة هم فرقة من الحزب الشيوعي الروسي الذين قاموا بثورة العاشر من اكتوبر عام ١٩١٧م ؛ لإنهاء حكم القياصرة”. (إيفانوف في إسرائيل ٥٣).

ب – العتبات النصية:

ومن بين أهم العتبات النصية التي وظفها الكاتب؛ العنوانُ واستفتاحُ الرواية:

1 – العنوان:

يمثل العنوان أحد عتبات النص المهمة التي يجب انتقاؤها بحرص شديد؛ فهي مفتاحية النص التي تجرّ القارئ إلى المضي قدماً في متابعة النص للتعرف إلى مدى تطابق هذا العنوان مع ما تبادر لذهنه، ومدى تطابقه مع تفسيره الدلالي للمعنى، ولهذا فإن الرواية ليست بحاجة ماسة إلى عناوين دلالية رمزية جاذبة للقارئ؛ لأن في مكنة المتلقي أن يكتشف ما يرمز له الاسم من دلالات ورموز خاصة في ظل هذا الكم الكبير من الروايات الصادرة في الآونة الأخيرة، وعلينا أن ندرك بأننا أمام عمل أدبي عميق الفكر، ثري المفردات، بديع اللغة، متقن السرد. جاء عنوان الرواية على هذه الصورة (إيفانوف في إسرائيل، شاهد على النكبة).

المتأمل في العنوان يجد أنه  يُحدد بدقة بعض العناصر الأساسية في البناء الفني وهي: الشخصية، أما المكان، ففي إسرائيل، وأما الزمان، فعبارة “شاهد على النكبة” بوصفه عنواناً مساعداً، أي: في منتصف الحرب العالمية الثانية وتهجير الشعب الفلسطيني سنة 1948 م، وهذه الدلالات تعطي للعنوان قيمة تعبيرية وجمالية.

عنوان الرواية إذن يثير الكثير من الفضول والتساؤلات، فاسم (إينانوف) غير مألوف في بلادنا العربيّة، وغير متداول،  وتجعل المتلقي يطرح تساؤلات تحتاج إلى إجابات: ماذا تعني مفردة (إينانوف)، وإلى أي البلاد تعود؟!

عنوان الرواية بلا أدنى شك يشير إلى دقة في الاختيار، إنه يتحدث عن روسيِّ مهاجر عانى الأمرين في دولة عنصرية تُجاهه، وتُجاه الفلسطينيين، ونهاية الرواية بطرحها هذا قريبةٌ من رواية (ناغوغي الصغير) للكاتب حسن حميد([3]) حيث كانت النهاية متماثلة بينهما، إذ جاءت عودة بطلي الروايتين إلى الوطن الأم متماثلة، (ناغوغي) اليهودي المهاجر إلى إثيوبيا، و(إيفانوف) إلى موسكو بعد أن عاشا الويل في دولة تحكمها عقلية الحرب والأمن، وواقع لا يوجد فيه لا سمن ولا عسل، بل صراع وتوتر دائم، وملاحقات أمنية لا تنتهي، وخوف من أي شيء، وكل شيء.

2 – الاستفتاح: 

تعد البداية أو الاستهلال بذرة النص وأرضه الخصبة، وهي المحركة لعجلته، والمؤثرة في بنيته، الفاعلة في شدّ أوصاله، وجمع خيوطه، وتشكيل صوره، وإحداث التأثير المطلوب في نسيجه الكلي، ومن هنا تتميز بأهميتها الفنية في البناء الفني، ويقصد بالاستهلال المفتتح الذي بدأت به الرواية، إذ اتبع الكاتب في بناء روايته البناء الدائري الذي يعد  من أبرز أشكال البناء في الرواية العربية الحديثة؛ لذا يمثل الاستهلال أهم العتبـات النصية الموازية التي تحيط بالنص الأدبي خارجياً.

ويعد الاستهلال في السياق نفسه مـن أهـم عناصر البناء الفني، وعلى ذلك فالاستهلال من أهم الكتابة القصصية؛ لما لها من دور مهم في حسم خطاب القصة وتشكيل رؤيتها وبيان نموذجها.

وبهذا تبدأ الرواية من النهاية؛ لتعرض التفاصيل إلى النهاية التي هي البداية بحد ذاتها، وما يوضح ذلك بدء القصة وختامها، إذ بدأت القصة بالهجرة من روسيا إلى إسرائيل، وتنتهي الرواية بهروب البطل وأبنائه من إسرائيل إلى روسيا .

استخدمت الرواية في بناء أحداثها البناء الدائري، ويقصد به أن “تُسرد القصة منطلقة من نقطة متأخرة في أحداث القصة بحيث تبدأ في النهاية ثم تعود إلى الوراء من اجل عرض تفاصيل القصة إلى أن تصل النهاية التي تبدأ منها مرة أخرى”([4]). وفي هذا النسق تكون البداية مطابقة للنهاية”([5]). يعبر النسق الدائري في النص الروائي عن ” استمرارية الماضي في الحاضر، وتكرارية الحدث عبر التاريخ”([6]).

 

يحمل هذا النسق الدائري في حناياه عنصر التشويق والإثارة والشغف، فالرواية تبدأ من النهاية، حيث يصف البطل لأبنائه معاناته منذ أن ترك قريته في روسيا إلى هذه اللحظة، يقول مخاطباً أبناءه مبتدأ روايته التي اعتمدت على تقنية التذكر الممزوجة بتقنية الارتداد إيفانوف:

” سأخبركم بقصتي من بدايتها… في قرية فياتسكو في الريف الروسي البارد، لفظتْ أمي أنفاسها الأخيرة، ما زلت أذكر صرخة “إيستر”، جارتنا الأرملة اليهودية الشابة حين انفجرت تزلزل جدران الإسطبل الصغير اهتزت جدران الصفيح والخشب، وبملامح جامدة وباردة كنت أنظر إليها تتلوى فوق بساط من الصوف في الباحة الصغيرة داخل باب الإسطبل أبي كان في مزرعته، لم أذهب لإحضاره كما طلبت “إيستر” كانت تمسح عن أمي عرقها المتفصد من كل مسامات وجهها الشاحب رغم الثلوج التي كادت أن تغلق مدخل الإسطبل، خرجت تهرول إلى كوخها القريب، وعادت تحمل إناء نحاسيا يفيض بالماء الساخن صرخت وهي تمر بجواري كعاصفة باردة: 

–   اذهب يا إيفانوف إلى المزرعة، وأخبر والدك أن يأتي بسرعة”  (الرواية، ص: 11 ).

ب – المكان في الرواية:

تناولت الرواية أكثر من مكان، فمثلا قرية (فياتسكو) حيث كانت طفولة البطل الراوي يسكن في فياتسكو بالقرب من موسكو، وكيبوتس (بيتاح تكفا)،المقام على قرية (ملبس)، ومدينة يافا، حي المنشية، حي العجمي،  ويتحدث إيفانوف كيف عملت زوج أبيه (إيستير) على إقناع زوجها للهجرة إلى إسرائيل.

تتبدى براعة الروائي في الوصف الذي جعل المتلقي يمر معه عبر كل مدينة وقعت فيها أحداث الرواية، وكأننا في المكان ذاته، ولا يوجد لدى المتلقي علم إنْ زار الروائي هذه المدن؛ ليتحدث عنها بهذا الوصف المتقن أم أنه من وحيّ خياله الخصب، وبخاصة حين وصف مدن فلسطين بالتحديد.

ج – تقنية الزمان:

اتبع الكاتب في بناء روايته النسق المعتاد هو نسق التتابع الزمني، ويقصد بهذا النسق من البناء، ذلك الذي تأخذ فيه الوقائع السردية شكلاً متتالياً؛ إذ تبدأ الأحداث من نقطة محددة، وتأخذ في النمو والتطور؛ حتى تصل إلى نهاية محددة.

يهتم هذا البناء بسرد الوقائع بحسب الترتيب الزمني، إذ يخضع بناء الحدث فيه لمنطق السببية، فالسابق يكون سبباً للاحق، ويظل بناء الروائي ينسج حبكة النص صاعداً للأمام بشكل أفقي خطي، فيتأزم المتن الروائي الحكائي في لحظة ما هي الذروة، ثم تنفرج في نهايةٍ يغلق فيها الراوي النص، كلُّ ذلك باستثناء مفتتح الرواية التي بدأت من نهاية الأحداث لتعود إلى سردها منذ البداية، وهذا تكنيك يساهم في تشويق القارئ، وإحداث الدهشة والشغف لديه.

بيد أن الكاتب عمد إلى الخروج عن هذا التتابع الزمني المألوف باستخدام آليات كسر الخطية  الزمنية؛ خوفاً من ملل القارئ ورتابة الحكي التي يحددها سرد الأحداث، ومن هذه الآليات: الارتداد الفني، والاستباق، واستعادة التذكر، وتضمين  الحكايات.

1 – تقنية الارتداد:

والارتداد “تقنية زمنية، تعني سرد حوادث أو أقوال أو أعمال، وقعت في الماضي الروائي، ومعيار الماضي هنا هو الحاضر الروائي الذي انطلق السرد منه”([7])، وقد وظف هذه التقنية في غير مكان من الرواية،  يقول المؤلف على لسان البطل إيفانوف:

“وحين عاد أبي من المزرعة، وقف بجواري صامتاً، استمر صمتنا جميعاً، كنت أنظر إلى وجهه؛ كي أعلم ما يجب عليَّ فعله، وحين انحدرت دموعه متلاحقة تسيل ثم تختبئ تحت لحيته الشقراء بكيت والتصقت بساقه، لحظات من الوجوم البارد، كانت تكفي لتغرس في ذاكرتي بذرة الألم الأولى”  (الرواية، ص ١٤).

فالارتداد في الأصل هو شكل سردي يعرض البنية العميقة للقصة، وذلك عبر التذكر، فلا تعرض الأحداث تتابعية تصاعدية، بل بتر زمني لذلك التصاعد، فيعود الكاتب ببعض شخصياته إلى الماضي خارج زمن السرد الحاضر، وهذا ما نجده عندما يعمل البطل على استذكار حادثة موت أمه.

ويلجأ الكاتب إلى الاسترجاع من أجل أن يزود القارئ بأبعاد شخصياته وبنيتها التاريخية والثقافية ومرجعياتها،  وطبيعة علاقتها بسائر الشخصيات، أي يزود القارئ بمعلومات تكميلية تساعده على فهم ما جرى ويجري من أحداث.

وقد سعى الكاتب إلى توظيف تقنية الارتداد؛ لما تخلقه من إثارة وتفاعل بين النص والقارئ، حيث يشعر الأخير بمتعة مهمته في إعادة تشكيل الأحداث في ذهنه وسط دهشة الاكتشاف، فالروائي لا يستخدم هذه التقنية اعتباطيا، بل يكون معنيا بخلق أجواء القلق والغموض والإثارة في روايته وخلق الزمن السردي الداخلي في الرواية، ناهيك عن الأجواء الجمالية التي تحققها المفارقات الزمنية في النص، ويلقي بالظلال والأبعاد على تاريخ الشخصية والأحداث التي مرت معها أو مع غيرها من المحيط البيئي.

 

 

٢ – تقنية الاستباق: 

الاستباق من تقنيات المفارقة الزمنية وهو استشراف أو استعادة الزمن حين يهدف إلى تقديم الأحداث اللاحقة والمتحققة حتمًا في امتداد بنية السرد الروائي على العكس من التوقع الذي قد يتحقق وقد لا يتحقق، فالتوقع يحافظ على بنية التشويق والمفاجأة([8]). يقول إيفانوف على لسان والده:

اهرب يا ولدي حين يشتد عودك”. (الرواية، ص: 14).

لقد أشار الكاتب في بداية روايته إلى الاستباق كإعلان عن نتيجة الرواية؛ الأمر الذي منح القارئ حالة من الترقب والتشويق لمعرفة مسـار الأحـداث التـي ستؤدي إلى هذه النتيجة التي أعلنها الكاتب في البداية. وظهر مثل هذا الاستباق على لسان جوزيف، إذ يقول:

“اهرب يا بُنيّ متى أصبحت لك فرصة الهرب”(الرواية، ص: 75). 

وقد تردد مثل هذا القول على مسامع إيفانوف غير مرة :

 “إذا أردتَ أن تنجو عليك أن تهرب”(الرواية، ص 84).

وقد تحققت هاتان الدعوتان في المستقبل، حين قرر  البطل في نهاية الرواية   الهروب من إسرائيل إلى موسكو.

وتكمن أهمية هذا الاستباق  في الإضاءة على الرغبة القوية لدى إينافوف في الهروب من إسرائيل لينال حريته وكينونته الشخصية.

٣ – التذكر :

شاع في الرواية استخدام تقنية التذكر الممزوجة بالارتداد، إذ تعد تقنية التذكر إحدى تقنيات السرد الحديث، وهي أن تعود الشخصية الروائية من خلال هذه التقنية إلى الوراء؛ لتتذكر أحداثاً ومواقفَ جرت معها قبل زمن معين، هذه العودة تجمد الحركة أو سير الأحداث المباشر، لكنها تجمدها لتضيئَها أو تلقي بأضواء عليها؛ الأمر الذي يجعلها أكثر حيوية () يقول الكاتب:

“اهتزت جدران الصفيح والخشب، وبملامح جامدة وباردة كنت أنظر إليها تتلوى فوق بساط من الصوف في الباحة الصغيرة داخل باب الإسطبل، أبي كان في مزرعته، لم أذهب لإحضاره كما طلبت “إيستر” كانت تمسح عن أمي عرقها المتفصد من كل مسامات وجهها الشاحب رغم الثلوج التي كادت أن تغلق مدخل الإسطبل..” (الرواية، ص١٣).

  4 –  تقنية التضمين: 

النسق الذي اتبعه الروائي في روايته هو نسق  التضمين، ويقصد به” إقحام حكاية من خارج زمن السرد داخل إطار الـزمن السردي للرواية، بمعنى إدخال حكاية خارجية ضمن الحكاية الرئيسية([9]).

فالراوية في خضم استرجاع إيفانوف لقصته مع  الحدث الرئيس وهو الهجرة إلى إسرائيل تاركاً بلدته القريبة من موسكو، يجده  القارئ يعرض ضمن روايته العديد من القصص القصيرة التي تخدم الفكرة المنشودة. وهو من الأنساق التي تبنى وفقها الأحداث. وقد اعتمد عليه الكاتب؛ بصفتها وسيلة من وسائل عرض الأحداث.

اشتملت الرواية الواحدة مجموعة من الحكايات يحيل بعضها على بعض، وينطلق بعضها من بعض، فتتداخل الأزمنة مع تداخل السرد، وتنسج الخيوط مع الخيوط الأخرى”([10]).

وفي تقنية التضمين تتوقف الأحداث زمنياً ثم تبدأ الحكاية الجديدة،  ثم تعود الأحداث تجري مرة أخرى، تؤدي وظيفة تشويقية، وذلك بوسع الكاتب اقتناص لعبة التوقف المفاجئ واستثماره؛ بوصفها سراً من أسرار الفن الدرامي، وحيويته. وفي ذلك إثارة للمتلقي، إما بتشويقه، أو خداعه، أو سد ثغرات النص التي ستقع، أو التمهيد لما سيأتي من أحداث وشخصيات، أو كسر رتابة التتابع السردي، فيأتي بقصة “العصفورين” ؛ ليدعم القصة الأساس، إذ يقول على لسان جوزيف العجوز:

“كان ثمة صقران اشتراهما أمير، أحد الصقرين كان يحوّم على نحو مثير ، أما الآخر فكان لا يبرح غصن شجرة اعتاد الوقوف عليه، لم يدع الأمير حيلة كي يدفع الصقر الى الطيران كرفيقه، إلى ان مر به عجوز، مثلي فطلب الأمير مشورته، طلب العجوز من بجوار رفيقه، عاد الأمير . الأمير ان يتوارى خلف تلة قريبة، وبعد لحظات كان الصقر يحلق بجوار رفيقه، عاد الأمير مسرعاً ليسأل العجوز: – كيف أقنعته بالطيران كرفيقه؟ رد العجوز: كان الأمر في غاية السهولة، لقد قطعت الغصن الذي كان يقف عليه (إيفانوف في إسرائيل ص: 89 ).

لم تأتِ هذه الحكاية بطريقة عبثية، بلا مقصد أو غاية، وكأنها لصقت بجدار المتن الروائي لصقاً؛ وإنما كانت ترمي إلى مغزىً معين، وهو ضرورة إيجاد خلاص ومهرب وذلك بقطع الصلة مع راحيل وأمها إستير، عندها يملك إيفانوف حريته، ويغدو طليقاً، فضلاً عن ضرورة أخذ الحكمة من ذوي الخبرة(إيفانوف في إسرائيل ، ص: ٨٩ )؛ لذا يجد المتلقي نفسه المقصدَ من وراء قصة العجوز جوزيف ويتساءل قائلاً:

“أيُّ غصن ذلك الذي يريدني أن أقطعه؟   (إيفانوف في إسرائيل، ص: 90 ).

والواقع أن القصة ترمي إلى مغزىً معين، وهو ضرورة قطع علاقات إيفانوف بكل من رحيل وأمها إيستر ومنظمتهما الإرهابية البلماح؛ ليكون حراً طليقاً يغرد كما يحلو له، فعليه أن يجتهد؛ لإيجاد خلاص ومهرب، ويتعين أخذ الحكمة من ذوي الخبرة،  وقد لجأ الروائـي لهـذا النمط في عدة مواقع في الرواية مثل ما ورد في الصفحات( ٤٣ ، ٧٤ ، ١٠٠ ، ١٤٥).

د –  تقنية الشخصيات:

إيفانوف هو الشخصية المركزية، وهي شخصية تخييلية من بنات أفكار المؤلف وخياله. إذ ينفتح المتن السردي على تناول أبعاد الشخصيات المتنوعة الجسدية والنفسية والثقافية، وفيها يقدم  الكاتب وصفاً دقيقاً (لإيفانوف) كما تعرّف إليه نفسياً من خلال حواراته الداخلية التي وضحت صراعاته وأحزانه وأفراحه وعاطفته.

وقد تنقلت شخصيته من حالة إلى أخرى، فمن الطفل البريء، إلى المراهق، إلى الرجل القاتل إلى العاشق، إلى الرجل صاحب الضمير، فحينما تعرف إيفانوف على الفلسطينيين عن قرب، ووجد مدى ثقافتهم وعلمهم، أعاد النظر في مواقفه لدرجة أنه أصبح يجد السعادة في مصاحبة قاسم وكريم.

ب –  شخصية راحيل: وهي الشخصية الثانوية الأولى، والتي ترمز للمرأة الصهيونية، المرأة اللعوب التي وظفت الجنس؛ لتحقيق أهداف الحركة الصهيونية.

ج- شخصية الفلسطيني كريم:

وهو قروي هُجِّر من قريته (ملبس)، وصحبه إيفانوف في هروبه إلى حي العجمي بيافا، وساعده في الهروب من إسرائيل.

د – دلالة الأسماء :  استير، راحيل، أربيل،   كريم.

اشتغل الكاتب على تقنية اختيار الأسماء وانتقائها؛ لتتناسب ومشروعه السردي،  , من ذلك اسم الشخصية البطلة في الرواية (إيفانوف) الذي يحمل مجموعة دلالات منها: شيوع هذا الاسم في روسيا أكثر من غيره وبخاصة عند المزارعين وعامة الشعب الروسي.

وسارت جلّ التسميات للشخصيات الأخرى وفقاً لوظيفتها في العمل الروائي، إذ لم يأت اختيار الكاتب لأسماء شخصياته بطريقة عشوائية اعتباطية، وإنما تم الاختيار والانتقاء بطريقة فنية موحية، أذ يحمل كل اسم دلالات رحبة،  فاستير رمز للملكة التي أنقذت شعب إسرائيل من الفناء في فارس،  وراحيل امرأة نبي الله  يعقوب -عليه السلام- ، وهي أم النبي يوسف -عليه السلام-  وكانت في الرواية مصدرَ إغراء، إذ وظفت الجسد والنبيذ؛ لتحقيق ما تريد، وكانت  رمزاً للوفاء والإخلاص لشعب بني إسرائيل.

أما أربيل، فهو عضو الوكالة اليهودية للهجرة إلى فلسطين في العراق، فأربيل مدينة عراقية تشير إلى  ترحيل العائلات اليهودية من مدينة  (أربيل) بكردستان إلى العاصمة بغداد قبل تسفيرهم إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة في منتصف القرن الماضي، ويوجد أكثر من (400) عائلة يهودية تعيش في إقليم كردستان، وتمتلك معابد خاصة بها، ويشجع اليهودُ بها  الأكرادَ على العودة إلى إقليم كردستان، داعية في الوقت ذاته إلى العمل من أجل علاقات متينة مع “إسرائيل”.

ج –  لغة الرواية وتقنية السرد:

1 – صوت  الراوي:

يتنوع ضمير  الخطاب بين ضمير المتكلم، إذ جاء السرد بضمير المتكلم؛ لأنه أقرب إلى نفس المتلقي وذائقته، وأقدر على البوح بمكنونات النفس، وما يعتريها من مشاعر وأحاسيس، بصدقٍ فني وواقعية تقارب الحقيقة إلى حد كبير. ولم يقم الكاتب بإقحام شخصيته كراوٍ للأحداث، ومعرّفةٍ بالشخصيات، ويدفع إلى السياق بملاحظات، وتعليقات تناسب مستوى إدراكه هو، وتمثل أفكاره، ولا تناسب الشخصية الروائية.

يظهر صوت البطل في رواية إيفانوف… سارداً لأحداثها، مع وجود الحوارات بين الشخصيات، إلا أن صوت البطل السارد هو الطاغي، وهو هنا يتحرر من نمط الروايات التقليدية؛ حيث يكون الراوي العليم، وهو الراوي الذي يعلم أكثر من الشخصية الروائية أو الذي يبدو وكأنه على علم سابق بالأحداث ” أو ما يطلق عليه: (الرؤية من الخلف).

ويجد المتلقي صوت السارد واضحاً منذ بداية الرواية، حين يخاطب أبناءه بعد انتهاء زمن الحكاية الفعلي، وقد استمر في حكايتها، وحصيلة هذه الكتابة هي الرواية التي بين أيدينا، يقول الراوي البطل بضمير المتكلم:

“عاد أبنائي الذين أحملهم معـي كقط يحمل صغاره تباعاً، ليبتعد بهم عن أي خطر، أنا أحملهم معي، وأحمل في صدري خوفي عليهم، بعض المشاعر أثقل من وزن حامليها، خوفي عليهم كان أثقل من أوزانهم، أنا أحملهم مرتين: مرة بثقل الخوف في صدري، ومرة أخرى بوجودهم أمامي، ولم تكن كل الإجابات لتردّ على أسئلة “بيتر”، بعض الإجابات لا تقال كل الكلمات، لا تحتوي شعوراً يضج به صدرٌ يكتظ بالهموم“(الرواية، ص ١٠).

وأحياناً يأتي السرد بضمير المخاطب، يقول الكاتب على لسان إيفانوف مخاطباً أبناءه:

“على هذا النحو من الكراهية، مضت أيامنا ثقيلة في صحرائها القاحلة إلا ثلاث زهرات أراها تتفتح الواحدة تلو الأخرى، كنتم عزائي، وأكسير أيامي القاحلة. خمس سنوات مرت، كبرتم خلالها، ولم أعد أفكر فيما قد يحدث لي، تساوت أمام عينيَّ كل التناقضات” (الرواية ص ٢٢٢).

٢ –  لغة السرد: 

اتفق النقاد على أن تكون لغة الرواية غالباً هي اللغة الفصحى، ولقد اعتمدت الروائية اللغة الفصيحة في لغة السرد، متنقلة بين مستوياتها، وقد جاءت لغة الرواية السردية لغة رصينة، بها مسحة من  شاعرية، فيها تكثيف غير مبهم، وحملت رسائل متعددة، ويبدو أنها وصلت إلى المتلقي بسلاسة ويسر، إنها لغة سهلة وميسرة مأنوسة، هادئة، متدفقة تندرج تحت صنف لغة السهل الممتنع بحيث يظن المتلقي أنه يستطيع أن يأتي بمثلها، ولكنه يعجز عن ذلك، وهي لغة واضحة تنأى عن الغموض والتعمية، لا تحتاج إلى معاجم للكشف عن معاني بعض الكلمات والمصطلحات، إلا تلك التي كان المؤلف يشرح دلالاتها المحلية: سياسية أو ريفية. فألفاظها وتراكيبها منتقاة ومختارة، يقول السارد على لسان إيفانوف:

“عدتُ أتسللُ بين شجر البرتقال، إلى أن خرجتُ إلى الساحة التي تفصلني عن الحي، كنتُ أعلمُ أن طريقاً محفوفاً برسائل الموت، لن تُعيد لي أيام طفولتي الأولى، وأنا لم أقرأها، ثمة شعورٌ ثقيلٌ يجثم على صدري منذ وَطِأتْ قدماي أرضَ الدم، حيث لا شيء أنتظره من غدي، لا هدفَ يَحملني على السير باتجاهه، أتعجل الأيام كي تنقضي، وأعلم أن ما أتعجله من الأيام لينقضي، إنما هو عمري الذي بدأ ينسربُ من كل مساماتي، سرتُ بين الأزقة المرصوفة في حيّ العجمي، أتحسسُّ جدرانه الصخرية، وألتصقُ بنتوءات المباني القديمة حين أسمع وقع أقدام أحدهم، أرضيةُ الشوارع الصخرية منحتني قدرةَ التفريق بين وقع خطى الجند، وخطى الناس الهاربين من سُوْنكي البنادق المسعورة” )   إيفانوف في إسرائيل ١٩٤).

ويسرد في مكان آخر، فيقول:

“في قرية (فياتسكو) في الريف الروسي البارد، لفظت أمي أنفاسها الأخيرة، ما زلت أذكر صرخة “إيستر”، جارتنا الأرملة اليهودية ” الرواية ، ص : ١٣ ).

٣ – لغة الوصف: 

يعد الوصف  مكوناً مهماً من مكونات السرد الروائي في الراوية الحديثة، حيث يقوم بدور فعال في بناء النص وتحقيق الفكرة المركزية أو الدلالة التي يؤول إليها. فالرواية من أكثر الفنون استعانة بهذا المستوى من اللغة؛ لأنها تصوّر المواقف والأحداث تصويراً ينبض بالحركة، ويمتع القارئ، ويجعله يعيش في جوّ النص، ويجد المتلقي أن الروائي يستعين بالصور التشبيهية والاستعارية والرمزية؛ لإظهار نفسية الشخصيات.

المتأمل في النصوص الروائية، يكتشف أن الوصف فيها جاء بلغة رصينة رشيقة تميل إلى رسم مشاهد ولوحات مبهرة، تعطي صوراً متنوعة في أحيان كثيرة؛ الأمر الذي أضفى على النص بعداً جمالياً، وكسر سمة الملل والرتابة التي تثقله، فأعطى المبنى صفة التكامل الروائي.

لقد رسم الكاتب اللوحات والمشاهد التي هي بحاجة لمن يلتقطها، ويقدمها بقالب فني يحترم وعي القارئ وذائقته، إنه يصور مشاهد سينمائية متتابعة، وأحياناً متقاطعة، مستخدماً في ذلك تقنية التقطيع الزماني والمكاني للمشاهد.

ومن ذلك هذه المقاطع المليئة بالصور  البيانية في النص، وهي كثيرة، فلا تكاد تخلو صفحة من صفحات النص من صورة بيانية، تجسد الحالة الإبداعية تجسيداً فنيًّا مبرزة البراعة الأسلوبيّة، وقوة الملكة الإبداعية لدى الكاتب، ومن هذه المشاهد؛ استخدامُ الأفعال التي يرسم الكاتب بها صوراً مرئية بما يثيره من إيحاء، يضفى على النص جمالية رائعة في اللفظ، ودقة في المعنى.

ومن أمثلة الوصف الذي يتكئ فيه الكاتب على التصوير؛ وصفُه  بعض  ملامح شخصيات الرواية، مثال: وصفه لشخصية الأب، ووصفه للجاسوس اليهودي في الكشك.

فقد صور البطل شخصية أبيه النفسية والخارجية، وعدم رضاه عن تركه وطنه والهجرة إلى إسرائيل، ووقع ذلك تحت ضغط زوجه اليهودية (استير)، بقول إيفانوف:

 “كانت المرة الوحيدة التي حدثني فيها عن مرارة إحساسه القاتل بالغربة والوحدة ، لم أسمع كثيراً من كلماته، كأنها تخرج من فجوات في شاربه الأصفر الكثيف الذي يغطي فمه، لم تثرني كلماته بقدر ما أثارتني البحة المكسورة في نبراته المخنوقة، كأنه يصارع الكلمات كي تخرج معافاة من بين شفتيه، وكنت أدرك أنها احترقت في صدره قبل أن تخرج ، لفحتْها نارٌ متأججة في صدره، وامتدت ألسنتها تصبغ عينيه احمراراً وتوقداً، تلك الحروف المتناثرة لم تكن أعمق أثراً من انكسار صوته” (الرواية، ص: ٣٦ ).

يمثل وصف الملامح الخارجية للشخصية أمراً مهماً في العمل القصصي فهو أحد الأركان الأساسية للتشخيص، وهو تقديم صورة استهلالية كاملة للشخصية عن طريق أحداث تعززها.

ومن أمثلة تصوير البعد الخارجي للشخصية ما جاء في وصف إيفانوف لشخصية الجاسوس اليهودي:

“وقفتُ أمام رجل يبدو طويلاً، يبرز رأسه الأشيب من ياقة معطف كبير، شاربُه يغطي ثلثي فمه، ذو فك عريض، ورقبةٍ ناتئة بخطين منغرسين من أعلى صدره إلى أسفل وجهه، كأن رأسه مستند إلى جسده بعصاتين جافتين، رفع نظارته قليلاً، ورمقني بنظرة حادة، كأنه يتفحص ثوباً یشتریه” (إيفانوف في إسرائيل٢٣٠).

يجد المتلقي أن الراوي قام بذكر أدق الصفات لشخصیة الجاسوس، مركزاً على ملامح الوجه التي تمثل مركز حسّ الإنسان، من خلال شكل الرأس والشارع والرقبة، وملامح الوجه التي تنم على طبيعة شخصیة الجاسوس وخیانته لوطنه، وبیع نفسه للمحتل من أجل المال.

ولم ينسَ الكاتب أن يصف الأمكنة التي عاش فيها فيوصف القرى العربية، فيتمثل ذلك في وصف الكنيس اليهودي في الكيبوتس. (ينظر: الرواية ص:  ١٠٨).

وظف الكاتب تقنية الوصف؛ ليصور أحد منازل العرب في مدينة يافا  التي أُجبر أهلها على تركها قسراً خوفا من القتل والتمثيل بهم، تاركين منازلهم بكل ما تعج به من موادَّ على أمل العودة إليها، يقول الراوي في مقطع وصفي آخر  على لسان إيفانوف:

 “…بعض المنازل أصبحت  خاوية، تصفر الريح في أفنيتها، فانسربنا  حذرين إلى إحداها، كان بناؤه بحجر صخري قديم، وغرفه المتلاصقة تبدو نظيفة، كأن أصحابها كانوا على موعد مع العودة القريبة،   بعض الفراش ما يزال دافئاً، ومن موقد النار يتصاعدُ دخان أبيض، كان أحدهم أطفأها على عجل، وفي الفناء الواسع تنتصب عدةُ شجرات من البرتقال، وضعنا أكياسنا في إحدى الغرف فيما ذهب “جرجس” إلى المطبخ؛ ليبحث عما يمكننا أكله، إلى أن عاد بعد دقائق قليلة يحمل خبزاً على طبق من القش، وضعه   أمامنا ثم عاد مرة أخرى يحمل أطباقا من السمن وزيت  الزيتون والبصل” (ايفانوف في إسرائيل 185 ).

ويدل المقطع السابق على أن المشهد قد استخدمت فيه اللغةَ الوصفية ذات الطابع الشعري، ذلك أن شعرية الوصف  لم تعد زخرفية تزيينية، ولكنها تتجاوز هذه الوظيفة؛ لتؤسس لوظيفة جديدة هي الوظيفة السردية، أي: تزود ذاكرة المتلقي بالمعرفة اللازمة، والمعلومات والخبرات؛ بقصد ربط النص بالخارج، وإيهامه بانتمائه للواقع.

فالجملة السابقة لا تنتمي إلى الراوي بقدر ما تنتمي إلى المؤلف الحقيقي، إنها صوت المؤلف بقدر ما هي صوت الراوي، وبروز هذا الصوت لا يتأتى اعتباطياً، إن له وظيفة فنية هنا، ألا وهى كسر أفق التوقع لدى القارئ، وإثراء الوظيفة الإيهامية للوصف، فالشخصيات والأحداث أقرب إلى الواقع الحقيقي منها إلى الخيال .

لا يتوانى الكاتب في رسم مشاهد متعددة لبشاعة المنظمات الصهيونية، حتى إنه يقف عندها بشكل دقيق ومفصل، متجاوزاً السرد التاريخي للأحداث، محققاً المتعة الجمالية المرجوة من العمل الروائي، إنه يرسم لقطات سينمائية متتابعة تمتاز بالحركة والصوت واللون، إذ يبدأ تتابع الصور واللقطات أمام عين القارئ، وكأنه يشاهد شريطاً سينمائياً بالفعل.

إن اللقطات السينمائية في الرواية تمتلك قدرة واسعة على التخييل، وتقديم اللقطات المؤثرة فنياً؛ لأنها مؤسسه على تراكب اللقطات تراكباً هدفها إحداث تأثير مباشر ودقيق في المتلقي. وقد جاءت المشاهد التصويرية للدلالة على المرأة العجوز الفلسطينية الشهيدة، وضعفها الجسدي، ورغم هذا الضعف لم يرحمها الأعداء، في مقابل ذلك يقدم الكاتب للمتلقين صورة لجنود الاحتلال، وقد أحرقوا حقول القمح، ودورها البيوت، ونهبوا مقدرات هذا الشعب، يقول في مشهد درامي مؤثر:

 “… كانت مجرد جثةٍ تكوَّمتْ على بعد أمتارٍ منا، لكنَّ أنينها كان أقرب من عيني إلى أذني، دنوتُ منها ببطء وترقبٍ، وحين وكزتها بفوهة البندقية، استدار نحوي وجهٌ مشرق رغم عتمة الليل، كانت سيدة في منتصف العمر، قدّرتُ أنها كانت عائدة من حقل زوجها، وحين اقتربتُ منها أطبقتْ يدها على فوهة البندقية، كانت قبضتها أقوى مما يوحي أنينها، تحشرجتْ بكلمات لم أفهمها، لكني أدركت أنها كانت ترجوني أنْ أقتلها، كيف يجد الناس راحتهم في الموت، لم يعد أحد من هناك، أبي أيضاً لم يعد… في غمرة قبضتها انزلق أصبعي على زناد البندقية، فانطلقت رصاصة، فانبجست نافورة دم ساخن” (إيفانوف في إسرائيل: ١١٠ ، ١١١ ).

استعان الروائي في هذا المشهد باللغة التصويرية العميقة؛ لتنقل للقارئ صورة الحدث، وحدث كهذا يتطلب من الكاتب العمق في المشاعر والعواطف.  وفي موضع آخر يصف هجوماً للمنظمة الإرهابية على قرية فلسطينية مسالمة، فيقول في لقطات سينمائية متتابعة:

“في المساء كنا على تخوم قرية قريبة، رغم ظلمة الليل والبرد القارس، كانت أعمدة النار تعكس نورها البرتقالي على كل شيء حولنا، لا فسحة من الصمت قادرة على إسكات أزيز الرصاص المتداخل في كل ركن، وفي كل اتجاه كنت أعتقد أني ومن حولي فقط في مواجهة قرية لا يملك سكانها إلا المعاول والمحاريث، لكن كثافة الصوت كانت تنبئ بجيشٍ يحاصر قرية تتنفس غضباً وشرراً يتصاعد من كل زقاق” (إيفانوف في إسرائيل 123).

تتجلى في هذا المشهد براعة الكاتب من خلال  نجاحه  في إقناع المتلقي بواقعية ما يصفه، ” فيشعر القارئ أنه يعيش في عالم الواقع لا عالم الخيال، ويخلق انطباعاً بالحقيقة أو تأثيراً مباشراً بالواقع ” ([11]).

يتبيّن للقارئ مما سبق أهمية الوصف في الرواية، وأن له دوراً مهماً في تشكيل بنائها ودلالتها،  فهو يشكل  محوراً أساسیاً لا یمكن للنص الروائي الاستغناء عنه؛ بوصفه أداة فاعلة في تصویر المشاهد والأحداث الروائية.

٤ – لغة الحوار بنوعيه: الخارجي والداخلي:

اتكأ الكاتب على تقنية الحوار الدرامي بنوعيه: الحوار الخارجي والحوار الداخلي الذي ساهم في تطوير الأحداث ونموها.

فجاء الحوار الخارجي  حواراً يُعنَى بذكر أدق التفاصيل؛ ليؤكد بعض الأفكار التي يرمي الكاتب إلى توصيلها إلى المتلقي والتي يخشى أن يكون قد مرّ وقت ويوضحها بالقدر الكافي للقارئ، يقول الكاتب:

أما زال كريم يسكن بيت خاله في حي العجمي ؟

 – لا أعرف، لقد غادرته منذ سنوات، ولم أعد أعرف شيئاً عنه

– لكنك تعلم أنه أصيب واعتقل

– نعم أعرف، كنت أسكن معهم حينئذ

– سنطلب منك شيئاً ربما يكفر عن جريمتك التي اقترفت، سنعيدك إلى هناك، ستفتعل هروبك مرة أخرى، وسنجد طريقة للاتصال بك، كل ما لدينا هو بضع أسئلة نريد إجاباتها من هناك من حي العجمي.(الرواية ، ص : ٢٢٤).

ومن أمثلة الحوار الداخلي في الرواية، قول الكاتب :

  “حَدَّثْتُ نفسي قائلاً :

أنا لم أعرفْ لماذا ماتتْ أمي، ما زال صراخُها يعاودني كطنينٍ مؤلمٍ، ينخر رأسي كنصلٍ مغروسٍ بين أذني، لا أعلم يا صغيرتي ما يدور حولنا، شيء ما أفزع أمك وأثار حنق أبي، أنا خائف مثلك، وهذا الصمت يقتلني، بيد أني أعلم أن مصيبة ما ستصيبنا، وجودنا في هذا القبو في يوم صيفي إشارة أنت على نحو ما، كما يعلن الإعصار عن حضوره ، يتقدمه برق ورعد كطبول جيش يزحف نحو مبتغاه، لا تسألينني يا صغيرتي، فأنا أكثر منك بحاجةٍ إلى من يجيبني” (ايفانوف في إسرائيل،ص:٢٤).

4 – شاعرية اللغة:

ينفتح المتن الروائي على كثير من الصور الجمالية البلاغية المبهرة، فقد عمد الكاتب إلى رسم لوحات ومشاهد عديدة تزينها بالتشبيهات والاستعارات المنسجمة مع المتن الروائي، يقول الكاتب في لغة شعرية ماتعة، ومن التنبيهات الرائعة قول الكاتب:

-“أجابته نظراتي المترنحة في أتون حيرة تدور كدولاب ضخم في رأسي، شعرت بدوار الكلمات كحلقات طنين تعلو وتنخفض”(ايفانوف في إسرائيل، ص١١).

-“مرت أيامنا اللاحقة بكل صمتها الثقيل، وكآبة ليلها وطنين الصمت الموجع كصفير يدوي في كل ركن”.”(ايفانوف في إسرائيل، ص١١).

– “كان يحث الخطى نحونا، ينفث دخان غليونه الخشبي، كقطار بخاري”(ايفانوف في إسرائيل، ص١١).

“منذ ذلك اليوم يسألني هل ستنمو أمه  من قبرها كالشجر”(ايفانوف في إسرائيل، ص١١).

– “لم تفارقني تلك الصور التي حفرت لنفسها مكاناً في رأسي خلال رحلتنا الطويلة، وأظنها باقية كشيطانٍ يرصد كل كلمة أنطق بها. “(ايفانوف في إسرائيل، ص ٣١).

  • إلى متى ستبقى كورقة فارغة، يخط فيها العجوز الْخَرِف ما شاء من الكلمات؟ (إيفانوف في إسرائيل ص: ١٠١ ).

 5 –  لغة التناص:  

عمل الكاتب على استحضار المتناصات التراثية المعذرة عن رؤيته ووجهة نظره، التي تخدم المتن الروائي، وقد أبرز التناص بشكل لافت مخزون الكاتب الثقافي والمعرفي الذي يغني القارئ، ويعزز من ثقافته، خصوصاً أن الرواية تتناول في ثناياها مواضيع متنوعة، يجمعها الغنى الثقافي والمعرفي. وقد تجلت في لغته تقنية التناص،  ووجدت المتناصات المتعددة  منها التناص مع أسطورة سيزيف، يقول الكاتب على لسان والده إيفانوف مستلهما أسطورة سيزيف اليونانية([12]):

“سيزيف كان مرغماً على دحرجة صخرة ضخمة إلى أعلى تل منحدر ، وقبل أن يبلغ قمة التل، كانت الصخرة تتفلت من يديه، ويكون عليه أن يبدأ من جديد مرة أخرى، كانت تلك عقوبته، لأنه أفشى أسرار زيوس، وادّعى زوراً أن “أيجينا” ابنة إله النهر “أسوبوس” تمارس شهواتها مع “زيوس”، كانت العقوبة التي حكم بها على سيزيف بذات السّمة الهستيرية والمثيرة للجنون التي أصابتني، أنا مثله يا ولدي أخشى أن أحمل الصخرة إذا أخبرتهم بالحقيقة. ( الرواية ، ص( 12: .

جاء التناص مع هذه الأسطورة لخدمة أغراض تعبيرية ولتوكيد رؤية الكاتب؛ وليضفي على النص الروائي بعداً جمالياً.

وثمة نصوص دينية محرضة على قتل غير اليهود(من سفر يشوع العهد القديم) ، وثمة أناشيد روسية ، ومن التناصات التي تؤكد فكرة الكاتب نقلها نصوصا عن التلمود، فيقول:  ونقل نصوص من سفر يشوع العهد القديم، محرضة على قتل غير اليهود، يقول الكاتب:

 “وَأَحْرَقُوا المَدِينَةَ بِالنَّارِ مَعَ كُلِّ مَا بِهَا، إِنَّما الْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ وَآنِيَةُ النحَاسَ وَالْحَدِيدِ، اجعلوها فِي خِزَانَةِ بَيْتِ الرَّبِّ”([13]) (إيفانوف في إسرائيل، ص: ٨٧).

استخدم الروائي التناص في لغة السرد مع نصوص أخرى منها النصوص الدينية، فعمد إلى توظيف النصوص التي تفيض دلالة وإيحاء توظيفاً فنياً في سياقه الروائي، ويظهر هذا التناص في الأخذ عن التلمود ومن المتناصات التي وردت في الرواية.

هذا التناص تناص اقتباسي كامل من دون أن تعمل فيه يد التحوير أو التغيير، يدلّ على حالة النزعة الإجرائي الساكنة في نفوس أعضاء المنظمات الصهيونية القاتلة.

ومن أنماط التناص في الرواية استقاء الكاتب لبعض الحكم المعتمدة من تجاربه الذاتية والموضوعية مثال:

 “لن تنجو؛ حتى تتعلم كيف تقول لا؟” (ص ٨٤).

ومنها:قاتل بروح المنتصر، وإن كنت تؤمن أنك لن تشارك في احتفالات النصر“( ص ٢٣٩).

ومن الحكم الواقعية التي امتاحها الكاتب من تجاربه الذاتية قوله:

“لا يهنأ الأسد في التهام فريسته والكلاب تدور حوله” (إيفانوف في إسرائيل ص: ٤٩ ).

 

ومن مقاطع النشيد الوطني السوفيتي يتناص الراوي مع المقطع الآتي:

الاتحاد الذي لا ينكسر

روسيا العظيمة اتحدت لكي تقف إلى الأبد

خُلقت بالكفاح بإرادة الشعب

موحدة، قوية، اتحادنا السوفيتي     (الرواية، ص: ١٢٢).

يعبر الراوي في هذا المقطع عن شعوره العميق بالغربة والغياب، وعن شوقه وحنينه الدافق، وإلى انتمائه القوي لمسقط رأسه قرية (فياتسكو)  قرب موسكو.

مما سبق يستنتج المتلقي أنّ الكاتب باستخدامه للتناص في لغة سرده الكشف عن  خلفيته الثقافية، التي أصبحت تشكل جزءاً كبيراً من بيئته الفكرية، كما أنّ للتناص دوراً مهماً في تعزيز الفكرة وتقويتها.

في الختام، فهذه الرواية تأكيد على حضور السردية والرواية الفلسطينية باقتدار على خارطة الإبداع العربي والكوني، ونقل تراجيديا الواقع الفلسطيني بوقائعه ووجعه، فالرواية إضافة نوعية إلى رفوف المكتبة العربية بعامة، والأدب الفلسطيني بخاصة.

[1] ) هو كاتب وروائي فلسطيني معاصر، من مواليد ١٩٤٩ ، من بلدة السوافير الشرقية، المجدل، أصدر قبل هذه الرواية ثلاث روايات وهي: أسير الثلج، وأرتميس، وبداية مؤجلة، وصدر له مجموعة قصصية، عن وزارة الثقافة، رام الله، سنة ٢٠٢١ بعنوان: سر النشيج .

[2] )  معجم مصطلحات نقد الرواية، د. لطيف زيتوني ، ط ١ ، دار النهار للنشر، مكتبة لبنان ناشرون، 2002 ،ص 38 .

[3] ) ناغوغي الصغير، حسن حميد، وزارة الثقافة رام الله، 2021 م.

[4][4] ) البنية القصصية ومدلولها الاجتماعي في حديث عيسى بن هشام، محمد رشید ثابت، الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس، :1975،ص 41 .

[5] ) الحدث في قصص فارس سعيد، نبهان حسون السعدون، مجلة دراسات موصلية، العدد 141 تموز 2013م، ص 14.

[6] ) الزمن في الرواية العربية، مها حسن قصراوي، ص77.

[7] ) بنية الشكل الروائي، حسن بحراوي، المركز الثقافي العربي ،الطبعة الأولى 1990م، ص  132- 133.‏

[8] )  بناء الرواية العربية السورية، سمر روحي الفيصل،دمشق ، اتحاد الكتاب العرب، 1995 ص:  169.‏

[9] ) فن الرواية في المملكة العربية السعودية بين النشأة والتطور، السيد محمد ديب، ط 2، المكتبة الأزهرية للتراث، مصر 1992ص 212

[10] ) الزمن في الرواية العربية، مها حسن قصراوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع, بيروت، 2004 ص: 77.

[11] )  بناء الرواية ، سيزا احمد قاسم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1984 ، ص 81

[12] ) أسطورة يونانية،  ترمز للجهد الإنساني الضائع، فأسطورة سيزيف هي أحد أكثر الأساطير اليونانية القديمة شهرة بسبب عقوبته في العالم السفلي، تقول الأسطورة أن الآلهة حكمت عليه بحمل صخرة عظيمة إلى قمة جبل عظيم، وعند وصوله إلى القمة تتدحرج الصخرة مرة أخرى إلى الأسفل فيعود في كل مرة إلى حملها مجدداً.   (ينظر: https://ar.m.wikipedia.org ).

[13] ) من الفقرات المحرضة على القتل والحرق ما ورد في  سفر يشوع ٦ ، العهد القديم.

زر الذهاب إلى الأعلى