ملفات اليمامةنصوص

الكتابة والدهشة على طريق الحياة: رسائل مريم وبتول

الكتابة والدهشة على طريق الحياة: رسائل مريم وبتول

إلى العزيزة مريم،

أكتب لك بجوار مكتبة جدي. أكتب لك وتشهد كلماتي هؤلاء: الجاحظ وابن قتيبة ومصطفى صادق الرافعي. أكتب لك ويجاوروني القرآن وتفسيره والإنجيل أيضًا.

سأسعد بأن أكون أول مريض في عيادتك المستقبلية. سأطلب معلقة شعرية، إنها أفضل من خلع أضراس العقل بكثير!

اليوم، يا مريم، اكتشفت براءة الأمهات وبراءة جدي المصاب بالزهايمر، الذي أصبحت مكتبته الكبيرة مجرد رموز من الماضي. الزهايمر جرد جدي من المعاني ومن الحياة، تركه حرًا للفراغ. ولا أستطيع أن أحدد إن كان الفراغ الذي يسكن فيه جميلًا أم مؤلمًا، فأحيانًا يبكي كطفل صغير، وأجد نفسي أبكي معه ولأجله، لست أعرف من هو طفل الآخر. ربما ادعاؤنا الدائم بسوداوية الحياة ورغبتنا للهروب سببه هو جهلنا بالجانب الآخر. ربما يبدو لنا المجهول ضبابيًا جميلًا رطبًا منعشًا كنسيم الجليل الأعلى. ولكن يبدو أنه ليس كذلك، حتى المجهول يا مريم يترمى فيه الوجع، حتى النسيان موجع أيضًا. ما يختلف بين عالمنا وعالم جدي، أنني حين أحزن أعرف لمَ، لكن جدي يُباغته الحزن ولا يعرف ما الذي يشعر به. لو سألته بماذا يشعر، لأجابني: ما معنى الشعور؟ وأنا أسألك يا مريم، ما معنى الشعور؟ جهلنا لهذا المفهوم الواسع يبعدنا عن أنفسنا ويجعلنا ننظر إلى الخارج، ليس إلى الداخل.

عزيزتي مريم، يصادف اليوم يوم الأم، لكن ما أجزم أنك لا تعرفين أن اليوم هو يوم الشعر العالمي. ربما الشعر أمي أيضًا، وربما أمي ولدت بروح الشعر، فأرضعتني إياها، وها أنا الآن أعيش ما يشبه الشعر وأنظر إلى العالم بمئة عينٍ وأنادي على أمي كبستان حبٍ شاسع: أين أزرع الورد يا أمي.

بتول أبو عقلين (الثلاثاء 21/آذار/2023)

عن العالم والشعر وأشياء أخرى

عزيزتي بتول:

أكتب لكِ وأنا على فراشي وأحاول أن أصنع مقطوعة ما، وربما أكتب وأنا بجوار خزان أسود وبتُ اطرق عليه ثلاث مرات؛ الأولى لمروان، والثانية لي، والثالثة لا أعرف جودة الخزان، ولماذا لم يطرقوا جدران الخزان؟

أكتب لكِ وأنا جذع شجرة أو سحابة. لا أعلم حقيقة أين أنا وماهية وجودي الآن، فقط إنني أكتب. أكتب وتشهد الطبيعة كلها على حروفي. أكتب ويتسمر الخوف بي، الخوف يحملني بعيداً، ويجعلني أشبه بجدكِ، أنا لا أتذكر موعد آخر رسالة بيننا، ولا أتذكر كيف يغفو العالم كل يوم؟ سأضيف حزن جدكِ إلى قائمة الأسئلة التي أبحث دائماً عنها، ماذا يوجد وراء البحر؟ من أكبر الشمس أم القمر؟ هل يموت النجم ليبتلعنا؟ ولماذا يحزن جد بتول؟ في الضد يحلو المعنى هذه الاستراتيجية التي أتذوقها كل يوم، أعيش مع الضد دائماً لأبحث عن المعنى لربما يثير دهشتي لاشعر. لا أبحث عن الحزن ولا حتى عن السعادة، فقط أبحث عن تلك اللحظة التي تتلبد بها أوردتي بين شراييني من الدهشة. الشعور يحملني دائماً، هو السبب ذاته الذي يجعلني حجراً أتدحرج على المكتبة القديمة لا أشعر برائحة الكتب، أو ذاته السبب الذي يجعلني أتضور جوعاً، فأنا على الحياة أو الطعام، حتى محرك البحث مجرد لا يعلم الشعور. أكتب لكِ عن الشعور وأنا أضع البنج حتى لا أشعر بالألم الذي يعتري فمي، لربما أيضاً هذا شعور. المسافة بين بيتي والجامعة قرابة 12 كيلومترًا، كل يوم أسلكهم والطريق تحملني، كل يوم أرى السماء تولد من جديد، واكتشفت مؤخراً أن ورد الطرقات أجمل من الوردة الجورية التي يحبها الجميع. ورد الطريق مثقل لا يشتريه أحد من المارة؛ لأنه لا يباع حتى لا يُرى. تأخذني الدهشة كيف يخرج من رحم الأرض ويزين الطريق الذي عليه تعداد من السُكان يحملون شواهد قبورهم بين أعينهم كل يوم، ويستمعون إلى حديث المارة، تعصفه الرياح، حتى أنه لا يستطيع أن يطلب ماء من أحدهم. كنت دائماً أتلاشى حين يذكر إي عابر طريق عن وجوده وهو لا ينظر إلى الورد على الطريق. كنت ألعب معه لعبة المقدرة التي تضل بسوانا، يجعلني ملاكه وشيطانه المتراكمين على حافة الطريق، أسرد له كيف يموت النجم وكيف اقتُلعت الأرض من رحم أنثى، وكيف يصطف الحزن على إشارة المرور بالشارع لتنظم الموت رويداً رويداً بألوان مليئة بالتراب. أحدث ذلك الضال عن الطبيعة وعن أهمية الاهتمام بالورد المثقل على حافة الطريق، وكيف عليه أن ينجو فقط بالدهشة. كنت أشبه بصورة حية على مرايا متكسرة في الطريق، أو لربما ضمير يلاعب الزمان ويرسم خريطة أخرى لوجوده. يستطيع جسدي أن يُلقنه درساً جيداً في الزراعة مع أني أنفض عن كفي تُراب المقابر، وأحدثه كيف عليه أن يُنشئ حديث مع المارة، ومع إنني لا أراهم، وكيف عليه أن ينتقي سيارة أجرة جيدة توصله إلى حجرته، ولكنني كل يوم لا يراني السائق وأنا أنتظر لأقول “نصيرات بحر”. مع ذلك، أبقى معلقة على الطريق، أصفف الكلمات والشجر وأقلم شعري، وقدمتي تتجذر بالأرض، شرياني الأخضر يظل المراة هو أيضا ذات الشريان الذي لم يراه الطبيب ليعلق المحلول، لا أحد يراني، حتى الضال على الطريق كان ظل لأحدهم وهرب. لا شيء سوى أنا والطريق، حتى طريق البحر بات ضباباً حين يسمعه السائق ويجعلني مُكبلة على الأرض، والورد على الطريق مثقل.

حدثي الأوركيد خاصتك أن ينمو بجانب الطريق وطمأنيه أنا هنا لأتفقده.

12/نيسان/202

 

 

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى