ثقافة

درجة الصفر في الرواية: فضيل الغباري

درجة الصفر في الرواية

بقلم: فضيل الغباري

الروائي “كإنسان” حينما تخُزه في لحظة معينة، يشعر من خلالها أنه يرغب في الشروع ببناء رواية يحكيها، فهو عادة يقوم باستجماع مكناته الفكرية تحت ضغط (الفكرة) التي استحوذت عليه، بعد أن تكون قد أخذت منه حيزاً نفسياً في لحظة معينة. وتلك الفكرة تجدها قد تفاعلت وبشدة مع أحاسيسه الداخلية، فصار ملزماً بإخراج مدخلاتها كسرد يُحكى إما شفاهة، ٱو على شكل ورقي مكتوب. وهنا تجده في تلك اللحظة يتحول من الراوي الإنسان، إلى شخص آخر هو “الروائي المؤلف” ذاك الذي تقع على عاتقه مهمة معالجة صياغة تلك الأفكار ضمن مخطط وأسلوب ينتج عنه عالم فني متخيل قائم بذاته، وهذا المتخيل الٱدبي له اشتراطات تقنية خاصة به، وله قواعد لغوية يتوسلها المؤلف، وقد تدرج ضمن جنس أدبي معرف لديه كالرواية أو القصة مثلاً .
والرواية (NOVEL) والتي تقوم على تقنية السرد (NARRATION) أو الخطاب السردي (NARRATIVE DISCOURES) الذي عرفه جيرار جنيت GERARD) (GENTTE على أنه “صوت السارد” كما جاء في كتاب الخطاب السردي المنشور عام 1989. إذن؛ الفكرة العامة يمكن تلخيصها كما يلي:
فكرة محددة تدور حول موضوعة (رومانسية أو سياسية أو تعليمية.. إلخ.) كانت قد رشحت من مخيلته إلى عاطفته الداخلية فأيقظت فيه المؤلف الراوي الذي هندس لها مخططاً لغوياً، وشخوصاً متحركة وفاعلة، وعلاقات متشابكة تبدأ من لحظة محددة، وتنتهي عند لحظة أخرى.
وبذلك يكون قد أنجز النص الأدبي، الذي يوضع بين غلافين لكتاب ورقي يحمل اسمه. وتفسير آلية تلك العملية تبين أن المؤلف الراوي الذي أنتج نصه الأدبي قد تم له ذلك من خلال إعادة كتابة قراءته للواقع الذي يعيش فيه.
فالكاتب يتجلى إبداعه لا من خلق عالم غير موجود، بل من خلال إعادة إنتاج الواقع الذي سبق له قراءته وبأسلوبه الخاص. والكاتب لا يخلق من العدم، إنما يعيد كتابة وصياغة عالمه بتوسل لغة موجودة، وواقع كائن خارجي أثَّر فيه. وذهب لذلك رولان بارث (ROLAND BARTHES) في كتابه “النقد البنيوي للحكاية” (لذلك لم يعد للكاتب الحق في انتزاع فعل من الصمت كما يقال في السير القدسية الأدبية، بل على العكس تماماً، للكاتب أن ينتزع كلاماً ثانياً من شرك الكلمات الأولى التي توفر له وجود العالم، والتاريخ، ووجوده ذاته لكونه أتى لعالمٍ مملوء بالكلام، وليس من الواقع إلا وصنفه الناس).
وتفسير تلك المقولة أن الكاتب يعيد رسم انطباعه المنزاح عن الواقع الخارجي ضمن توسل لغة وواقع خارجين وسابقين على وجوده. إذن فالسرد يحكي قصة، والتي هي تتابع أحداث من خلال شخصيات ورقية، حسب وصف جان منفريد لتلك العملية (MANFRED JAHN)في كتابه “علم السرد” (NARRATOLOGY). لذلك تُبين عملية الكتابة أننا بصدد أو أمام ثلاثة قُرَّاء محددين، هم:
1- الكاتب الحقيقي هو (القارئ الأول) للواقع الذي استحوذ عليه.
2- القارئ الضمني (الذي تحاور مع الكاتب الضمني) خلال الشروع بإنتاج النص.
3- القارئ الحقيقي، وهو الذي اشترى الكتاب وقرأه وتفاعل معه.
خذ مثلاً أي رواية قرأتها؛ تجدها تحمل في ثناياها خطاباً سردياً معيناً، كأن يكون دينياً أو سياسياً أو عاطفياً أو بوليسياً، موجهاّ للقراء المخاطبين بالنص.
لذلك فالخطاب كان فكرة في دماغ الراوي، تلك الفكرة هي مجمل تصورات قد تكون فلسفية، أو عقائدية، أو مهما كان يكون قد توهمها الكاتب واختزل بها الواقع الخارجي، ثم أعاد إنتاج تلك التصورات ضمن سياق أدبي ولغوي يعرفه.
هنا يظهر الكاتب (كقارئ أول) للواقع الذي يسرد عنه في المرحلة الأولية. لكن الكاتب خلال عملية الإنتاج تلك، يتحاور مع ( قارئ مفترض) يلازمه خلال مشروع الكتابة المقصود على شكل شبح داخلي، وتبقى تلك العملية ملازمة له حتى الانتهاء من النص، ووضعه بين دفتيِّ غلاف يحمل اسمه، ثم بعد ذلك يقدِّمه للقارئ الذي يشتري الكتاب ويقرأه ويتفاعل معه، إما بصورة إيجابية أو سلبية، وهو الذي يعطي الحكم على النص وقيمته الإبداعية.
لننظر في رواية (الحب في زمن الشظايا) للروائية المغربية زليخا موساوي الأخضري، ونطبِّق تلك المقولات على النص:
الفكرة عند الكاتبة هي الاعتقال السياسي ومعاناة المعتقل ومن له صلة به، تلك الفكرة بحد ذاتها عانت منها الكاتبة بسبب اعتقال شخص عزيز عليها، فما كان منها إلاأن قرأت بوعيها واقع المغرب في لحظة الاعتقال، تلك اللحظة التي ضغطت على مشاعرها فأخرجتها ضمن رواية ( الحب في زمن الشظايا.) وتلك الرواية تحمل في ثناياها خطاباً سردياً سياسياً، ٱو بصورة أدق بذرة فلسفية عن الواقع الذي تتمناه الراوية للمغرب المنشود. ويظهر ذلك الخطاب المختزل بقول راوي الشخصية ضمن حوار بين الابن ووالده في صفحة 63:
_ سأقتل من سجنوا أبي.
_ لا لا تقتلهم. أبوك لم يقتل أحداً، أبوك كان يحب الفراشات، الأطفال، الحقول، والقمر وكل شيء جميل.

والآن.. القارئ الحقيقي للنص، والمستهدف فيه من هو؟
بلا شك، إنه انت عزيزي القارئ، وقبلك كان واحداُ منهم هو كاتب تلك السطور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى