ثقافة

حول كتاب” حطموا جمود الشعر ” للشاعر محمود حسن

حول كتاب” حطموا جمود الشعر ” للشاعر محمود حسن

بقلم: أ.د. محمد بكر البوجي رئيس/ جمعية النقاد الفلسطينيين

صادر عن دار شعلة في القاهرة، الكتاب تنضيد وتنسيق الشاعرة الراقية أسماء جلال.

ندرك من العنوان أن المشهد الشعري العربي في مراحله الأخيرة مصاب بحالة من الجمود، صاحب الكتاب يرأس أهم مؤسسة شعرية في مصر وهي مؤسسة الكرمة التي استضافت معظم الشعراء في مصر والوطن العربي بل ومن شعراء أفريقيا، ينضوي تحت جناحها شعراء ونقاد كبار يسهمون دوما في إنعاش المشهد الشعري والنقدي، شارك كاتب السطور في بعض أمسياتها، تفتخر مؤسسة الكرمة أنها أسهمت بصورة واضحة في إدخال الأدب الرقمي بل والنقد الأدبي الرقمي إلى المشهد الثقافي في مصر من أوسع لبوابه، عملت الكرمة مع انتشار وباء كورونا على التواصل مع معظم شعراء العربية ونقادها في الوطن العربي وكانت على مدى شهور تشعل الفضاء الأزرق بصوت الشعراء من مصر ولبنان وسوريا والجزائر وفلسطين وكل أنحاء الوطن العربي، كان المشهد يستمر ساعات طوال ولأيام عدة ثم يستمر بصورة أخرى، أقول كان لمؤسسة الكرمة وأعضائها الفاعلين الفخر في نشر وتفعيل الحركة الأدبية والنقدية طوال فترة الإغلاق التي استمرت أكثر من عامين، وقد أشرت إلى هذا بتوسع في كتابي، النقد الأدبي الرقمي.

كتاب جمود الشعر شهادة عصر أدبي جاءت من قلب المشهد الشعري، شاعرنا المؤلف أحد صانعي هذا المشهد ومحركه، شهادة تحفظها الأيام والسنون وتكون مصدرا للدارسين والباحثين في المستقبل.
نفهم من العنوان أن ما يقال من شعر على مجمل الساحة العربية يعبر عن جمود الشعر وعدم تطوره بل وتراجعه إذا أردنا دقة التعبير، شاعرنا مؤلف الكتاب يضع إصبعه على أهم أسباب هذه الحالة، بأننا لا زلنا نكرر ما فعله شعراء منتصف القرن العشرين. نحن الجيل المعاصر تحملنا مسؤولية الشعر ومسؤولية تطوير النص شكلا ودلالة. ربما من أهم الاختلاف بين المناخين السابق والحالي، مناخ الخمسينيات والستينيات كان مناخ ثورة وتغيير، حالة استعمارية جثمت على صدر الوطن العربي، كان الشعر أداة ثورية صادقة، كان الفكر القومي العربي الذي يدعو إلى الوحدة العربية هو أساس هذه الحالة والدعوة الصارخة نحو التطور العلمي والاستقلال واستخدام الثورة المسلحة وسلمية الشعوب، هو أساس مضمون الشعر، بخلاف المناخ الحالي فقد سيطرت أفكار ليست ثورية بل نقول هي أفكار ردة تدعو إلى التقوقع والعودة إلى الذات التراثية، صار التراث مقدسا والشعر الخليلي هو المقدس ومن يخرج عليه مشكوك في ذمته، أدى هذا إلى عودة الشعر إلى عصر البارودي بصورة أقل جودة وتكرار واضح و ممجوج. أدى انتشار المد الديني في المرحلة الأخيرة إلى التراجع في كل شيء ثقافي وفني ونفسي، حتى أداء مسرح البالون في مصر قد تراجع بصورة كبيرة، لقد تراجع الذوق العام والشعور العام والأفق العام إلى فكر لم يعد يناقش عصرنة الحياة، أيضا تراجع الحكومات في احترام الكاتب وإنتاجه، فلم تعد تطبع وتمنح الكاتب مقابلا يعوضه عن سهره وتعب الإبداع، الكتاب يطرح عشرات القضايا الناقدة وكل قضية تحتاج إلى كتاب مستقل، مثل: قضية الشعر والواقع، ليس من مهام الشاعر أن يعالج الواقع وأن يضع حلولا، لكن الشاعر بطبعة هو ابن بيئته حتما ستكون صورته من البيئة وأفكاره ومخيلاته ولغته، الأدب هو نتاج بيئة الأديب، نتاج تجارب شخصية ومجتمعية وأحداث وسلوكيات وأفكار مجتمعه، لن يستطيع الخروج عنها حتى لو حاول، لن يستقيم أدبه، لكن هناك قضية الالتزام، لا يستطيع أحد إلزام الأديب بفكر معين أو أسلوب معين، هنا يأتي دور المتلقي الناقد في أن يعتني بما هو أقرب إلى وجدانه وفكره، قد لا يلتفت إلى نصوص تطرح قضايا لا تمس نبض المجتمع، هناك كاتب روائي فلسطيني أصدر رواية تطرح موضوع الماسونية والدين دون ربطها بالقضية الفلسطينية، لم يلتفت إليه أحد من كبار النقاد لأنها ليست موضوعنا، نحن نعيش حالة نادرة في الظلم والعدوان الذي هو أصلا الموضوع الأول والأخير للأديب في فلسطين.
موضوع آخر يطرحه المؤلف، وهو موضوع المصطلح النقدي المتداول الذي يشوبه الغموض وعدم ضبط الدلالة حتى عند مجمل النقاد، بعضهم يستخدم المصطلح كما هو في بيئته التي أنتجته دون محاولة تعريبه، مثل مصطلح” الهرمونيطيقا” الذي هو أصلاً علم تفسير الكتاب المقدس، مصطلح في بيئته مصطلح كهنوتي نعيد توظيفه هنا كما هو، أيضا تعددت المصطلحات وتداخلت في مفاهيمها والسبب في ذلك تعدد مشارب النقاد، من جاء من روسيا يستخدم مصطلحات بعينها، من جاء من فرنسا كذلك، ومن جاء من أمريكا أيضا كذلك، ليس لدينا هيئة علمية خاصة في اختيار المصطلح الفكري الخاص الذي يتلائم والمناخ الثقافي العربي، مثلاً: اخوتنا النقاد والمفكرون في المغرب العربي مولعون بمصطلحات فرنسية دون ترجمتها، لهذا نجد أحيانا صعوبة في مشاركتهم استيعاب ما يسطرون، دعونا في مناسبات كثيرة توحيد المصطلح باللغة العربية سواء في الإعلام أو في النقد الأدبي، يبدو أن مجامع اللغة المنتشرة في كل عواصم الوطن العربي غير معنية بالموضوع، هذا أمر مؤسف حقا، رغم أن الأديب الكبير محمد عثمان جلال تلميذ رفاعة الطهطاوي وضع لنا أسس الترجمة والتمصير والتعريب وله في ذلك باع طويل.

كثيرة هي الأسباب التي أدت إلى تراجع وجمود المشهد الشعري كما يراها مؤلف الكتاب، نحن الآن نناقش قضايا عمرها خمسون عاما انتهى منها الأقدمون ،نعيدها الآن لأنها برأيهم تمس شرف التراث، عدنا نتبادل الشتائم حول قصيدة النثر أو قصيدة التفعيلة ، انتهى هذا الموضوع من أربعين عام مضت، صارت الحركة الشعرية معتمدة على ثلاث ركائز بمجملها رافعات للحركة الشعرية، العمودي والتفعيلة والقصيدة النثرية ،لا نقاش في ذلك لأن كل شكل يمتلك كما هائلا من الانتاج يستحيل محوه أو تكفيره، الآن نخضع جميعا للمد الديني سواء بإرادتنا أو بدافع غامض في ذواتنا، نحن بحاجة إلى إنطلاقة ثقافية جديدة نتجاوز ما حققه أدباؤنا قبل سبعين عاما. غضب مني أحد الشعراء عندما قلت: أننا عالة على زمن منتصف القرن العشرين، ازعلته كلمة عالة، هل نستطيع أن نجد لها بديلا، أرجو ذلك عندما يتحول المشهد من جموده إلى انطلاقه في كل مجالات الإبداع من الأغنية والباليه والنحث والتشكيلي والمسرح وفن الكلمة. مطلوب ثورة مستقبلية تحدد ملامح عصر قادم سريع الإيقاع، هل سنبقى على الرصيف نشاهد قطار الإبداع الكوني يسير ونحن ننتظر أن يتوقف حتى نفكر بالصعود. لا أحد يملك أدوات محاسبة الشاعر لأن الشعر هو مجهود ذاتي صرف لا أتقاضى عليه أجرا أو وظيفة هو عمل شخصي، من حقي أن أختار الشكل الملائم لفكرتي وومفرداتي، أنت إنسان متطرف دينيا هذا شأنك الخاص لا تفرضه على أحد العلاقة بينك وبين الله فقط دون ضجيج، دع غيرك يفكر في الكون وخالقه بطريقته الخاصة،
معظم الشعراء الكبار إن لم يكن كلهم لم يستخدموا الجانب الديني في إبداعاتهم للهجوم على أحد، من امرىء القيس والمتنبي وشوقي ودرويش وأدونيس. لا أقصد هنا شعراء الصوفية، هم حالة إبداعية خاصة لا توازيها حالة أخرى. من أسباب جمود الحركة الأدبية عموما والشعرية خاصة كما طرحها المؤلف: هو المتلقي المعاصر الذي تبلدت أحاسيسه بفعل التطور التكنولوجي، هذا المتلقي تتصارع عليه كل وسائل الإعلام بأساليبها المبهرة والمدهشة هنا يتعقد دور الكلمة في إصابة المتلقي بحالة الدهشة، الأديب بحاجة إلى مجهود مضاعف لصناعة تركيب لغوي وصورة شعرية لإدهاش المتلقي، يصعب الآن أن تؤدي الكلمة دورها الذي كان قبل خمسين عاما، لهذا ينكفىء المتلقي على نفسه ولا يلتفت إلى قراءة إبداع أدبي وأمامه ما هو اقوى وأكثر دهشة من تقنيات معاصرة، أيضا من أسباب جمود الحركة الأدبية: انتهى عهد الحكومات العربية التي كانت تطبع الكتاب الإبداعي في مؤساستها بل وتمنح المؤلف بدلا ماليا، الآن يدفع الكاتب من جيبه الخاص من أجل طباعة كتابه، ثم تحاسبة المؤسسات الدينية على كلمة هنا أو هناك، وتقوم بعض دور النشر بسرقة وتزوير الكتاب دون حياء أو خوف لأن القانون هنا مائع لا يحمي الحرية الفكرية بسهولة.

طرح مؤلف الكتاب شاعرنا محمود حسن قضية نقدية مؤرقة للنقاد العرب، ألا وهي صناعة نظرية نقدية في الوطن العربي، كنت في ندوة فكرية في القاهرة، طرحت رؤيتي نحو نظرية نقدية بعنوان، الطاقة والتحليل الإبداعي نظرية جديدة في النقد، بعد نهاية كلمتي انتفض أستاذنا الدكتور جابر عصفور قائلا: نحن لسنا بحاجة إلى نظرية نقدية لأن سمات واضع النظرية هي فلسفية كونية وليست خاصة بالنقد الادبي، أيده في ذلك الدكتور علاء عبد الهادي رئيس نقابة اتحاد كتاب مصر، لكن الدكتور أحمد درويش أستاذ النقد المعروف في كلية دار العلوم بالقاهرة قال من حقه أن يطرح رؤيته ومن حق الوطن العربي إفراز نظرية نقدية. صدر كتابي الموسوم” الطاقة والتحليل الابداعي نظرية جديدة في النقد”، وفيه تطبيق رؤيتي على بعض القصائد الشعرية والرواية، لكن الكتاب لم يجد اهتماما لائقا في مصر ربما يعود إلى انتشار الكورونا أو أن كاتبه بعيد عن ساحة العاصمة الثقافية القاهرة، عدم الاهتمام يذكرني بما فعله الصحفي الكبير محمود السعدني في ثمانيات القرن العشرين عندما نشر قصة قصيرة وقال إنها مترجمة عن الكاتب الإنجليزي فلان، بدأ النقاد الصحفيون يكتبون عن التربيع والتدوير والكلام النقدي الكبير، بعد أيام كتب السعدني: بصراحة أن القصة من إبداعه هو شخصيا وليست مترجمة ثم كتب عن عقدة الخواجة.
الإهداء في مدخل الكتاب يثير مجموعة قضايا من صلب النقد بل هي قضية نقدية قديمة متجددة يقول المؤلف، إهداء إلى ناقد ليس في نفسه من المبدع شيء، جملة من صلب النقد الأدبي لأن العلاقة بين روح الناقد والنص علاقة مباشرة قد يكون صاحب النص من عصر أدبي قديم لكنني أحبه من خلال نصوصه وقد يكون معاصرا وتربطني به علاقة صداقة شخصية، رائع ذلك لأن النص سيفتح لك عروة قميصه ويمنحك ما تبتغي، ما يقصده شاعرنا المؤلف هنا في الإهداء هي العلاقة الضدية أي أن ينتقم الناقد في رؤيته للنص من خلال شخص صاحبه لاختلاف في الرأي أو المعتقد أو الجنس، هنا يبتعد النقد عن النزاهة وقد يتطاول الناقد على حيثيات النص وصاحبه، هذا ليس نقدا بقدر ما هو موقف سلبي مثال ذلك موقف بعض النقاد الذين يتطاولون على نجيب محفوظ ويوسف إدريس والمتنبي والمعري وعبد المعطي حجازي ومحمود درويش وأدونيس لأسباب فكرية، هنا الناقد يحاسب شخص المبدع في سلوكه وفكره ولا يتفاعل مع النص بصورة محايدة، النقد عملية ثقافية إنسانية مستقلة، الأداب والفنون تنمو وتزدهر مع الثورات والمتغيرات الجذرية وتضعف مع الركود الفكري والتبعية.
الكتاب بحق يستحق القراءة، يطرح كما وافرا من القضايا العالقة في صلب الثقافة العربية، وهو شهادة من شاعر ومفكر يعده البعض محركا ثقافيا، أقول: الكتاب سيحتفظ برونقه وسطوته عبر تراكمات الزمن، دوما هي مصر منبع المرتكزات الثقافية في عاصمة الثقافة العربية بلا منازع، القاهرة، سندا وعضدا للأمة العربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى