نصوص

قصة حجر القلعة: صفاء حميد

حجر القلعة

بقلم: صفاء حميد/ الأردن

يقولون من يمتلك النار يمتلك العالم.
فكرت في هذه المقولة دائماً كإرث بدائيّ،وتراءت لي رقصة البشر حول الشعلة التي اكتشفوها للتو و أنارت لهم الليل الذي كانوا فيه عرضة لهجومٍ كلِّ ما يعرفون و ما لا يعرفون.
في المرايا الجانبية راقبت ألسنة اللهب ترتفع و الدخان ينتشر ببراعة و خفة ليغطي قطعة السماء الأقرب من موطن النار.
بهجة بربرية اشتعلت في روحي و تأججت لمرأى النيران،حلمي صار حقيقة أخيراً ،ملكت النار لكن هل سأملك العالم!؟
دفعة بنزين مررتها للسيارة و انطلقت في الطريق الذي ربما لا يزال مجهولاً لكنني على الأقل لن أخافه بعد الآن،فالنار تضيء لي ما مضى و ما هو آتٍ،و كل الوحوش الذين يسكنونني منذ الأزل هدأوا الآن واصطفوا على جانبي المشهد يراقبون النار بتوجس و قلق خائفين من سطوة الألسنة  و غدرها.
للمرة الأولى منذ سنوات أكون سيد مشهدي ،الوحيد القادر على تحديد الخطوة القادمة،و الوحيد الذي يعرف الخطوة التي تواجه انقضاءها الآن.
سارت السيارة بهدوء على الطريق الوعرة،صار البيت المشتعل الآن أبعد ،لم يعد يظهر في مدى بصري عدا خيوط رفيعة من الدخان الأسود تحاول ارتقاء سبيلها إلى السماء.
لا دوريات شرطة على الطريق،درست هذا الدرب أكثر من مئتي مرة من قبل،الشرطة تتفاداه لأنه من اختصاص المفتّش وحده و بما أن المفتّش الذي تتفادى الشرطة الطريق لأجله،يحترق الآن في خلفية هذا المشهد،فلا شيء أقلق منه أنا بدوري.
غريب كيف تتغير الحياة في لحظة،قبل بضع ساعات فقط  كنت في زاوية المطبخ أرتجف و سكين ضخمة تلامس عنقي و سيل من الشتائم ينساب على رأسي.
-اعترف أين خبأت المنشورات،إذا كنت ترغب في أن تظل حيّاً.
-لا أعرف عن أيّ منشورات تتحدث.
يستطيع أيّ إنسان ذو نظر أن يميّز نبرة الكذب في صوتي،لست معتاداً على الكذب،أضف إلى ذلك أنّني جبان،جبان بما يكفي لأن أرتعد أمام سؤال عاديّ فما بالك بسؤال مع سكينٍ حادّة على العنق.
أعاد السؤال مرة بعد مرة ولم يحظَ مني بإجابة جديدة.
في المرة الأخيرة أوشك صبره علىالنفاد فضغط السكين بشدةٍ على عنقي فسال خيط رفيع من الدم الساخن،قفز خطوة إلى الخلف حين لمس خيط الدم يده الأخرى التي يضغط بها على صدري ،ولا أعرف كيف واتتني الجرأة حينها لأضربه بقدمي بين ساقيه ،أسقط السكين فوراً و بدأ يتلوى من الألم،التقطت السكين و في حركة لا واعية بدأت أطعنه في كل نقطةٍ تصل إليها السكين ،لأكثر من خمس دقائق تلقّى جسده مني أكثر من ثلاثين طعنة،الدم ينزّ  و يتحول إلى بركة تحت الجسد  الذي خارت قواه وأسلم الروح.
تنبّهت فجأة إلى الذي يحدث،نظرت إلى يدي الملطختين بالدم ،قدماي حافتيتان و ملطختان أيضاً، وهو أمامي متكوّر كجنين مغموس بالدم،رميت السكين و ركضت خارجاً من المطبخ.
جمعت كل أشيائي المهمة في حقيبة صغيرة و سهلة الحمل،من الجيد أنني أتممت تزوير أوراقي الثبوتية منذ أسبوعين،لم يكن في ذهني أنني قد أستخدمها بهذه السرعة،رغم أنني في داخلي كنت أعرف بأنني تحت المراقبة،أنا و معظم أعضاء الجمعية و كنت أعرف أن انقضاضهم علينا مسألة وقت،لكنني كنت أتأمل أن نستطيع  توزيع المنشورات قبل هذا، كنت أتمنى أن نستطيع إشعال الفتيل،هذه البلد التي تحرقنا منذ سنوات كنت أتمنى أن نستطيع إحراقها نحن هذه المرة.
لكنني سقطت سريعاً كحجر يهوي من عِلٍ،و القلعة كما اعتاد الأصدقاء تسمية بيتي ستسقط الآن.
كل حجر يسقط من القلعة يسقط في الجحيم.
إلى الجحيم إذاً.
لكن على الجحيم أن يستقبلني باسم و رقم جديد
سيموت قاسم محمد الآن،و يولد منير الرافع.
قاسم الملوث بحب الوطن سيحترق هو والوطن إلى الأبد في هذه البقعة و سيُنسَيان أعدُ أنهما سيُنسَيان.
أما منير فسيعيش حراً لا يقلق إلا على روحه،تلك الحرية التي سأختارها لمنير ،حرية أن يكون إنساناً بلا انتماء ولا هوية ولا طموحات ثورية،حرية أن يكون  نادلاً أو موظفاً أو مدرساً ،زوجاً و أباً صالحاً.
فليحرق منير كل شيء إذاً الآن و ليكن حراً أخيراً و لتمضِ هذه السيارة بعيداً عن القلعة و عن الأرض و المنشورات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى