بعيداً عن العاصمة: خالد جهاد

بعيداً عن العاصمة
بقلم: خالد جهاد
اعتدنا عند مطالعتنا منذ الصغر للتلفاز أو الصحف أو مختلف وسائل الإعلام على تمحور الاهتمام حول العاصمة سواءً كان ذلك من الناحية السياسية أو الاقتصادية التي قد تتشارك فيها مدينة أو اثنتان على الأكثر، ويمتد ذلك ليشمل النواحي الفنية والثقافية والأدبية، وتعزز هذا المفهوم بشكل أكبر بعد العولمة، وبرز في بعض الأوساط مصطلح (المدينة الكبيرة) والتي كان يتم تصويرها بمثابة الحلم لسكان الأرياف والمناطق النائية التي لا تتمتع بنفس المزايا والخدمات، ولا تملك ذات البريق وعناصر الإبهار التي تملكها العاصمة.
فعلى سبيل المثال في بلد يتمتع بمساحة كبيرة مثل مصر، نجد أن مركز الأحداث في معظم الأعمال الفنية والأدبية هي القاهرة وهذا مفهوم ،لكن مدينة هامة مثل الإسكندرية والتي تعد ثاني أهم المدن المصرية لا نجدها حاضرةً في السينما والتلفزيون إلا بشكل نادر وفي أعمال مخصوصة، وحتى أقل حضوراً في الدراما من الأعمال التي تدور أحداثها في الصعيد جنوب مصر، فيما لا تتوفر أعمال تدور أحداثها بشكل رئيس في مختلف المدن المصرية فيتم ذكرها بشكل عابر، وأصبح متعارفاً عليه نسبة لهجة البلد إلى لهجة العاصمة، فتنسب اللهجة المصرية المعروفة إلى اللهجة المستخدمة في القاهرة، وحتى أن بقية السكان في المناطق الأخرى إذا قرر الذهاب إلى العاصمة فإنه يقول: “أنا ذاهب إلى مصر.”
وينطبق ذلك على كل الدول العربية تقريباً، فبلد كبير أيضاً مثل سوريا تتمركز أحداث نتاجه الفني والثقافي أيضاً في العاصمة دمشق، ويسميها السوريون من مدن أخرى بالشام مع أن العديد من الأيقونات والقامات والرموز السورية تنحدر جذورهم من مدن أخرى ربما لا يعرف الكثير من العرب عنها.
وأعبِّر كثيراً في كتاباتي عن ضرورة الانفتاح الثقافي بين الدول العربية لكثرة ما يجمع بينها، ولتمازج مكوناتها بشكل كبير وحقيقي بعيداً عن الشعارات المملة والمكررة والمستهلكة، وأيضاً ضرورة الانفتاح على جميع المكونات الثقافية لأبناء الشعب الواحد، لكننا ننسى أو نتعامل بشكل ٍ عابر مع ثقافات وخصائص المدن الأخرى التي يحمل كل منها حكايةً وإرثاً وتاريخاً قد يتم تناوله وذكره في الكتب والإعلام أحياناً وقد لا يتم، مما يسبب شعوراً بالتهميش لدى سكانها وخصوصاً النائية منها والتي لا يتم الترويج لها أو الحديث عنها، وقد لا تملك عوامل جذب سياحي بالمفهوم الدارج لمعنى السياحة، لكنها تملك ما يميزها محلياً من مقومات يجعلها ذات طابع خاص من حيث اللهجة والعادات ونمط العيش وبعض الصناعات، ويحتاج إلى تقديرٍ واهتمام واحترام وعدم التعامل معه بنوعٍ من التعالي الذي يساهم في التباعد بين مكونات المجتمع الواحد والوطن الواحد، وينبغي غرس هذه القيم في الأطفال جنباً إلى جنب مع قيم احترام الآخر وتقبله، وعليه أن يتعامل مع اختلاف الثقافات على أنه شيء أساسي وطبيعي في كل مكان، فالمدن الساحلية تختلف في طبيعتها عن الجبلية، والريف والصحراء يختلفان عن المدينة، وهذا الاختلاف لا يعني بالضرورة أن هناك ثقافة أعلى وأهم من الأخرى، بل يجب التركيز على أن لكل منا ما يميزه وأننا دوماً بحاجة إلى بعضنا، وأن كلاً منا جميلٌ بطبيعته، فلا داعي للتكلف أو التصنع أو استنساخ الغير لأننا نفتقر اليوم إلى الأصالة والفرادة في ظل تشابه كل شيء بسبب ثقافة العولمة التي عممت نماذج بعينها تحاكي النمط الغربي ولا سيما الأمريكي وجعلتنا نفتقد ما هو منا أساساً، فلا نحن حافظنا على هويتنا وأدركنا قيمة ما نملك، ولا أصبحنا غربيين لأن طبيعتنا تغلبنا.
ومع تحول مصطلحات مثل (التفكير خارج الصندوق) إلى موضة، نأمل أن نعود إلى التفكير الإبداعي والإنساني داخل الصندوق كمرحلة أولى تؤهلنا للتفكير خارجه، والإنسان المتصل بجذوره وهويته حقاً هو القادر على تقديم عطاء إنساني يتخطى الحدود، يمنح أفكاره وعواطفه أجنحة قادرةً على استيعاب الجميع والتحليق بحرية وصدق بعيداً عن العاصمة كنموذج وحيد للهوية والتطور.