ثقافة

تناغم المضْمَر مع الظاهر في الدوال الزمكانية في قصيدة 

تناغم المضْمَر مع الظاهر في الدوال الزمكانية في قصيدة

(القدس أرض السماء) للمتوكل طه

بقلم: أ. د. زاهر محمد حنني

رئيس قسم اللغة العربية/ جامعة القدس المفتوحة 

الحديث عن المضمرات في النصّ الإبداعي لا تحكُمُهُ قاعدة ثابتة يمكن القياس عليها في كل نَصّ؛ ذلك أن القارئ للنصّ الإبداعي يختلف عن غيره من القرّاء في جوانب عديدة، أبرزها ما يرتبط بتجربته الشخصية وأبعادها الثقافية والمعرفية، ثم قدرته على استجلاء أعماق النصّ والغوص في مكنوناته وربطها بعناصرها النصية. كذلك فإن النص الإبداعي نفسه يختلف عن غيره من حيث العمق أو عكسه، ومن حيث الأسلوب وما يرتبط به.

وعندما يرتبط الحديث عن المضمرات النصية بالدوال الزمكانية، فإن المهمة تتجاوز الحديث عن ظاهر الدوال الزمانية والدوال المكانية، إلى ما يتعلّق بها من أبعاد فنية في مجملها، وليس ما يتعلق بها من تاريخ وجغرافيا فحسب. وبذلك يمكن عدّ المضمرات النصية الزمكانية هي التي تشكّل الفضاء النّصّيّ الإبداعيّ.

الشاعر الفلسطيني المتوكل طه أحد أبرز الشعراء الذين ارتبط إبداعهم بالموقف الثقافي والرؤية الفنية الإبداعية، والقدس في شعره ليست مجرد مكان أو زمان فحسب، وهو الشاعر الأبرز والأغزر إنتاجاً أدبياً حول القدس؛ فقد كتب أربع عشرة قصيدة أكثرها مطوّلات شعرية، بالإضافة إلى كتابه نصوص إيلياء، وكتابه نصوص الأسباط -عن الرباط في باب الأسباط-.

قصيدة القدس أرض السماء هي مطوّلة شعرية جاءت في أربعٍ وستين صفحة، من شعر التفعيلة وعلى تفعيلة واحدة هي تفعيلة الكامل (متفاعلن) من أولها إلى آخرها.

الزمان والمكان في ظاهر النص:

يربط الشاعر بين تاريخ المدينة من خلال استعراض أمكنتها وأزمنتها، بدءاً من موجودات قبة الصخرة وحجر النبي، إلى سورة الإسراء، وسور القدس وجبل المكبر، والأنبياء، وخان الزيت، وحالاتها التاريخية عبر الأزمان، وتحوّلاتها الجغرافية في المكان، وتتناول القصيدة ما يرتبط بالزمان والمكان في القدس من تاريخ، قديماً وحديثاً، كذلك يربط الشاعر بين القدس وأسمائها والأماكن التي لها علاقة بها، كمدن فلسطين التاريخية حيفا ويافا وعكا ونابلس وغيرها، ومدن العرب التاريخية كبابل وبغداد وغيرها، ويعرض الشاعر مشاهد من حياة القدس قديمة وجديدة، من نضالها وجهادها في مواجهة المارين بها غزاةً، ومشاهدَ للعابرين، ومشاهد من سقوطها في أيدي المحتلين، وكيف تفاعلت مع أهلها، وتفاعل معها كل شيء حتى أرحام النساء التي توقفت عن الحمل.

وفي جانب آخر يعرض الشاعر لجبروت الإنسان الفلسطيني الذي قُدِّرَ عليه أن يظل مقاوماً رافضاً لكل أنواع الاعتداءات على القدس، فكان هو الثابت الوحيد في القدس، واستشهد بأحداث تاريخية لأخوّة الإسلام والمسيحية فيها، وعرض لمشاهد جميلة صوّر فيها المدينة في حالاتها المختلفة؛ فقد صوّر أبواب القدس كل باب باسمه وما يمثّله من أهمية. ويختتم القصيدة بتأكيد حتمية اللقاء بين الفلسطيني والقدس.

المضمرات النصيّة في الدوال الزمكانية:

ذهب كثيرٌ من النقاد إلى الجزم بأن المكان والزمان وحدة واحدة لا انفصال فيها؛ فهذا التكامل يمنح العلاقة بينهما الفاعلية في الكشف عن الرؤى الفنية الإبداعية، خاصةً تلك التي تحفل بالمسمّيات المكانية، وذهب بعضهم إلى أن الزمن الشعري في القصيدة هو الزمن الفنّي الذي يمتد إلى زمن الإبداع، وهو زمن مستمر لا متناهٍ على الإطلاق، وأن المكان الشعري هو المكان الشاعري الذي يمتد طيفُهُ وأثره فوق حيّز المكان الفيزيائي الذي سرعان ما يتلاشى طيفُهُ بعد انتهاء صيرورة العمل الفني.()

إن البحث في المضمر من الدوال الزمكانية هو بحث في جوهر المتن الشعري، ويجلّي الرؤية الشعرية للنص الإبداعي.

قد يبدو للوهلة الأولى أن عنوان القصيدة (القدس أرض السماء) تعبير مباشر تُقابله وترتبط به بدايات مقاطع كثيرة فيها، مثل: (القدس أرض الله، القدس خان الزيت، القدس أقرب ما تكون إلى الرسول، القدس طفلتنا التي قصّوا جدائلها، القدس بابل، القدس أول ما سيظهر بعد طوفان السفينة، القدس لم تعرف رياح التيه، القدس قبل العصر…، القدس أبوابٌ إلى كل الجهات، القدس أغنية الرخام، القدس عين الله…..). والقارئ المتأمل يجد أنها غير ذلك؛ فالقدس (المبتدأ) في كل هذه المقاطع، هي المبتدأ في فضاء القصيدة، وكل ما عداها خبر لها؛ فهي في العنوان (عتبة النص) المعادل الفني والموضوعي لأرض السماء وأرض الله، وهذا يمثل ذروة فنية وتعبيراً تقنياً، أقام عليه الشاعر المضمر والظاهر في قصيدته، ليمثل كلاهما فضاء النص المادي والمعنوي، الأمر الذي يؤكد عدم إمكانية فصل الزمان عن المكان رؤيوياً في القصيدة؛ إذ جعل الشاعر الفضاء المكاني (القدس) يمثل محور ارتكاز الحدث الشعري، والبعد الديني هو البعد البؤري في تفعيل المكان والزمان (الله، السماء، الرسول، الطوفان،….).

قصيدة المتوكل طه (القدس أرض السماء) تخط زمانها وفضاءها الوجودي منذ لحظتها الأولى، إذ يستهل الشاعر القصيدة بقوله:

نارٌ على حَجَرِ النّبيَّ،

وشهقةٌ من سورةِ الإسراء في بال المدينةِ،

وابتهالُ التينِ والزيتونِ في جبلِ المكبّر ِ

والفضاء على ضياءِ السّورِ يعلو بالفضاء.

النار دالٌّ زمكانيٌّ، مرتبطٌ بالمكان (حجر النبي) الموجود داخل قبة الصخرة، في المدينة (القدس)، ومرتبط بالزمان في شهقة وابتهال، وهذه الدوالّ تمثل بؤرة مضمرة من حالة شعورية قائمة على التوتر والانفعال؛ فالنار في حالاتها المختلفة منذ أن كانت تُعبَد إلى أن صارت علماً في السياسة، مروراً بنار الحرب ونار الصلح والمعاهدات، ونار الفداء، ونار السلامة، ونار القِرى، وغيرها مما اشتهر عند العرب، وصولاً إلى كون النار رمزاً فنياً غنياً بالدلالات؛ فهي في جانب رمزٌ للحضور الإنساني (البشري)، وغيابها يعني غيابه واضمحلاله، والنار معادلٌ فنيٌّ لجمال المرأة، وقد استعان الشعراء بالنار لوصف أفراسهم. إن جمالية النار لا تقتصر على البُعد الواقعي (الفيزيائي)، وإنما اغتنت بالدلالات الميثولوجية والاجتماعية والفنية أيضاً، وانتقلت أحياناً من كونها مظهراً حسيّاً (مادياً) لتصبح رمزاً للقيم النبيلة (الكرم) تارةً، وللقيَم السلبية (الغدر) تارةً أخرى.() لهذا كله تحمل النار مدلولاً مهماً في بعدها الفني، يكاد يكون الأبرز من بين الدوال العامة، وقد ربطها الشاعر بدوال فنية تشي بحالة التوتر التي عبر عنها بشهقة في بال المدينة من سورة الإسراء، وهو تعبيرٌ فنيٌّ غنيٌّ بالدلالات؛ إذ الشهقة تشير إلى الأنين والتأوّه، وأن يربطها بسورة الإسراء يعني تأكيد الحزن، والابتهال دالٌّ ذو دلالة دينية تشير إلى التضرُّع في الدعاء، وهكذا يصير المضمر حالة من التعبير عن فضاء شعري ملؤه التوتر والأنين والحزن العميق الذي لا حلَّ له إلا التضرع إلى الله، الذي نسبه الشاعر إلى التين والزيتون وهما دالّان رمزيان في الجانبين الفلسطيني والديني. كما أضمر الشاعر في دال الفضاء بعداً فنياً آخر، اكتسبه من ضياء السور (سور القدس) الذي ما عاد مجرد حجارة، بل صار رمزاً يحمل أبعاداً وطنية وقومية ودينية.

تناغم الظاهر مع المضمر:

عندما يبث الشاعر في القصيدة وجهين للقدس يتناغم الظاهر مع المضمر في لوحة فنية متكاملة يخلقها الشاعر المبدع الذي استطاع أن يجلي المضمر ويضمر المتجلي؛ (نحن) نقول و(هم) يقولون، والمقارنة بين القولين في أي اتجاه تسير، هي مقارنة بين نقيضين، يقول:

والقدسُ عينُ اللّهِ في الأرضِ الصغيرةِ/أوّل الصلواتِ والآياتِ/ محرابُ البتولِ/ ونخلةُالميلادِ/ معراجُ الأمينِ/ ومربطُ الفَرَسِ المُجَنَّحِ/ خُبزُنا البلديُّ/ زيتُ سراجِنا الكونيُّ/ أو رَقْصُ البلادِ،/ وزفّةُ الأعراسِ في وَهَجِ الغناء.

بما أن للزمكان أهمية قصوى في الكشف عن خصوصية المبدع ورؤاه الفنية ومؤثراته النفسية، ومنظوراته الوجودية، فقد كانت القدس بوصفها بعداً مؤثراً في كيان الشاعر هي التي رسمت ملامحها، وتحدثت عن نفسها، على لسان الشاعر، واختيار الشاعر تعبير (عين الله) اختيار دقيق؛ ذلك أن العين في معانيها المتداولة في الشعر قديماً وحديثاً قد لا تتجاوز كونها مظهراً جمالياً وأداة للبصر، وقد تكون العين نافذة الروح ولسان القلب، وهي أيضاً توازن بين فيزياء الجسد وكيمياء الروح، أما عندما يصفها الشاعر بأنها عين الله، والله يسمع ويرى وله عينان، لقوله تعالى: “وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي” (طه:39) وقوله تعالى: “وَاصْبِرْ لِحُكمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا” (الطور:48) وقوله تعالى: ” لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ” (الشورى:11( ولكن الأمر يتعلق بــ(ليس كمثله شيء)، أي إن عين الله ليست كعين البشر، وسمعه ليس كسمع البشر، بل كل ذلك متعلّق بما يليق بالخالق -عز وجل. والمعنى الذي يذهب إليه تفكر المتلقي هو الدلالة على ارتقاء مقام القدس إلى مرحلة مقدسة بدلالة ما رسمه الشاعر من كيفيات للمكان الذي كان مكاناً حقيقياً، عندما تصورناه حقيقة بدون كيفية، فصار بالزمان كيفية؛ فالأرض والمحراب ونخلة الميلاد والمعراج ومربط الفرس تصورناها أماكن مجردة، فأضفى عليها الشاعر فاعلية الزمن فيها، فتشكلت جماليات المكان وتجلياتها، فأول الصلوات، ومعراج الأمين والكوني ورقص البلاد وزفة الأعراس، تتبدى فيها فاعلية الزمن. لتشكل خارطة للحلم الفلسطيني الأزلي الممثل لما نقول.

وفي المقابل هناك ما يقولون (هم- النقيض)، يقول الشاعر على لسانهم:

والذئبُ جاء القدسَ/ من غَبَشٍ سحيقٍ/ من عيونِ الريحِ/ قال: أنا أجوعُ/ لهذهِ الأرضِ المقدّسةِ المليئةِ/ بالقفيرِ وبالحليبِ/ وسوف أبني هيكلي فيها/ ووحدي مَنْ يكونُ هُنا.. هُنا..

حدد الشاعر عيون الريح مكاناً جاء منه الذئب، ومفردة الريح دالّ يحمل دلالات كثيرة في الشعر الحديث، أبرزها الدمار والخراب والعذاب والجدب، وقبله حدَّدَ مكاناً آخر لا معنى له بمعزل عن الزمن، وهو من غبش، والغبش دال يحمل دلالات سيميائية زمانية إذ له متشابهات ولا أقول مترادفات، منها (الفجر/أول النهار/البداية/الثورة/الحرية/المستقبل)، ولكن المحدد الأوّلي والنهائي الذي يدفعنا إلى ربط هذه العناصر الزمكانية معاً هو دال الذئب في البداية، وصورة حلم الآخر في بناء هيكله، وأن يكون وحده هنا… وفي هذا كله تتجلّى ملامح التناقض بين حلمين: حلم الفرح والرقص والحياة، والخير كله، وحلم نفي الآخر والاستحواذ على هذه الأرض.

تلك كانت الثيمة المركزية في قصيدة المتوكل طه (القدس أرض السماء) التي راح يرسم فيها ملامح التناقض البيّن بين فكرتين، من خلال تناغم الظاهر مع المضمر في لوحات فنية تحتاج إلى مزيد من القراءة، القصيدة طويلة والبحث فيها طويل، وهي تحتاج إلى مزيد من القراءات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى