ثقافةمقالات

جبر شعث يكتب: شعرٌ بنكهةِ القهوةِ اليمانيّة

شعرٌ بنكهةِ القهوةِ اليمانيّة

تذوق ما تقطَّر من مجموعةِ ” أُفٍّ “* للشاعر والأديب الراحل موسى أبو كرش”**

بقلم: جبر شعث/ شاعر وناقد 

أسئلة الشعر:

 

أصحو من حلمي

لا مزنة

في الجو العاصف

لا ديمة

بددها الريح ” قصيدة بداية أخرى ص8″

هذه الصورة الاغترابية التي ختم بها الشاعر نصه الأول كان يمكن أن تكون أيضاً بداية للنص كونها ذروته التي حمّلها الشاعر رؤياه وموقفه ،فالشاعر الذي صحا من حلم جميل يبدو أنه كان يقتات منه ويجتره أحياناً،أيضاً صدمه هذا الجو العاصف/ الحلم الكاذب الذي لا مزنة فيه حبلى بالمطر ولا ديمة آتية من بعيد فيها قليل من المطر .. ورغم هذا السقوط السوداوي للشاعر إلا أنه يجترح بداية أخرى له ويبدأ ، أيضاً، بالحلم من جديد. وهل يملك الشاعر الا أن يكون في حالة حلم مستمر . الحلم المضمخ بالفكر، الطائر بأجنحة الفلسفة ،الذاهب إلى الأسئلة الكبرى ؟

ولعل سؤال الوجود والحيز الإنساني فيه ، وجدوى الإنسان فيه ، هو ما يشغل الشاعر الموجود في حيزه الاغترابي الخاص:

 

لا أحد في الردهة

لا أحد

ثمة أناس في المكان

لا أرى منهم أحدا !!” ردهة ص12″

 

أناديني

ألتفت

ما من سائل

وما من مجيب” تمزق ص35″

أستطيع أن أزعم أن موسى أبو كرش الشاعر الموصول بالأمداء ،المغسول بالماء ، المنبطح على عشب يمتص نداه من صدرغيمة،المشغول بالمرأة المتعددة ؛ يقول أحياناً بعبثية الوجود ، وبعبثية الإنسان في الوجود ، ولكنه أيضاً يرفض عبث الإنسان بالوجود ، وهو في كل ذلك يختبئ وراء السخرية المرة والتهكم اللاذع:

ثمة ما يشغلني أيتها السيدة:

مشيتك الإيقاعية

معارضة ردفيك لمعاهدات السلام

تضاريسك العصية على الفاتحين

……………………………

 

كرهي للمعكرونة بالبشاميل

محاولة اغتيالي في الفالنتاين

اشتهائي المتواصل للتدخين

سأمي من حمام الصباح ” ثمة ما يشغلني ص17،18″

 

تساومني:

سراويلي

ليست للبيع

أو

المبادلة ! ” أتعجلك ص34″

المرأة التي تمر في العاشرة

قطار قديم

يجر خلفه

عجيزة من عجوة البلح

تصلح للتخزين

دون مواد حافظة ! ” عجوة ص37 ”

وبالرغم من الألفاظ التي استخدمها الشاعر والتي تقترب من لغة العامة المبتذلة والتي لايمكن أن ترقى الى اللغة الشعرية ، وكذلك ضعف الشحنة الشعرية في المقاطع السابقة ، الا أن ما يهمنا هو هذه الجرعات الثقيلة من السخرية والتهكم كتكنيك يستخدمه الشاعر لإيصال موقفه الفكري من الوجود ومن قضاياه وأسئلته ، بما فيها الإنسان وجدوى وجوده والغاية من وجوده ، والمكان والغربة فيه والاغتراب عنه .

وفي موقف سوريالي يقترب من العبثية المطلقة يذكرنا “بأندريه بريتون” وأمنيته في أن يطلق الرصاص على الناس في الشارع ، يعمق الشاعر غربته المكانية واغترابه الوجودي حين يوزع اللعنات على العالم المرئي واللامرئي:

 

حين تعبر جارتي مخدعها

تصبح نافذتي مئذنة

لقذف اللعنات

على العالم

والملائكة

والناس الطيبين! ” جارةص39″

بين مكانين، عدن وغزة:

في غزة التي عاد إليها الشاعر بعد قيام السلطة الفلسطينية من عدن، عام 1994، فغر فاه ذاهلاً صارخاً فيما يشبه الجنون:

ثمة هوة

بين ما أريد،

وما أريد

وقد ترك الشاعر للمتلقي التقدير كيفما يشاء : أُريد لي / لنا ، بي /بنا ، وكذلك ترك له فضاءاً بياضاً واسعاً في الصفحة بعد هذا المقطع المكثف المحمل بالموقف وبالسؤال المدوي، ليكمل ما لم يقله.

لقد كان ما كان ولم يجد الشاعر تحققاً لذاته في هذا المكان الجديد المرفوض من وعيه ومن لا وعيه معاً:

أذوي

مثل عيدان ثقاب

أ

ت ب ع

ث

ر

فكفنوني

-إن وجدتموني –

بعرق مرمر ” دونك المدى ص 52″

هذا المكان وما آل إليه ،جعل الشاعر يعود إلى عدن/ هناك حيث المدى ندى ، والعودة هنا تتضمن الرفض والبحث العاطفي عن مكان حقق الشاعر فيه ذاته ، وأشبع فيه رغباته الوجودية أو هكذا خُيِّل له:

هناك

حيث المدى ندى

والقات فاكهة المقيل

كنا نلتقي

نتحلق حول الكأس

نمضغ القات والرحيل

البحر مركبنا

واللوحة الحانية

في الليل يجمعنا

ثدي غانية ” هذا السواد يفزعني يا غزة ص55″

هذه اللوحة الشعرية النواسية المكتملة من حيث اللون والصوت والحركة والمطعمة بالخصوصيات اليمانية، القات/ المقيل/البحر..خليج عدن تدفقت من لا وعي الشاعر وانسابت كماء نهر عذب رقراق ، لكن هذا التدفق وذاك الانسياب هدأ وكاد أن يتوقف حين عاد الشاعر إلى منطقة وعيه:

من أين تأتي الفراشات حين يجف الريح خلف مراسينا ؟

وحكايات البحر مفتوحة لكل الاحتمالات ! ” القصيدة السابقة ص55″

انه انكسار اللحظة الشعرية واللحظة الوجودية معاً ، التساؤل والخوف من المجهول/ الاحتمالات والقلق . فغزة لن تأتيها الفراشات لأن ريحها

جافة بلا مطر، ولأن حكايات بحرها ترحل دائماً نحو المجهول المخيف

وهي ليست كعدن الغانية الساحرة التي نتحلق حولها و تلقمنا ثديها وننام عليه مطمئنين ، والثدي هنا محمل بدلالات الأمومة والسكينة والانتماء ، وان كان السياق العام للمقطع الشعري يغرينا بالدلالة الجنسية.

إن الشاعر العائد الذاهل الرافض المصدوم، يشعر أنه في حالة سفر رغم أنه في غزة/ الوطن الافتراضي ، وهو يسجل موقفه السياسي الآني والاستشرافي محيلاً على التاريخ ” سدوم ” ومُديناً الحاضر ” الاتساق”:

مسافرون في غربة الكواكب بشقاء لاينتهي

في سدوم أُعِدَّت لنا

وموت أُعدَّ لنا،

آه من هذا الاتساق ! ” القصيدة السابقة ص56″

اذاً ، ماذا تبقى للشاعر بعد أن انطفأ المدى ، خلف سحابة صيف كاذبة،

سوى أن يلملم ما تبقى منه ، ويحزم أسئلته ، ويصطحب قلقه معه، ويبحر باتجاه ذاته ، أو باتجاه الحقيبة القادمة/ منفى جديد:

ماذا تبقى للمصطافين؟

غير حقائبهم

المبتلة

بماء البحر

ورمل البحر

وشبق البحر

والحقيبة القادمة ؟ ” القصيدة السابقة ص57 ”

وبعد، هل استطاع الشاعر أن يدخلنا في دائرة أسئلته / أسئلة الشعر ، ويشغلنا بها ، ويشركنا في البحث عن إجابات شبه مستحيلة لها ؟ هل استطاع أن يوصلنا إلى ما يريد هو، وما نريد نحن ؟ نعم فعل ذلك ، بشعرٍ صافٍ لاذعٍ ، له نكهة خاصة؛ كنكهة القهوة اليمانية النادرة

*صدرت مجموعة أف عن مركز أوغاريت الثقافي برام الله عام2005 .

**شاعر وقاص وصحفي فلسطيني ولد بمخيم الشاطيء بغزة عام 1955 وتوفي في 6أذار 2023 فيها، اثر مرض عضال لم يمهله طويلا.

 

زر الذهاب إلى الأعلى