حواراتملفات اليمامة

حنني بين التجربة الأكاديمية والتجربة الإبداعية

حوار خاص مع الأديب زاهر حنني

حنني بين التجربة الأكاديمية والتجربة الإبداعية

حوار صفاء حميد- خاص اليمامة الجديدة

الأدب تجربة فريدة تتجلى بكونها تعبيراً وجدانيا عن مكنونات وظروف من يعتنقها، وكلما أوغل الأديب في عمق التجربة الأدبية، أوغلت هي بدورها في أعماقه، فيصير الأدب والأديب كلّاً واحداً، تحكي هي عنه ويحكي هو عنها في حديث عشق لا ينقطع.

عن التجربة الأدبية ومعطياتها ونتاجها وعن الأديب وتأثير نشأته وبيئته فيه، عن مستقبل الأدب والمسارح، في حوار أجريناه معه يحدثنا الأديب الفلسطيني زاهر حنني عن كل هذا وأكثر.

عن ظروف النشأة في منطقة تعد “بؤرة مقاومة”، وفي ظلّ ما بعد النكسة، وتحت وطأة الانتفاضة الأولى، حدّثنا الأديب الفلسطيني زاهر حنني بقوله:

بداية، أقدم الشكر الجزيل لصحيفة اليمامة الجديدة التي بت أتابعها بعناية؛ لتوقدها المستمر، وفاعليتها الفكرية المتواصلة التي تجعلنا نتابعها باهتمام. وأرجو أن تظل في حالة تجدد دائم.

وبالعودة إلى السؤال، أقول: نشأتي (على الصعيد الفردي) لم تكن مميزة عن أقراني في شيء، ولدت في أسرة بسيطة تعيش أحلام شعبنا وتطلعاته تناضل من أجل الحرية، والاحتلال يدفِّعها الثمن (خال شهيد، وخال مبعد، وخال قيد الأسر محكوم مدة طويلة، وبيت جدي هدمه الاحتلال، وأقارب شهداء وأسرى….) وهذه كانت أحوال الجميع في بلدتنا (بيت فوريك). تعلمنا منها كيف نكون أندادا، لم ننكسر، ولم نخالف وصايا الشهداء. كل مفردة من مفردات الحياة كان لها أثرها في بناء شخصياتنا. تعلمت أن الحياة لا تتوقف، وتحتاج منا أن نبتدع ما يوافق تطورها. ابتدعنا وسائلنا الخاصة في مقاومة الاحتلال، في انتفاضة أسطورية خالدة، وفي كتابات شكلت تجربة متميزة، تعلمت من كل مفرداتها، وأضفت إليها ما في نفسي، فكانت تجربتي.

وعن علاقة إنتاجه الأدبي بالتجربة الاعتقالية عبّر حنني بقوله: 

التجربة الاعتقالية كان لها أثرها، فقد اعتقلت المرة الأولى وأنا طالب في الثانوية العامة، ثم توالت الاعتقالات الأخرى بعدها في الانتفاضة الأولى، ما يميز هذه التجربة أن الشاعر أو الكاتب يستطيع ان يتحدث بأثواب جمالية مختلفة عن تجربة واحدة، الأمر الذي قد يفتقر إليه آخرون، وقد كنت في بداياتي آنذاك، ولا أستطيع أن أقول إن الأسر هو من صنع شخصيتي أو صقلها في صيغتها النهائية، لأنني مررت بمراحل لاحقة هي التي شكلت تجربتي وطورتها، وما زلت أتعلم. لكن التجربة الاعتقالية ظلت لها خصوصيتها في ذاكرتي ووجداني. عندما تتشكل صورة في قصيدة قد يكون منبعها مشهد تعرضت له أثناء الاعتقال، وهذا يعني أن الذي تعرض للاعتقال يقول ما عايشه، وليس ما سمعه، وهنا يبدو الاختلاف.

وعن بغداد وظلال الحرب فيها وهي إحدى محطات حياته الأثيرة والتي لا يستطيع مهما حاول أن يصف مشاعره تجاهها على حدّ قوله، يستفيض حنني قائلاً: 

الآن، قد يكون هذا أصعب سؤال؛ فبرغم كل ما كتبت عن بغداد ما زلت غير قادر على وصف مشاعري تجاهها، وقد أسميت ابنتي الكبرى بغداد؛ لأنني أرى بغداد أيقونة بقاء أزلية، استهدفتها قنابل القتل الهمجية، فأصبحت قنابل القتل رمادا وظلت بغداد العصية، بغداد صورة جلية عن واقع أمة مبتلاة بقيادات لا تعرف كيف تدافع عن نفسها، في الوقت الذي ظلت بغداد تدافع نيابة عنهم بكل ما أوتيت من قوة، أدركت أن الأمر لم يكن مرتبطا بشخص صدام حسين -رحمه الله- فقط، وإنما بشأن إنساني عظيم، والإنسانية مرتبطة بمقدار ما تقدمه من دفاع عن وجودها، بغداد صنو القدس تتعرض لأعتى أعداء الإنسانية، فأشعر أنهما بوابتان منهما تتدفق الرحمة، ومنهما يدلف العذاب. بغداد فتاة يتورد خدها خجلا إذا غازلتها، وتتقد عيونها احمرارا إذا عاديتها، بغداد امرأة لا تأكل بثدييها. بغداد أعظم من الكلمات، فيها تعلمت، ومنها استقيت أهم مصادر معرفتي، عرفت فيها كيف يكون الفلسطيني حرا، وكيف لا تُصفع كرامته لأنه فلسطيني.

وحول علاقته بإنتاجه الأدبي الأول قال حنني:

التجربة الأولى عندي مرت بمراحل لا أنساها، والآن عرفت أن فيها كثيرا مما لا أرغب في أن أكون أنا من كتبه. نعم، إن لم تشعر بهذا الشعور فأنت لم تتطور، ولكن التجارب اللاحقة أيضا فيها ما تجاوزته أنا، وكما يقال لو قدر لي أن أغير، لغيرت جل ما كتبت. ويكفيني أنني أقر بهذا وأشعر بسعادة تجاهه، هذا يؤكد لي أنني لم أتحنط.

وعن سؤالنا له بأين تجد نفسك حقيقياً أكثر، في الصحافة أو التعليم أو الكتابة أجاب: 

لكل من هذه المجالات دورها وأهميتها ومرحلتها، عملت عاملا في البناء (مع والدي رحمه الله) ولم أجد أن استمراري في ذلك العمل ممكن (أخفقت)، فأكملت دراستي، عملت في الصحافة وأنا على مقاعد الدراسة الجامعية الأولى، مرحلة تعلمت منها كثيرا، ثم عملت في التعليم في المدارس إلى أن أنهيت الدكتوراة، بعدها انتقلت إلى العمل في التعليم الجامعي، وهكذا تطورت في العمل. كل مرحلة من هذه المراحل علمتني كثيرا، وفي كل هذه المراحل لم أتوقف عن الكتابة الإبداعية في الشعر وهو الأقرب إلى نفسي، ثم في النقد وهو المعبر عن التطور الفكري المستمر. لا أجد ضرورة للمفاضلة بين هذه الأعمال جميعا، على الرغم من أن الكتابة الإبداعية هي التي رافقت مسيرتي كلها. وأنا أحب التعليم الجامعي كثيرا.

التجربة المسرحية في نظر حنني كانت: 

تجربتي في المسرح محبطة إلى حد بعيد، فقد عملت ممثلا ومخرجا، لكن المسرح مرتبط بالثقافة العامة، في بغداد مثلا، معظم الناس كانوا يتابعون الأعمال المسرحية، لدرجة أن مشاهدة الأعمال المسرحية كانت شائعة عند معظم الناس، العائلة تخرج مرة في الأسبوع لمشاهدة المسرح الحي، وكانت بغداد تغص بالمسارح. هنا في فلسطين لم تكن هناك مسارح ولا ثقافة مسرحية، في أواسط التسعينيات أسست مع نفر من المهتمين فرقة مسرحية وقدمنا أعمالا متميزة، إلا أنها لم تنجح بسبب عدم وجود جهات ترعاها. الآن تطورت الحركة المسرحية في فلسطين قليلا ولكن في أماكن محدودة، وما زالت دون الحد المطلوب بكثير، وهي تحتاج إلى جهات تهتم بها، وهذه الجهات أزعم أنها غير موجودة.

وأضاف حنني عن فيما لو كان يملك أي مشاريع في الوقت الحالي يضيف حنني:

بعد التجارب المحبطة التي تحدثت عنها، لا أرغب بكتابة نصوص مسرحية، ولكنني مهتم بالكتابة النقدية عن المسرح، وليس عن المسرح الفلسطيني خاصة. وربما يأتي يوم أعود فيه إلى كتابة نصوص مسرحية، ربما.

أما عن الحد الفاصل بين الناقد والأديب فقد وضح لنا قائلاً:

الناقد له دوره، والمبدع له دوره، وكل منهما مبدع في مجاله، بعض النقاد لا يستطيعون كتابة بيت من الشعر مثلا، وبعض الشعراء لا يستطيعون تقديم قراءة نقدية لنص إبداعي. مع أنني أعتقد أن كل مبدع هو ناقد، ويقال أول ناقد للنص هو الكاتب نفسه عندما يعود إلى قراءة نصه بعد إنجازه، وهذا صحيح.

الجمع بين النقد والكتابة الأدبية ليس سهلا، وقد عانيت من هذا الأمر، كنت أكتب القصيدة وأسارع إلى نشرها، بعد أن صرت ناقدا، صرت أتردد كثيرا في نشر ما أكتب، بل لقد مزقت قصائد كثيرة جدا بعد إنجازها؛ لأنها لم تعجب الناقد فيّ، وهذا يفسر قلة إنتاجي الشعري في السنوات الأخيرة مقارنة بما كنت أنجزه قبل ذلك.

وفيما يتعلق بواقع ومستقبل الأدب وعلاقته بالمقاومة يحدّثنا حنني بقوله:

واقع الأدب في الوطن العربي لا ينفصل عن واقعه العالمي، فوسائل التكنولوجيا الحديثة وفي مقدمتها وسال التواصل الاجتماعي أثرت بشكل مباشر في طبيعة الأدب الذي يقدم للمتلقي، كان المبدع يجد صعوبة في نشر ما يكتب، والآن كل من يكتب وكل من هو في بداية مسيرته الإبداعية، يكتب وينشر مباشرة وكتابته تصل إلى أعداد كبيرة، وأسهمت وسائل التكنولوجيا في إشهار كتّاب ما زالوا في بداياتهم، ولكنها أوهمتهم أنهم في قمة عطائهم، أو أنهم سيصلون القمة قريبا، وعندما يتناول النقاد كتاباتهم يجدونها لا تستحق القراءة، وهنا لا بد من الإشارة إلى بعض النقاد الذين يكتبون بدوافع غير مهنية ولا فنية، فتغلب على كتاباتهم المجاملات…. كل هذا موجود في الواقع وله أثره على الأدب. ولكن مع ذلك أقول: إن مستقبل الكتابة الإبداعية في فلسطين والوطن العربي سيكون أفضل من الواقع، لأن النقد سوف يمل قريبا من أنصاف الكتاب وأشباه المبدعين، وبالتالي سيذهب الغث وحده مع الوقت، ويظل المبدعون ونتاجاتهم المتميزة، وستبقى العلامات البارزة خالدة.

أما عن دور الأدب في المقاومة الشعبية، فلا أعتقد أنه قل أو سيقل في يوم من الأيام؛ لارتباطه بالواقع، هل ستنتهي المقاومة الفلسطينية؟ أدب المقاومة شكل من أشكال المقاومة، والمقاومة ليست شركة مساهمة، لتعلن أنها أغلقت أبوابها، المقاومة الوطنية بكل أشكالها خيار فردي وجماعي لكل فلسطيني، وليست ملكا لأحد، لذا لا يستطيع أحد أن ينهيها، وسوف تستمر إلى أن يحقق شعبنا أهدافه في الحرية والاستقلال. وقد تطور أدب المقاومة الفلسطينية وفقا لمتطلبات كل مرحلة، وسوف يظل في حالة تطور دائم.

وأخيراً، يجيب زاهر حنني عن سؤالنا له بهل نحن في “زمن الرواية”:

ربما يكون هذا الأمر من المتناقضات التي نعيشها في أيامنا هذه؛ ففي الوقت الذي يميل الناس عموما إلى السهولة والسرعة، بسبب ضيق الوقت -كما يقال-، الأَوْلى أن يكون التوجه الأكثر إلى الشعر أو القصة القصيرة أو الأقصوصة حتى، إلا أن التوجه العام يميل لصالح الرواية، يؤكد ذلك كثرة كتّاب الرواية المبدعين، واهتمام النقد بها أكثر من ذي قبل، وكثرة قراء الرواية، إضافة إلى تحويل كثير من الروايات إلى أفلام ومسلسلات.

ومع ذلك لا أعتقد أن من الصواب أن ننسب زمنا كله إلى فن دون غيره، فما كنت مع أن نقول هذا زمن الشعر، أو ذاك زمن القصة القصيرة، وهي آراء تحتمل الصحة وغيرها.

ختاما أرجو الله أن تكون صحيفة اليمامة الجديدة في تطور دائم، أرى فيما تقدمه متطلبا فكريا حقيقيا يصب في نهر عطاء هذا الشعب، ويؤكد انتماءها الصادق. وأوصي بالتجديد المستمر. كما أوصي بإفراد زاوية لأدب المعتقلات.

زر الذهاب إلى الأعلى