مجتمع

د. المتوكل طه يكتب لـ” اليمامة الجديدة”: نحن وحرية التعبير

نحن وحرية التعبير
تلك الوردة الوحشيّة !


بقلم: المتوكل طه


(الحريةُ فكرةٌ بسيطةٌ جداً.. ولهذا ، ربما، يتمّ فقدانها بسهولة)

الحرية بلا قانون فوضى، والحرية بلا مضمون مجرد عبث، والحرية بلا مسئولية تتحول إلى انتحار .
ولأنَّ مفهوم الحرية لا يتجزأ، لا بالمكان ولا بالزمان، باعتبارها الهدية الإلهية والاختبار الرباني للإنسان، فإن مشكلة أو إشكالية الحرية هي إشكالية حضارية وروحية دائمة، باعتبارها هدية باهظة وثقيلة، وتغري بالاستلاب أو الغرور أو التطرف أو المغالاة .
والحرية ليست مجرد إحساس فردي، رغم أنها في بعض الأحيان تبدو كذلك، وليست ترفاً فكرياً، رغم أنها قد تبدو في لحظات ما كذلك . الحرية هي سؤال السياسة والاجتماع والدين والحضارة.
ولأنها كذلك، مربكة وعصية على التعريف، ولأنها مورست وطُبِقّت في تجارب عديدة مختلفة، ولأنها كانت المطمع والمطمح لكل شعوب الأرض، فارتُكبت الجرائم باسمها، ومُورست الفضائل باسمها أيضاً، فإننا أمام مفهوم إشكالي من الدرجة الأولى .
ولا تقلّ حرية التعبير إشكالية عن المفهوم الأم . فما هي حرية التعبير، وما هي آلياتها، وما هي محدداتها وسقوفها، وما هي الغاية منها ؟ باعتبار أن العلل الغائية هي علل نهائية عادة ما يحلو للإنسان أن يسأل عنها .
بادئ ذي بدء، لا بدّ من الاعتراف أن الاجتماع يفرض قوانينه، بكلمات أخرى؛ كل جماعة أو كل مجتمع يفرض محرماته ومسموحاته، تأسيساً على مرجعياته الفكرية والروحية والحضارية. ليست هناك جماعة دون سقوف وحدود معرفية وحتى عرقية، تستطيع من خلالها أن تفرّق بينها وبين الجماعات الأخرى، ولأن كل جماعة تفعل ذلك، فإن مفهوم الجماعة نفسه هو بحد ذاته سقفٌ أعلى لا يمكن تجاوزه لأية حرية مهما كانت . ولا فرق في هذا بين جماعة في الشرق أو الغرب . حدود الجماعة أو سقوفها تتمثل في الصورة الذهنية والروحية التي تعتقدها عن ذاتها، ولا تسمح لأحد باسم حرية التعبير أن يمس بها أو يعبث بمكوناتها أو أن يشكك بها. قد يقول قائل إن الغرب، وخلال عصور النهضة، استطاع أن يفعل الأعاجيب من خلال حرية التعبير. وبرأيي أن ما حصل في الغرب هو تغيير إله سماوي بإله أرضي، وسرعان ما رأينا أن ذلك تعدّل منذ القرن التاسع عشر، أي بعد انطلاق ما سمي بالنهضة بأقل من مئتي عام، وهذا كلام يطول .
وإذا كانت الجماعة بحد ذاتها هي إحدى سقوف حرية التعبير، فإن القوى الفاعلة في المجتمع ومراكز القوة فيه، تستطيع بما لديها من نفوذ فكري ومالي وسياسي، أن تقولب الرأي العام، قولبة ترضيها وتشرعنها وتسوّغها أمام الجماهير.
المجتمع الحيّ والمبادر هو مجتمع جماعات الضغط وجماعات المصالح، التي ترغب في التأثير من أجل التقدم، والحصول على مصادر الثروة ومواقع القرار. ولهذا فإن حرية التعبير تتحوّل إلى أن تدخل لعبة الشد والجذب هذه، إذ لا يمكن لحرية التعبير أن تكون بعيدة عن لعبة المصالح ولعبة التأثير . ونحن هنا نتحدث عن المجتمعات الحيّة التي تشهد حراك ومتنفّسات ومنابر، وتؤمن بتبادل السلطة عن طريق صناديق الإقتراع .
الديكتاتوريات عادةً لا تؤمن بالجماهير ولا بحراكها ولا بنُخَبها. الديكتاتور يرى نفسه مصدر السلطات وصاحب الثروة وصاحب الرؤية، يستعين في ذلك بالقوة ذاتياً أو خارجياً .
وحتى لا نتحدّث بشكل نظري، فإن الغرب وهو الآن على الأقل المدّعي الأول والمحامي الألمعي لحرية التعبير، نجده يتخلّى بشكل مخجل عن هذه الدعاوي، عندما يتعلق الأمر بمصالحه وأطماعه وخططه الإستراتيجية . ولنتابع بشكل دقيق سياسات الغرب المُدّعي بحقوق وحريات الإنسان، ما الذي يفعله إزاء أنظمة قمعية في أواسط أسيا وفي منطقتنا العربية وفي أميركا اللاتينية . إذن، حرية التعبير ومرة أخرى، تدخل لعبة المصالح ولعبة توزيع الثروات . حرية التعبير ليست قوة مطلقة تضرب في الفراغ أو الفضاء . إنها تعبير حيوي عن المصالح والرؤى الهادفة أصلا إلى التقدم في المواقع داخل الجماعة الواحدة ليس إلا .
من هنا، فإن المجتمعات العربية ومجتمعنا الفلسطيني أحدها، تدخل مسألة حرية التعبير في خضمّ معقد من التركيب السياسي والاجتماعي والفكري، ذلك أن مفهوم الدولة في عالمنا العربي، لم يكتسب بعد شرعية كافية تؤهّله للحوار أو النقاش، فعادة ما تعاني هذه الدولة من مشكلة التمثيل والشرعية والإنحياز والارتباط والتبعيّة، وعادة ما تكون في وضع لا تحسد عليه، ما بين نُخب شعبها وبين المطلوب منها. ولهذا، فإن حرية التعبير في مثل هكذا وضع، تتحول إلى ما يشبه الإعتراض السياسي الذي ينذر بانقلاب أو ثورة. أي تتحول حرية التعبير ذاتها إلى لعبة خطرة حتى ولو كانت مجرد مسلسل تلفزيوني، وهذا ما نراه ونسمعه كل يوم . الدولة العربية التي فشلت في الإقناع والتسويغ والتبرير، في معظمها، ترى في حرية التعبير نوعاً من التحريض والدّسّ. ولان سؤال الشرعية مُشْرَع دائماً في وجه الدولة، فإن حرية التعبير تتحول بحد ذاتها إلى تدخل خارجي، ومن هنا، ينُظر إلى مؤسسات المجتمع المدني في عالمنا العربي عادة، على أنها أوكار وبؤر ومراكز خارجية .
هذا من جهة، ومن جهة أُخرى، فإن مراكز القوى في المجتمعات العربية عادة ما تكون النخب العسكرية والعشائرية والاقتصادية، وليس النخب المثقفة إطلاقا. أكثر من ذلك، فإن النخب المثقفة المرتبطة عضوياً، بإحدى هذه القوى الاجتماعية، سرعان ما تتحوّل إلى مسوّغة ومبرّرة لها تماماً، الأمر الذي يجعل من المثقف، منتج الأفكار.. مجرد تابع، ينفقد دوره القيادي والريادي، خاصة وأن الدولة والقوى الداعمة تتقوّى يوماً بعد يوم، بالإحكام الأمني والضغط الإقتصادي ومركزية الدولة. وفي بالمقابل فإن المثقف يخسر مواقعه أكثر فأكثر، باعتباره يعتمد أكثر فأكثر على الدولة من جهة، ولخوفه الشديد من فقدان مصدر رزقه أو أمنه الشخصي من جهة أخرى .
الأمر الثالث الذي يجعل من حرية التعبير مفهوماً غائماً وغامضاً هو الانفجار الذي نشهده في وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات، حيث تزيد المتعوية والاستهلاكية والفردية على الشعور الجَمْعي والوطني والقومي، وحيث تغيب الأفكار لصالح الصور، والمعرفية لصالح الترفيه، بحيث تتحول حرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى