نصوص

الهنا والهناك

بقلم: ماري ميّا- باحثة في الفلسفة 

الهنا والهناك

بقلم: ماري ميّا- باحثة في الفلسفة

أدركت اليوم أنها في الخارج، أنها على الدوام هُناك، حيث لا تحديد لموقع هُناك، لكنها هُناك على الدوام، سرقت جولة صغيرة لتلك الشرفة، من الأعلى كانت ترى المارة فهذا الزقاق كان جميل، قبيحة هي الأماكن عندما تفقد بريقها، صاحب سيارة الشحن الصغيرة تلك كما المعتاد في مكانه ينادي على خضاره، تحديدا على يمين التقاطع، نظرة خاطفة لم تتلون كما المعتاد، ولا كما الشتاء في ناظريها، كانت نظرة الهُناك، شاحت بناظريها لذلك الملعب الذي كان جميلا فيما مضى، كانت مدرجاته وأدوات الاضاءه وحتى الغيوم التي تعبره جميلة، لكن فقد اليوم حتى لون الشتاء الجميل، عندما تكون في الهُناك يجب أن يرافقك الحنين، لون الشتاء، لكن كان الهُناك خاصتها خالية من كل إحساس وكل عاطفة، بالنسبة لها دق ناقوس الخطر، لكن من الطبيعي في الهُناك ان يكفّن القلب، قاطعها صوت أحدهم الم تنتهي من تذوق البرد؟! دخلت مغلقة الباب لكنها مازالت في الهُناك، جلست على تلك الأريكة متسائلة متى يحين وقت الهُنا؟ أليس له توقيت محدد؟ أم أنه يذهب ويجيء؟! ولما باستمرار ننتهي بالهُناك؟ ألا يجب لثقل المشاعر أن تبقينا في الهُنا؟! كيف ينتصر خواء الهُناك على دفء الهُنا؟ كانت مي زيادة تقول “باستمرار أشعر أن عليّ أن أرحل” كان لها الحق أن ترحل فمن تحبي ليس في ديارها، وهذا هو الهُناك، فالهُنا حضور الاحتواء والحب، وشعور الهُناك رحيل من هو سلام القلب وسكينته، توفت مي زيادة وهي في الهُناك، ولم تلتقي بالهُنا يوما إلا في الخيال، كم منا يعيش في الهُناك؟

أبعدت أحاديث الحزن فليس التوقيت مناسب، رسمت ابتسامة الهُنا الزائفة، لم تأخذ تجاعيد الابتسامة موضعها الصحيح، هل كُشِفت؟! تزيف الابتسامة لأنها ترغب بأن يتطابق الهُناك مع هذا الهُنا بالتحديد، لكن قلبها فقد إحساس الأمان والانتماء، كيف حققت مي استقرارها؟ شعور الهُناك المتعب؟ فليس ثمة موقع للهُناك لكنه هُناك!! كانت تلاحق التفاصيل لتعيد الهُناك إلى هُنا، لكن كل شيء يوحي بفقدان الهُنا وتحوله إلى هُناك، عم الصمت وتبعه الخيال تلاه أحاديث ثقيلة الوقت، وانتهى كل مافي الامر، خرجت وكانت تنتظر ان يلح عليها الهُنا انه مازال بغصة قلب وعمق النظرة وصدق الابتسامة، لكن كل شيء كان على عجل، فأريقت دماء الهُنا وعادت إلى الهُناك، اتجهت لتستقل عربة نقل كانت على صدمة الهُنا تسير، لم تهتم لصراخ الاخرين أثناء تدافعهم للصعود، حتى أنها لم تكترث أن الحظ لم يكن حليفها في الصعود، كان هدوء مشبع بخيبة، سارت إلى الأمام كما في كل مرة، فاعتادت أن يكون الأمام بوصلتها عند ضياع الهُنا، عبرت ذلك المتحلق ثم الدوار فالاخر، ولم تتنبه إلى غصة قلبها ودمع عينيها، ففي كل سقوط تمسحها وتتنفس الصعداء، هي الحياة قاتل متسلسل، يحضر لك الهُنا ملؤها السعادة والحب وفجأة يقلب الطاولة فترى أنك عدت للهُناك، وأن الهُنا مؤقت والهُناك دائم، تناولت منديلها عند تكاثر العبرات، ازالتهم بسرعة وكأنها توجه للالم رسالة بأن ريحلك يجب أن يكون سريع، وعاد الفراغ في تجويفها الصدري تملأه رياح هذا اليوم الشتوي، ويلونه الحنين للهُنا، الذي يقذفها في كل مرة للهُناك، والأقسى أن يغرم القلب بالهُنا التي لا تأبه، تغريبة القلب أن يحب من ينتمي لاخرين، فلا تطيق الهُناك ولا تصبر على الهُنا، فالقلب يحتاج كفافه، وتتوه بين الهُنا والهُناك، فلا حضور يرويك ولا غياب يُنجيك.

زر الذهاب إلى الأعلى