دخيلة: كيف يحيي المحتوى المرئي القضية؟

دخيلة: كيف يحيي المحتوى المرئي القضية؟
صفاء حميد ـ خاص اليمامة الجديدة
لا بدّ وأنّك صادفت يوماً ما صوراً لرجال يرتدون تنانير مقلمة و ينفخون في أبواق ذات أشكال غريبة سواء في التلفاز أو في صورة على أحد مواقع السوشيال ميديا، و ربما شاهدت إلى جانبهم بالضرورة نساء بشعر أحمر مميز.
شاهدت هذا مثلك مرات كثيرة و تساءلت في كل المرات عن هؤلاء الأشخاص لأحصل على إجابة تقول :إنهم اسكوتلانديّون ينتمون إلى اسكوتلندا و بحكم ضآلة معلوماتي الجغرافية،لم يكن اسم هذا البلد يعني لي شيئاً،لا أعرف أين تقع ولا طبيعتها ولا حكاية لباس سكانها الغريب،رغم أنني لا أنكر طبعاً أن الشعر الأحمر ظل أحد الأمور الساحرة بالنسبة لي.
في الواقع لم أكن لأهتم باسكوتلندا أبداً لولا مسلسل صادفني منذ أزيد من شهر يدعى: “Outlander” و يترجم إلى العربية تحت اسم دخيلة.
يحكي المسلسل حكاية خيالية عن سيدة إنجليزية سافرت مئتي سنة إلى الماضي عبر صخور أثرية تدعى كريخ نادن موجودة في مدينة استكتلندية.
تبدأ الحكاية حين تجد السيدة نفسها أسيرة لدى رجال يبدون للوهلة الأولى جماعة همجية عشوائية يرتدون تنانير قصيرة غريبة الشكل و يحملون سيوفاً و يمتطون أحصنة.
تتصاعد الحكاية حين تقع السيدة في حب أحد هؤلاءالرجال و يتزوجان لتصبح جزءًا من المجتمع السكوتلندي.
هنا يحرص المسلسل على حكاية قصة اسكتلندا قبل مئتي عام ،البلد الذي ناضل لأجل نيل حريته و كرامته و التحرر من الحكم الإنجليزي الظالم.
يستعرض حكايات الناس و الحركة التحررية الدينية التي سعت إلى تحرير سكان اسكتلندا الذين كان يطلق عليهم سكان المرتفعات من ضغط الحكم الانجليزي الذي يعاملهم كمواطني درجة ثانية ،و يستعرض كذلك طبيعة الحياة في تلك الفترة القائمة على العشائرية ،حيث تملك كل عشيرة شكلاً من الحكم الذاتيّ خاضع للسلطة البريطانية.
قبل أن أبدأ بمشاهدة دخيلة كانت معلوماتي عن اسكتلندا لا تتجاوز أنها جزء مما يعرف الآن بالمملكة المتحدة.
لكن المسلسل الحافل بمشاهد المتعة البصرية من المرتفات السكتلندية فائقة الجمال و التسلسل المدهش للأحداث و عنصر التشويق الذي لا يخلو منه مشهد دفعاني لجعل اسكتلندا موضوع بحث على محرك جوجل،لأعرف حكاية أرض كافحت لنيل الاستقلال بعد أن سرق البساط من تحت حاكمها بحجة اختلافات في المذهب الدينيّ.
أرض كافح أهلها للحفاظ على تراثها و تقاليدها مما دعا انجلترا التي اعتبرت نفسها متحضرة في تلك الفترة بدعوتهم بالهمج و البربريين و القيام بمحاولات لنقلهم لمستوى مقبول من التحضر كما أشاعت في ذلك الوقت.
حارب الإنجليز السكوتلنديين لسنوات طويلة و انتصروا عليهم في معركة كبرى أبادت عدداً كبيراً منهم لتبدأ بعدها مرحلة محو الهوية من محاربة الزيّ التقليدي و مظاهر التعبير عن التراث و الثقافة الفردية.
في مشهد فريد يظهر أحد سكان المرتفعات تالذين حاربوا في الانتفاضة السكوتلندية الشهيرة و المنتهية بمعركة كلودين التي قضت على الثورة- وهو يحمل قطعة قماش ممزقة لا يتجاوز حجمها حجم راحة اليد من القماش الذي كانوا يخيطون منه الكلت و هي التنورة السكوتلندية،يمسك القماش كأنه كنز في الوقت الذي يقول له فيه صاحبه: لماذا لا تزال محتفظاً بها وأنت تعلم عقوبة اقتنائها!؟
يبتسم الرجل الثاني و يطوي قطعة القماش ثم يدسها في أحد الشقوق الصخرية خلفه.
أتعجب وأنا أتابع حلقات هذا المسلسل بشغف تام،كيف استطاع مؤلفه و مخرجه جعل قضية كهذه ساحرة إلى هذا الحد لشخص يعيش على بعد آلاف الكيلومترات من اسكوتلندا ولم يحدث و ربما لن أن التقى باسكوتلندي واحد في حياته.
تلك المهارة في صناحة محتوى مرئيّ قادر على جعلك جزءًا من قضية لا تعنيك بأكثر من ناحية إنسانية-بالطبع- مهارة فريدة حقاً،لا يجعل المسلسل القضية الاسكوتلندية محوره المباشر أو الرئيسيّ ،لكن يمررها في كل مشهد و كل حوار بطريقة مبتكرة و ذكية،توقعك تحت سحر الرغبة في أن تعرغ أكثر عن قضية انقضت عليها سنوات طويلة و صارت شبه مستقرة الآن.
أتساءل لماذا لم نستطع بعد الوصول إلى مستوى مقارب لهذا في طرح قضايانا العربية ،وأقصد طرحها دون طرحها،تماما كما فعل دخيلة!