مجتمع

خالد جهاد يكتب لـ “اليمامة الجديدة”: أين ذهب العاديون؟

خالد جهاد يكتب لـ “اليمامة الجديدة”: أين ذهب العاديون؟

بقلم: خالد جهاد

يلفت كثيرين مشاهد ترميم البيوت القديمة أو حتى إعادة افتتاح متجر قديم وتقديمه بشكلٍ عصري، فنرى إضاءةً جيدة وديكورات متناسقة وأجواء جذابة ومحاولاتٍ للفت انتباه الجمهور، لكننا بمجرد الدخول إلى تلك الأماكن تنتابنا كثير من المشاعر المتناقضة حولها، فبالرغم من كل الترتيب والتنظيم والذي تحاول المنشآت الصغيرة والمتوسطة مواكبته بجهدٍ ملحوظ إلا أننا نشعر بالملل والرتابة وتشابه جميع الأمكنة وكأنها نسخة من بعضها، ويجمعها محاكاة النسق الغربي في كل شيء بحيث تكاد تشعر وكأنك تتابع فيلماً أميركياً أو أوروبياً، لكن دون أن تشعر أنك حقاً هناك لإدراكنا بأنها أجواءٌ مصطنعة، فيمتد ذلك إلى أبسط التفاصيل كثياب العاملين والصور المعلقة على الجدران والخدمة المقدمة والمصطلحات المستخدمة هناك سواء كان ذلك متجراً أو مطعماً أو أي نشاط آخر، ولا يستثنى من تلك الحالة العديد من مرتادي هذه الأماكن من حيث المظهر والسلوك وطريقة التصرف والتحدث المفتعلة (وهنا لا يقصد التعميم طبعاً)، ما بين متبنين للنمط الغربي في كل ما يخصهم أو من يفعل ذلك من باب المجاراة أو محاولة الإنتماء لتلك الأجواء بحثاً عن (قبول إجتماعي) من فئة ينظرون لها بإعجاب.

ومن ناحيةٍ أخرى نرى نفس المظاهر المفتعلة لكن بحلةٍ تقليدية محلية تحاول أن تكون (مختلفة عن السائد)، فتقع بين افتعال البساطة أو تقديم التراث بطريقةٍ مماثلة لتلك التي تقدم للسائحين، أو بصورةٍ تشبه ما يقدم عن بلادنا في الأفلام الغربية من نظرةٍ (استشراقية) وليست (شرقية) تتسم بالسذاجة والتنميط وقلة الثقافة التي (غالباً ما تكون متعمدة).

 

ومابين هذين النموذجين اللذين يشبهان في حالتهما أغلب ما نعيشه باسم التميز والإختلاف وبحثاً عن الجديد باستمرار رغبة في (إبهار) الآخرين، (وهو ما لا يحدث) لأسباب جوهرية وبسيطة كونها (غير حقيقية) من جهة، ولأننا وصلنا إلى مرحلة تم فيها تقديم كل شيء واستهلاكه وتراجع الإبداع والذوق فيها من جهة أخرى، مترافقة مع تحول جذري في سلوك المجتمعات ككل، فأصبح مفككاً وأكثر مادية ويجنح في سلوكه نحو الفردية، وبرغم بحثه المستميت عن التطور والتميز إلا أن هذا البحث لم يجعله كذلك بل أصبح أكثر ميلاً بشكل أو بآخر إلى (التمييز) وإن لم يعلن ذلك بشكل صريح وواضح.

فالحكم لا يقاس بما يقال بشكل منمق أمام الآخرين بل بالتصرفات التي تكون نتاج الحديث في الجلسات الخاصة التي يحكي فيها الأشخاص قناعاتهم بتجرد أكبر، فالنزعة نحو المظاهر والتصنع واستيراد نمط حياة كامل لا ينفصل عن السلوك الأناني واللا مبالي بالغير والذي يمجد الذات، فيجعلها تصنف الناس حسب اللون والعرق والطائفة والخلفية الاجتماعية والثقافية والوضع المادي والشكل الخارجي بعيداً عن جوهر الإنسان، كما تدفعه إلى تقسيم الأشخاص وتحزبهم ضد بعضهم وذلك لا يعني بالضرورة تكاتفهم معاً قدر ما يعني التقائهم في مصالح مشتركة.

واذا عدنا بمجتمعنا فقط إلى ماقبل العام ٢٠٠٠ سنتذكر بسهولة حياة الناس ومظهرهم وسلوكهم المتقارب، والذي كنا نصفه بكلمة (عادي) وكنا لا نعي أنها بالغة الأهمية لأنها تدفعنا اليوم للمقارنة والتساؤل وسط كل (الإبهار) والألوان (أين ذهب العاديون)؟، أين ذهب الجمال الطبيعي والنقي الذي يشبه بلادنا بعيداً عن عمليات التجميل وصالات الرياضة والماركات العالمية والثياب الباهظة والمصطلحات المعقدة والمصطنعة (حتى باللغة العربية)؟ أين ذهب الناس الذين كبرنا معهم ورأينا من يشبههم على الشاشات وشعرنا أنهم مثلنا ويشبهون أهلنا؟ أين ذهبت براءة الأطفال وأحلام شباب الجامعات؟

لماذا أصبح كل شيء مذهلاً، خارقاً، صارخاً، متقناً، مثيراً لكن خاوياً بلا معنى؟ لماذا تغيب الفصاحة والثقافة رغم الأبجدية الشاسعة؟ لماذا لسنا (علماء) رغم كثرة الشهادات العلمية؟ لماذا لا زلنا مرضى رغم التطور وكثرة المستشفيات؟ لماذا لسنا قريبين من بعضنا رغم (التواصل الإجتماعي)؟ لماذا لسنا متدينين أو متمدنين أو متحررين رغم مظاهر التدين والتمدن والتحرر؟ لماذا أوطاننا ليست بخير مع أن الكل (يضحي من أجل الوطن)؟ لماذا نبدو (باهتين) رغم محاولاتنا أن نبدو (مبهرين)، ولماذا كنا أفضل عندما كنا (عاديين)؟، أين ذهب العاديون؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى