ثقافة

قراءة في قصة قصيرة بعنوان: “برتقالية” للدكتور البوجي

قصة قصيرة بعنوان: “برتقالية”

للأستاذ الدكتور: محمد بكر البوجي

بقلم / نائل يوسف الشبراوي

تعتبر هذه القصة من أروع القصص التي قرأتها، والتي جعلتني أعيد قراءتها مرارًا وتكرارًا، حيث تعد من أبرز القصص التي عملت على تنشيط الذاكرة الفلسطينية لكافة الأجيال، فالكاتب يقدم لنا باستمرار ذاكرة تاريخية نضالية عن الشعب الفلسطيني ودوره النضالي الفعَّال ضد محتله الغاصب، فنجده لا يزال يقاوم المحتل على مدار ٧٣ عاماً دون استسلام وكلل وتعب، ويهدف الكاتب من خلال تقديمه مثل هذه الأعمال إلى تثبيت الذاكرة الفلسطينية، وترسيخها في أذهان الأجيال؛ حفاظاً عليها من الطمس والضياع، وخير دليل على ذلك: محور الحكاية الذي تحمله قصصه باستمرار، والذي يتمركز في النضال الفلسطيني العنيد الذي يأبى كافة أشكال الذل والإهانة، والذي دائماً يسعى إلى التحرر ونيل الحياة الكريمة.

الكاتب محمد بكر البوجي كاتب مبدع بكل معنى الكلمة، ويعتبر الجد الأكبر الذي يروي لنا دومًا حكاية الإنسان الفلسطيني المقاوم الذي يسعى دائماً إلى نيل حريته وكرامته، والحفاظ على شرفه وعرضه من المحتل الغاصب، ويحاول الكاتب دومًا أن يسرد لنا حكايات تبقى محفورة في عمق الذاكرة؛ ليتوارثها الأجيال أبًا عن جد، فهو بمثابة ذاكرة تاريخية نرى من خلالها تاريخنا النضالي الحافل بالبطولات والانتصارات والتضحيات، أدام الله هذا الكاتب الكبير ليستمر في رواية الحكاية الفلسطينية بشعبها العريق.

القصة التي بين أيدينا -والتي بعنوان “برتقالية”- تتناول في طياتها حكاية إنسان فلسطيني يأبى الذل والإهانة والمساس بعرضه، ألا وهي شخصية “يحيى” الذي لم ينم طوال الليل وهو يتخبط يمينًا ويسارًا من شدة القهر الذي رآه من المحتل “الخواجا”، حيث تبدأ أحداث القصة عندما كان “يحيى” عريسًا متزوجًا منذ فترة قصيرة، وخرج في يوم من الأيام مع زوجته العروس في زيارة إلى بيت أهلها، وأثناء سيرهما أوقفهم “الخواجا”، وطلب من يحيى هويته، وأخذ ينظر إليها ويسخر منه ويضحك، وطلب منه أن يأتي إليه، ثم أخذ يقول ليحيى إن زوجته تبدو جميلة جداً، وطلب منه أن يقبلها أمامه، فرفض يحيى وغضب، وقال له إن عاداته وتقاليده تختلف عن عاداتهم وتقاليدهم، ثم أخذت زوجة يحيى تنادي عليه وطلبت منه أن يقبلها لينتهوا من هذا الأمر، فأخذ يحيى يقبل رأسها، وسأل الخواجا إن أرضاه ذلك أم لا، فرد عليه ب “لا”، وأنه يريد منه أن يقبلها قبلة طويلة من فمها، عندها أمر يحيى زوجته بالذهاب إلى بيت أهلها وأنه سيلحق بها.

وعندما همت زوجته بالمشي نادى عليها الجندي وأمرها بالرجوع وإلا سقوم بسجنها هي وزوجها، وأمرها بأن تجعل زوجها يقبلها أمامهم، فرفضت رفضًا قاطعًا، فأخذ برأسهما وضربهما ببعضهما البعض، وقال إن القبلة انتهت القبلة وأمرهم بالانصراف، وأخذ الجنود يسخرون من ذلك، وعندها قرر يحيى أن يأخذ حقه، وينتقم من الخواجا الذي أهانه أمام زوجته والجنود، فلم يستطع أن ينام طوال الليل حتى يثأر لنفسه ولزوجته.

وفي اليوم التالي، أخبر يحيى رفاقه عن تلك الحادثة، وطلب منهم أن يستعدوا لتنفيذ عملية لإحدى الدوريات التي كان قد عرف أبناء المخيم “مخيم رفح” مكان وزمان تواجدها، فقام يحيى بأخذ حبة برتقال من نوع “شموط”، وطلاها باللون الأسود، حيث قام بتشكيلها على هيئة قنبلة يدوية تشبهها تماماً، وعندما انتهى من ذلك أخبر رفاقه بالاستعداد للهجوم على تلك الدورية، وكان الهجوم يقوم على إلقاء تلك القنابل عند مرور الدورية؛ لإخافتهم ومن ثم الهجوم على الجنود، ونزع أسلحتهم وملابسهم، ومن ثم نفيهم خارج المنطقة والعمل على قتلهم وتصفيتهم، وتكللت العملية بالنجاح، خصوصًا بعدما قام أبناء المخيم بمساعدتهم في تنفيذها، وهذا ما رأيناه في القصة.

ثم بعد ذلك، شاع في الأخبار العبرية أن جنود الاحتلال أصيبوا نتيجة إصابتهم بانفجار لغم قديم؛ كما هي عادة المحتل الذي يسعى دومًا لإخفاء الحقيقة، ونجد أن الاحتلال قام بفرض منع التجوال على أهالي المخيم، وعمل على جمع الناس والتحقيق معهم حول هذه العملية، لكن أهالي المخيم لم يعترفوا بشيء؛ فنام يحيى مرتاح البال عند جاءه خبر يفيد أن الاحتلال لم يعلم بمن قام بتنفيذ العملية.

وبعد مرور فترة من الزمن، أنجبت زوجة يحيى فتاة جميلة سُمِّيت “حُرية”، لكن الضابط الإسرائيلي المسؤول غيَّر اسمها في شهادة الميلاد إلى “حورية”، وقال الضابط مبتسماً -كما ورد في القصة- : “سبعين حورية” ، فضحك الموظف الملتحي رافعًا يديه إلى السماء، وأردف قائلًا: “يا رب من نصيبي”، هكذا كانت نهاية القصة.

نلاحظ في بداية القصة أن الكاتب وظَّف فنًا من الفنون البيانية، ألا وهو “فن الاستعارة”، حيث شبه شخصية “يحيى” بالأسد القوي الغاضب الذي يفكر كيف سينقض على فريسته “المحتل” بحيلة وذكاء، فذكر المشبه “يحيى”، وحذف المشبه به “الأسد”، وأبقى صفة من صفاته وهي القوة والغضب والذكاء، وذلك على سبيل الاستعارة المكنية، وهذا ما ظهر في قول الكاتب: “طرق ذهنه عن فكرة جهنمية كي يصطاد فرائسه بسهولة، يتقلب ليلا في فراشه ، هل تصلح الخطة لاصطيادهم، لقد أهانوني أمام زوجتي”.

يمكننا القول إن هذه القصة بمثابة ذاكرة تاريخية نضالية، نرى من خلالها تاريخنا النضالي العريق المليء بالبطولات والمقاومة، ونرى من خلالها صورة المقاوم الفلسطيني العنيد الذي يسعى دائماً إلى ثبيت جذوره على هذه الأرض، ويسعى إلى كشف نوايا المحتل الخبيثة وغطرسته، فهو ينوي مسح الهوية الفلسطينية، ونفي الشعب الفلسطيني إلى مخيمات اللجوء والشتات الممليئة بالفقر والجوع والمذلة.

ونرى الكاتب يرسم لنا صور النضال الفلسطيني والكفاح المسلح، والتي برزت بشكل جلي في القصة من خلال الشخصيات التي رسمها الكاتب وما قامت به، وذلك يظهر عندما قام يحيى ورفاقه بالهجوم على دورية المحتل، ونزع أسلحتهم وملابسهم، ونفيهم خارج المنطقة، والقيام بتصفيتهم.

أما عن لغة القصة، فنجدها لغة سلسة قريبة من القارئ العادي، فهو ليس بحاجة للبحث عن معاني مفرداتها في المعاجم العربية اللغوية، فبإمكانه أن يفهمها بسهولة كبيرة، وهذه سمة من سمات الكاتب المبدع، الذي يستطيع الوصول إلى قلوب الجماهير بكلماته البسيطة، فيستقبلونه دومًا برحابة صدر، وخير دليلٍ على سلاسة لغة الكاتب ما جاء في قوله:

– الضابط إلى يحيى : تعال اقترب.

– يحيى إلى الضابط: عيب يا خواجا لا يجوز، لنا تقاليدنا، مزبوط لكم تقاليدكم، وجيش الدفاع له تقاليده.

– زوجة يحيى إلى الضابط : اسمع ولا يا خواجة، والله لو انطبقت السما على الأرض طلبك ما يتم، هذا زوجي.

وغيرها الكثير الكثير من الكلمات السلسلة الدارجة بيننا والتي نستعملها بكثرة في حياتنا اليومية.

وأما عن الحوار، فكان حاضراً بشكل كبير في القصة -وليس ذلك علينا بغريب- فنجد أن هذه القصة قائمة على الحوار بنوعيه: الحوار الداخلي -بين الشخصية وذاتها- والحوار الخارجي -بين شخص وآخر- وهذا ما ستلاحظه عزيزي القارئ في السطور الأولى من القصة، وقد تمثل الحوار الداخلي عند حديث يحيى مع نفسه ليلاً عندما كان يسأل نفسه كيف سينقض على فريسته “المحتل” وهذا ما جاء في قول الكاتب: “طرق ذهنه عن فكرة جهنمية كي يصطاد فرائسه بسهولة، يتقلب ليلًا في فراشه، هل تصلح الخطة لاصطيادهم، لقد أهانوني أمام زوجتي”.

أما عن الحوار الخارجي فقد دار بين يحيى وزوجته والخواجا، وبعض الأمثلة على ذلك ما جاء في قول الكاتب:

– يحيى إلى رفاقه: “جاهزون، نعم جاهزون”.

– الزوجة إلى يحيى: “تعال خذ قبلة حتى ننصرف عنهم”.

– الجندي إلى الزوجة: “تعالي هنا، إنه يريد تقبيلك هنا أمامنا وإلا حبستك أنت وهو”.

ونلاحظ بأن المكان الذي جرت فيه الأحداث “المخيم” رسم الكاتب من خلاله صورة وحدة أبناء الشعب الفلسطيني وتعاونهم ضد المحتل، ومقاومتهم بكافة السبل والوسائل؛ لطرده وكسره، وهذا كان بارزاً بشكل كبير في القصة.

ويمكنني القول -كما أسلفت سابقًا- إن هدف الكاتب من وراء هذه القصص هو تنشيط الذاكرة الفلسطينية؛ حفاظاً عليها الهوية من الضياع والطمس، والحرص على عدم انشغالها بقضايا اجتماعية أخرى، والتركيز على التحرير والمقاومة.

وختامًا نقول: لسنا فقط أمام قصة قصيرة، وإنما نحن أمام لوحة نضالية، نشاهد من خلالها أروع حكايات النضال والمقاومة التي سطَّرها لنا التاريخ على مر العصور.

زر الذهاب إلى الأعلى