ثقافة

المتوكل طه يكتب عن مراد السوداني: مراد الوفيّ ابنُ كثير الرماد

مراد؛ الوفيّ، ابنُ كثير الرماد

بقلم: المتوكل طه/ فلسطين 

***

لم نكن قد أطلقنا عليه اسم “القصر الجمهوري” بعد؛ فهو لا يعدو ديواناً للعمّ أبو مراد،رحمه الله تعالى،يستقبل فيه الأهل والأصدقاء والزوّار، فتطيب الجلسات في هذا البيت الحجري العريق الوسيع،الذي تظلّل مدخله عريشة باذخة دائمة الخضرة ، يتفيّأها الحضور في الصيف ، فيعلو المكان إلى أن يُشارفوا أول النجوم في السماء. وعلى امتداد العين تمتد الجبال والوهاد والوديان المكتسية بأشجار اللوز والبرقوق والرّمان والدوالي والتفاح والمشمش والكمثرى البريّ والسرّيس والطيّون والبلوط،لكن الزيتون هو ملك الأشجار المنفردة إلى نهاية الآفاق. وتبدو الطرقات خطوطاً رفيعةً تنسرب بلونها الترابيّ البعيد، كأنها شبكة تربط الحقول بوشائج زنّارها الذي لا ينتهي. وكنتُ ، كلّما هبّ الشوق للصفاء البِكْر والبداهة النقيّة ، أقصد الديوان، فيعانقني الرجل بكوفيته وعقاله المرعز، مرحّبا ومهلّلاً، ولطالما كان المكان العذب كثير الازدحام ، وهذا ما يجعل عمّي أبو مراد لا يقرّ على مقعده، إذ ينشغل، هو وأشباله، بتقديم الضيافة التامّة لزوّاره، إلى درجة أنه يُلحف علينا لأن نواصل تناول ما لذّ وطاب من أطباقه المتنوعة الطازجة الشهيّة.

ويبقى فضاء دير السودان فوّاحاً بإشراقات وسجايا هذا الجواد ، وبحكايات ضيوفه الماتعين.

ودير السودان قرية تسلّقت الجبل لتنظر الساحل وتحرسه، وقد فاضت بروائح وطعوم وتلاوين المواسم ونَشْر غصونها العابقة.

وكنتُ التقيت أخي مراد ، قبل هذا بقليل، إذ صاحبنا في “بيت الشِعر الفلسطيني” ، وأصبح مديراً لتحرير إصداراته، ورئيساً لتحرير مجلة “أقواس” المخصصة لإبداع الشباب. وفور التحاقه، بعد تخرّجه من جامعة بيرزيت، انضم إلى طاقم المؤسسة التي كنتُ أرأسها، جنباً إلى جنب الشاعر العزيز غسان زقطان ، والمعلّم المثقف الكونيّ الصديق حسين البرغوثي ،الذي سيوفيه مراد حقّه من الدرس بعد رحيل حسين- رحمه الله تعالى-.

وأشهد أن مراد تفانى ،إلى حدّ الدهشة، في عمله ببيت الشِعر، إذ كان ينام أياماً على الأريكة، ويتابع كلّ صغيرة وكبيرة، وحتى بعد زواجه كان يقضي أياماً متواصلة في المكتب. عداك عن أن بيت الشِعر كان يقع مقابل مستوطنة بسيغوت الاحتلالية، ولطالما كانت ترشق البنايات الفلسطينية المحيطة بها بصليات متواصلة طائشة ، أيام انتفاضة الأقصى، فيصل رصاصها المجنون إلى نوافذنا .. ومراد يصرّ أن يبقى في المكتب!! رغم أن زميلنا المرحوم الشاعر أحمد يعقوب أصيب بشظية كادت أن تودي بحياته ،قبل أن نحمله إلى المشفى! ولطالما تمنّيت على مراد لأن يرحم نفسه ويرحم معه أُمّ سيف، لكنه ظلّ يعطي العمل كلّ جهده ونسغ روحه ، بإصرار وطنيّ واثق عارف،عزّ في زمن الانهيار والتردّي والخلاص الشخصي.

ولعل أول ما لفتني بأبي سيف أنه مفوّه ممتلئ بالعربية والمعرفة وسلامة اللغة، إضافة إلى أمر جوهري وهو أن هذا الطالع من الحروف والحقول يفيض وطنيةً ، دون ادّعاء، ولديه مواقفه الثابتة الحاسمة ، غير القابلة للتبديل والتحوير، وعلى رأسها موقفه من التطبيع. وأذكر أنه نشر ، على غلاف نسخة من أعداد مجلة أقواس مقاطع من قصيدة “لا تصالح” للشاعر المتفرّد أمل دنقل! فقلتُ له : سيغلقون المجلة!وبالفعل توقّفت الموازنة عملياً، فلم يعودوا يصرفون لبيت شِعر سوى المصاريف الجارية.

ماذا نفعل يا مراد؟

لم يجب.

بعد أيام صدر عدد من مجلة “الشعراء” مصحوبا بعدد من “أقواس”!

من أين سنُسدّد للمطبعة؟

وفوجئت بأن مراد باع “مصاغ” أُمّ سيف، أي ذَهَبات زوجته، ليطبع المجلة!

وأذكر أنني توجّهت للرئيس الشهيد ياسر عرفات، وطرحتُ عليه أمر موازنة بيت الشِعر ومؤامرات المتخاذلين الجبناء.. فاتخذ موقفاً متوقَّعاً ورائعاً، وعادت الموازنة إلى مجاريها. وأحسب أن مراد هو الوحيد الذي يستحق بجدارة لأن يتسلّم مقاليد المؤسسة ، يوم صدر قرار بعودتي إلى وزارة الإعلام،ويكون على رأس بيت الشعر لما بذله من جهود مستحيلة متواصلة.

ومع كوني وكيلاً لوزارة الإعلام، وقتها، كنتُ أيضاً رئيسا لاتحاد الكُتاب الفلسطينيين. ومع العام 2010 كان الاستحقاق الديمقراطي قد استُحقّ ، فأُجريت انتخابات اتحاد الكُتّاب، ولم أُرشّح نفسي لأنني كنتُ سأذهب سفيراً لفلسطين لدى ليبيا،مباشرة. وقد تمّ انتخاب أبا سيف، بالإجماع، رئيساً جديدا للاتحاد.

ربما اختلفت مع مراد، وهذا أمر طبيعي، وعلى غير مسألة عامّة، لكنني كنتُ دائم الاطمئنان والرّضى، من جهته، لغير سبب، أهمها ، أنه وفيّ وسخيّ، والأهمّ أنه عروبيّ خالص ، وفوق كل ذلك أنه يقف بحسم ضد كل أشكال التطبيع والبيع والمتاجرة.. وهذا ما يجعلني لا أخشى منه على المؤسسة فحسب ، بل إنه يشكّل ضمانة وطنية لتبقى في موقعها الصحيح والطبيعي.علاوة على أنه لم يبدّل سُنن أبيه الكريمة، فما زلنا نقصد ديوانه في دير السودان، لكنني، ولكثرة روّاده، أطلقت عليه “القصر الجمهوري”. فمراد عنوان كبير في منطقته ، حلّالٌ لأي إشكال يقع هنا أو هناك، مضياف حتى التبذير، يدفع من جيبه ليُصالح المُختلفين، عداك عن أنه يدفع من جيبه لكلّ كاتب ضاقت به سبل الحياة، وما فتئ يركض ليتمّم لكل مَن يحتاج للعلاج ، من الزملاء المبدعين،بتوفير ما يلزم ، ومهما كانت التكاليف.

ألا يصلح لأن يكون رئيساً، وديوانه قصراً عامراً!

وثمّة ما ينبغي ذكره للأهمية ؛ إذ أن أبا سيف قفز بالاتحاد إلى مشارف كان لا بد من بلوغها، وأعني أنه واصل التأكيد على وحدة الأدباء في الداخل والخارج تحت عنوان واحد ، تجاوز الخلاف الفصائلي وتعقيدات الجغرافيا. وأضاف ما لم يكن ؛ وهو أنه جمع كل ممثلي الفروع ، بما فيها فرع اتحاد كُتّاب أدبائنا في فلسطين المحتلة العام 1948، وصار يتقدّم ،لكل اللقاءات الإقليمية والعربية، بكوكبة من الكُتّاب تُمثّل كل مواقع تواجد شعبنا الفلسطيني بنُخَبه ورموزه، وهذا يحسب له بجدارة واستحقاق.إضافة إلى أنه انتبه إلى أهمية مدّ الجسور مع أدباء العالَم، فنراه يعقد غير اتفاق ويزور القارات ، من روسيا لأمريكا اللاتينية لإفريقيا وآوروبا، فضلاً عن عُمقنا العربي، بهدف مواجهة تهويد المعرفة التي غزت العالم، ولترميم دروب التواصل مع أُمّتنا الواحدة.

***

في الربيع الفائت كنتُ ، مع عدد وفير من الأدباء، على مائدته العامرة، ثم ذهبنا نحو مشارف البساتين التي انفجرت ألوانها المذهلة، ونظرتُ إلى البعيد البعيد، لعلي أرى البحر المحرّم، وقلت بصوت واضح: لم يبقَ من الخنجر الأرضي سوى المجاز.

فقال أبو سيف: أما رأيت الفرس، والحصان الغريب يفرد جناحيه فوقها؟لقد انتحبت حتى فاض العشب العسلي، لكنها أَخْفَت النشوة.

فقلت: أتذكّر يا صديقي مقولة أبيك، ذات شتاء ،وهو يطعم الموقد: الغول الكامن وراء الجبل يخشى النار ويهرب منها.

فقال : حاول أبي أن يكون لطيفاً، مثل الناس في زمن “السلام”، على رغم اعتقادهم أن الرصاص هو الذي يفوز في الحرب، لكنه علّمنا كيف ينبغي أن نسترجع اللحم من عرين السبع..

قلت: وأنتَ رغم جدّيتك الظاهرة، ما زلتَ لطيفاً، مثل عمّي العزيزأبيك، وما فتئتَ، على دربه، تُطعم الضيوف وتُرحّب بالغرباء، وتُحبّ الغناء، وتُربّت على كتف الطفل الذي كسر نافذة البيت، بحجرٍ لاهٍ.

وبالمناسبة فالعمّ أبو مراد خير مَن تنطبق عليه مقولة “كثير الرماد” لأن مواقده الساطعة لا تنطفئ، فهي نار عليهم ، ونور لأبناء السبيل والأحبة الذين لا يغيبون.

***

وما يفرحني ؛ أن سراج أبيه وأجداده، بقي معلّقاً في سقف الديوان ، ويصل شعاعه إلى بيوت البلدة.

***

وما يحزنني ،اليوم، يا صاحبي أن بيت الشعر ، بكل حضوره وإنجازاته وعلاقاته.. قد تم إغلاقه ؟ هكذا بمجّانية مؤسفة ومشبوهة!

لقد راح بيت الشعر يا مراد! كما راح الشهيد ،وراحت يافا ،وراح تصادي الزغاريد وراء التلال.

كيف يعقل هذا ؟ وبأي عقل يبرّرون هذا التبديد الذابح؟ أي سوريالية هذي التي تضربنا بأذيالها الحجريّة الباطشة؟

ربما كان لا بدّ من قصيدة أمل دنقل ليعلم الغول الجبان أن ثمة صوتاً جسوراً لن ينقطع، مهما أغلقوا ولفّوا وداروا، وسيبقى ، ولن يبقى وحيداً، مثل المخيم الشجاع ، في وجه العتمة والعربدة والاستباحة الدموية الخرقاء.

سيعود بيت الشعر، يوماً، مع عودة الذين سيرجعون كاملين غير منقوصين إلى أرضهم الأولى والأخيرة. فلا عليك، وأرجو أن توفّر دمعتك المتحدّرة من جمرة الحبق، ليوم الفرح ، الذي أراه بأًمّ قلبي وقلبك.

***

ونجلس على حجرين وسط دغل الزيتون ، ويقول :أنتَ مَنْ يحدّد ما ستحصل عليه من حظٍّ جيّدٍ أو سيّئ.

وأقول:عليك أن تدفع الثمن إذا أردتَ أن تعيش بشروطك. وصِدْقك ليس تجمّلاً على العالَم، فهو الذي يجعل قلبك أكثر نوراً وأقلّ أعباءً. والتغيير الكبير لا يأتي في يومٍ واحد، حتى إن هذه الغابة تحتاج إلى وقتٍ لتنمو.

وسألني: ثمّ ماذا يا أخي؟

وأجيب:أحتاجُ إلى العَبَث مع ذاك الغزال الذي شقّ قفزته بين هذه الأشجار.

وهل نسيتُ ذاك المشهد؟ كيف تمدّد الياسمين المطمئنّ على جدار الدار ،بانتظار أن يوزّع وهجَه الناعم في الظمأ المنفلت.

قال: نسيتُ، وأذكر جيّداً أنني نسيت! فالياسمين الواصل بين القدس والشام هو أنفاسي وأكتاف داري.. وأنسى! كيف ذلك؟

***

وما زالت الطريق إلى دير السودان تنادي بشغف، لكننا صرنا نخشى المرور والتنقّل بين مدننا وقرانا ومخيّماتنا، لأن السلام الجنائزي قطع رؤوس المدائن وحرّق البيوت ، وأورثنا الحسرة والخسران.. ومع هذا، ثمة دعوة مفتوحة سنلبّيها ، لأن ثمة أياماً أجمل على طريق الدّير.

زر الذهاب إلى الأعلى