ثقافة

من عمواس: علاء أبو جحجوح

من عمواس

قصة: علاء أبو جحجوح

ألم تشعري بوجودي أمامك؟! لماذا دعوتني لحفلة ميلادك إذن!! ارفعي صوتك لا أسمع ماذا تقولين؛ (منال) كنت وقتها في الرابعة عشر من عمري، ورغم صغري كنتُ أدركُ الكلمات ومعانيها، ولغة الشعور بنفسي وبغيري كانت ناضجة، فلم أبُحْ بسري لأحدٍ عن عشقٍ ماضٍ وحاضرٍ يطاردني، تعايشت معه وأبحرت به دون أن يرافقني، لكن عادات القرية تلاحقني، وكلما ابتعدت عنه حرصاً؛ تعود لغة النفس لتأسرني ولتجعلني أكثر عشقاً به، فاستطعت قراءة وجهه، ونظرة عينيه، فتصيب مرة، وتخيب مرة قراءاتي، لم أعر لعادات القرية اهتماماً، فجسّدته بأشكال مختلفة بعيدة المدى، تعددت قراءات ذلك المنظر الجميل، فعشقتهما معاً، وارتبطت بهما واصطحبتهما معي في كل الأماكن عند المبيت، افترشتُ له وسادةً بجانب وسادتي، والتحفنا معاً بغطاء الحب والأمل. صياح الديك، وزقزقة العصافير، هما سيمفونية كل صباح ترافقني من نافذتي، كحلت عيني به، لوّن صباحي بألوان الحب، رسمت فراشاتٍ من حوله تطير، أغرقته بدعاءٍ ألا يمسه شرٌ..

ــــ دعينا نحتفل بيومك هذا إذن، تبدأ (منال) مع صديقتها بالعد من واحدٍ حتى الثلاثين وتطفئ شمعة الميلاد من عمرها، فأخذت تبحث عن ملامحه المتقلقلة في الذاكرة، وثباتها في وجه عادات القرية المطاردة لعشقها الدفين في قلبها، واحتلالها من العدو الذي قتل فيها روح الصباح الجميل، فلم يعد أمام (منال) وصديقة الغربة، أثناء الحديث عن ماضيها، إلا أن تُلملِم ما تبقى من صورة شابٍ كان آنذاك يكبرها عمراً، يرتدي ثياب الحقل، ويحمل فأساً على الكتف، مفتول العضلات، محمر وجهه الأشقر المزين بالعرق, يقبل رأس أمه، ويترحم على أبيه، فهو شجاع وكريم، لم تبعد عن قريته المنكوسة ذات الاسم الشهير (عمواس) كثيراً، فحقله أول شوارعها الساحرة ترتص على جوانبها أشجار الزيتون، والتين مكللة بزهر الليمون والبرتقال، وتفترش الأرض بالزعتر والريحان، يخطف سحرها العيون والقلوب..

ـــ كنت يومها يا صديقتي عائدة من بيت جدتي من قريتي( يالو) المجاورة لها فضللت الطريق، حين تجرأت على المرور لطريق أجهلها, وعلامات الخوف ظاهرة على وجهي، وأنين جسدي المللتطم بألواح الصبر الشائك بين القريتين، دعوت ربي ألا تكون نهايتي هنا، بين نباح الكلاب، وآثار الأفاعي المارة، كنت أرفض الصراخ لنجدتي خوفا لأكون ملاذا لغير الكلاب والأفاعي، شعرت بالطمأنينة من صوت فأس يدب الأرض وكلمة يا الله تلازمه، فاستلقيت على جانبي مناجية، فصوت الفأس كان يخبو كلما ناجيته، فاستعاذ من الشيطان وتبسمل باحثاً عن أنين جسدي المختبئ بين جزوع الأشجار, اقترب مني بخطوات سريعة، ونظراته تتحقق من شيء ما، فازداد خوفي، ودمع عيني ترجوه من عدم الاقتراب، فتبسم في جهي، فحدق عينيه العسلية بجرحي، فوجدت ساقي المطرزة بشوك الصبار بين يديه ليزيل ألمي، حين قدم لي رشافات ماء لأروي بها عطشي، وحبات تين، ليذهب خوفي، ولتهدأ نبضات قلبي المتسارعة، كان يُعدّها للبيع على حافة الطريق المعمورة، المزخرفة بثياب أهلها الجالسين، وضحكات أطفالها، ومجلس شيوخها المعطر بكلمات الوطن، فأشارَ لي نحو الطريق الصحيح، بعد تأمينها، لم أتذوق حبات تين مثلها من قبل.

ــ صديقتها هل أحببتِه يا (منــال)؟!
ــ لا أعرف إن كنت أحببته أم أني أحببت مذاقها، فأدمنتُ شكلها، لقد تواعدت معه دون علمه من شدة اشتياقي له، تحت تلك الشجرة؛ ليعطيني منها المزيد، رافضة عادة القرية وكل من تقدم لأبي لزواجي( المبكر ) فتحملت قسوة العائلة والتهكمات والتكهنات ونظرة أمي لأنوثتي، فتحايلت على كل من يراقبني من بعيد، فوصلت في الموعد المنتظر بيننا! وكلي شوقاً شجرة الحب، ولعقد قراننا في اليوم التالي، كما تمنيت ذلك مع نفسي، تستفيق من تساؤلات صديقتها عن عشق طفولتها، فتسخر صديقتها من كلامِها كفاكِ أحلام وجنون، يزداد وجهها احمِراراً، يرتجف جسدها، تحدّق عيناها بها، تصرخ في وجه صديقتها أنا لست مجنونة، فرائحة عرقه ومذاقها تجري في عروقي، هل انتهى الامر إلى هنا؟
(منال) وجدت نفسي أغني ألحان الوطن والأهازيج، وأنا في طريقي إليه بشوق، تفاجأت بوجوه حاقدة، وقبعات صغيرة، وبساطير الجنود، وجذوع الأشجار ملقاة على حافة الطريق… والبيوت خالية والثياب متناثرة في المكان، مخضبة بأزهار الليمون، والأسلاك الشائكة تحيط بشجرة الحب، وصوت ميكرفون يهددني من بعيد، انصرفي إلى بيتك يا صغيرة، فالمكان محظور يكررها أكثر من مرة، فكانت قريتي (يالو) في اليوم التالي كما قرية (عمواس) منكوسة فيا صديقتي الهاشمية لم أجد له أثراً، ولا لشجرة التين أي جذور، فهل من مجيب ؟ أين قلبي؟ في السجن ؟ أم تحت الأرض؟ أم خارج السور؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى