منوعات

أرواح دافئة الملامح

أرواح دافئة الملامح

خالد جهاد – كاتب فلسطيني 

ترافقنا المرايا على مدار سنوات عمرنا كصديقٍ حقيقي نلجأ إليه في محنتنا، ترينا وجوهنا دون تزييف، وكثيراً ما نكره بوحها لنا، خاصةً في بداية تكويننا وإحساسنا بذاتنا، عندما نكون غصناً أخضرَ يتلمَّس طريقه، ينتظر كلمات الثناء والإعجاب، تتفتح براعمه وأحلامه وتنطلق روحه مقبلةً على الحياة، يود معانقتها ومراقصتها ومداعبتها ومصادقتها، ويجد أن هناك الكثير من الأبواب التي لا تفتح له والكثير من الوجوه التي لا تضحك له، والأيدي التي لا تصافحه دون أن يدري ما السبب، وما العيب فيه ليلقى ذلك.

فكثيراً ما تقدَّم أحدنا لوظيفةٍ أو منحةٍ، أو حتى فكَّر بالارتباط بشخصٍ يحبه، أو فكَّر بالإقدام على أي خطوةٍ مماثلة، ولم يخبره أحد بشكلٍ واضح أن ملامحه أو قوامه أو شكله الخارجي أو نوعيَّة ملابسه هي السبب، وإن كان نظيفاً أو مُهَندماً أو يتمتع بهيئةٍ لائقةٍ لكنها بعيدةٌ عن متطلبات اليوم من مظهرٍ يحتاج الكثير من عناصر الإبهار والجاذبية على صعيد الشكل، والذي قد يكون سبباً رئيساً في قبول شخصٍ أو رفضه بعيداً عن معيار الكفاءة أو القدرة على تأدية الدور المطلوب منه وإن كان الأنسب له، أو حتى كونه حبيباً مخلصاً وصادقاً في مشاعره تجاه من يحبها، أو العكس في حال كان الحديث عن أنثى، فيدفع ذلك الكثيرين إلى الإنزواء والإحباط، والشعور بالنقص والمقارنة المستمرة مع الآخرين من ناحية المظهر، ويخلق نوعاً من الغضب والألم والحسرة في داخل النفس مصدره الشعور بالظلم والعجز، ولا يستطيع أحد أن يلومه، فهو لم يختَرْ ملامحه أو ظروفه، وقد يكون الكثير من الذين يعانون من وزنٍ زائد أو عيبٍ خلقي أو تشوهٍ واضح ناتجاً عن مرضٍ أو مشكلةٍ وراثية كالبهاق مثلاً أو حادثٍ تعرَّض له، لكن الآخرين لا يزالون يقيِّمون أي شخص بناءً على مظهره، ويتحول هذا التقييم في أحسن الأحوال إلى نوعٍ من الشفقة، وهو شعورٌ لا يقل سوءاً عن شعور الرفض لشخص بناءً على مظهره الخارجي..

ويمتد ذلك إلى نواحٍ أخرى تشمل الحكم على الأشخاص أو تقييمهم أيضاً بناءً على ملامحهم، ولكن بنكهةٍ عنصرية تتركز بشكلٍ خاص على من يحمل ملامح آسيوية أو إفريقية، أو لديه بشرةٌ داكنة أو شعرٌ مجعَّد أو أنف بشكلٍ مختلف حتى وإن كان مواطناً، نتيجة ارتباط الأب أو الأم أو الجد بشخصٍ من إحدى هذه الثقافات والتي لا تقل شأناً عن أي ثقافة أخرى، مما يشكِّل – بشكلٍ أو بآخر- نوعاً من الحصار على الإنسان وأفكاره وذوقه، ويقوم بإجباره بطريقةٍ غير مباشرة في لا وعيه وتوجيهه نحو مفهومٍ وشكلٍ معين يختصر الجمال البشري في الملامح الأوروبية أو العرق الأبيض، والذي يحمل معه شعراً أشقراً وعينين ملونتين، ويضع بقية الفئات والأعراق وأنماط الجمال الأخرى في مرتبةٍ أقل تتطلع باستمرار لمحاكاتها وكأنها مسطرة يقاس عليها، فكم من شخص حاول تغيير مظهره أو إنقاص وزنه ليحاول أن يشبه اسماً بعينه بسبب رفض الآخرين له، أو السخرية منه أو التكبر عليه، والتي كثيراً ما تبوء بالفشل أو تقود لنتائج مؤذية لأصحابها، وفي بعض الأمثلة المتطرفة تقودهم إلى الانتحار، وكنا نلاحظ تصدُّر الشكل الغربي منذ زمنٍ بعيد على صفحات المجلات وشاشات التلفاز والإعلانات التجارية وحتى الملصقات الدعائية للأدوية، وفي عيادات الأطفال التي تقبل على اختيار هذا النموذج، والذي تم بمرور الزمن كسر احتكاره لمفهوم الجمال.

ومما لاشك فيه أن لكل ثقافة جمالها الخاص من الناحية الوجدانية لا المادية، وأيضاً معاييرها ونموذجها الخاص للجمال من ناحية الشكل، وهذا يدفعنا إلى توسيع آفاقنا باتجاه اكتشاف مفاهيم مختلفة عن التي نشأنا عليها أو تتداولها مجتمعاتنا وأغلبها خاطئ، ويدفعنا أيضاً إلى الوعي بأن الشكل الخارجي ليس معياراً لتقييم الجمال أو تقييم الأشخاص، وأن ما يدل على جمال الإنسان هو ما يختاره رغم ظروفه، كالأخلاق والكفاءة والثقافة كون صاحبها هو من يسعى لها ويبذل مجهوداً كبيراً في التمسك بها، مع أنها قد لا تعود عليه بالمنفعة المادية بمعايير الزمن الحالي. أما بقية الأشياء التي لم يخترها فلا تتعدى كونها مجرد مصادفة أو حظ لا يد له فيها، كما يجعلنا ننشئ أطفالنا على هذه المفاهيم، فعلينا أن نمدح الطفل بسلوكه وليس بشكله مع تعليمه لأهمية الحفاظ على مظهرٍ لائق، فنشجع الطفل بالثناء عليه بأنه صادق أو مخلص أو مجتهد أو عطوف وليس وسيماً أو جميلاً؛ ليعزز ذلك إدراكه بأن التقدير مرتبط بجهده في أن يكون شخصاً جيداً وليس نابعاً من مظهره، وليفهم أن محبتنا له غير مشروطة وغير مرتبطة بجماله، كمبادئ سيمتد أثرها إلى مفاهيم مختلفة أكثر عمقاً وتشعُّباً عندما يكبر، وستشكِّل منظومة القيم في حياته، وليفهم أثر الكلمة والنظرة على الغير وأنها قد تكون جرحاً كما قد تكون دواءً، وليعرف أنه جزء من هذا العالم وليس مركزه، وأن هناك الكثير من العظماء والمهمين الذين أثروا الإنسانية بعطائهم وفكرهم ومحبتهم وتحولوا إلى أيقوناتٍ خالدة للجمال، لأن ما قدَّموه تخطَّى كل المفاهيم السطحية فنَفِذ إلى أعماق الروح وسكنها، فطغى على ملامحهم دفئاً وسلاماً، وما يستوطن الروح لا يغادرها أبداً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى