ثقافة

محمود شقير: سليمان النجاب… من بيروت إلى عمان

سليمان النجاب… من بيروت إلى عمان

بقلم: محمود شقير/ أديب فلسطيني 

حينما أبعدتنا سلطات الاحتلال من داخل السجون إلى لبنان أواخر شهر شباط العام 1975، أقمنا في فندق البوريفاج في بيروت بضعة أيام. البوريفاج فندق باذخ، تطل غرفه من جهة الغرب على البحر، وتمتلئ صالته مع المساء بجمهرات من النساء والرجال الموسرين الذين يأتون إلى الفندق إما للإقامة فيه بضع ليال، أو لحضور حفلات عشاء في مطاعمه، أو للمشاركة في مناسبات اجتماعية أخرى.

وصلنا إلى الفندق منهكين من التعب والجوع. أقام كل منا في غرفة مريحة بعد البؤس الذي جربناه في الزنازين والسجون. جلستُ في الشرفة العالية أتأمل البحر المترامي أمامي، وأصداء المعاناة في السجن الإسرائيلي ما زالت تسيطر على ذهني. في صالة الفندق التقينا الصحافيين ورجال السياسة، وكان سليمان محط الأنظار، بسبب ما كتب عنه وهو تحت التعذيب في سجون الاحتلال.

كانت رقية أخت سليمان هي أول من وصل إليه من أهله، وكان أبي هو أول الواصلين إلي.

جاء أصدقاء سليمان من السياسيين الفلسطينيين والعرب للسلام عليه، وجاء أصدقائي من الكتاب للسلام علي. كانت بيروت تزدهي بكثرة رجال المقاومة فيها، وثمة صخب يومي وندوات وحراك سياسي يذكر بعهود الازدهار الثوري في أمكنة أخرى قرأت عنها في الكتب. وكانت بيروت على حافة مأزق لا يعرف أحد منا مداه.

بعد يومين من نزولنا في فندق البوريفاج، ذهبنا إلى متجر كبير لشراء ملابس. كنا لا نزال في الملابس التي خرجنا فيها من السجن، وكان الإرهاق بادياً على وجوهنا. أخذنا محمد حسن الكاشف أحد كوادر حركة فتح، وصديق سليمان الشخصي إلى المتجر الكبير. المتجر في سوق مكتظة بالناس وقد نسيت موقعها الآن. مكثنا وقتاً كافياً في المتجر، واشترينا ملابس جديدة، وكنا نخرج من جو السجن لندخل بالتدريج في أجواء بيروت.

تجولنا بالملابس الجديدة في شوارع المدينة، والمدينة لا تكف لحظة واحدة عن اجتذابي إليها. زرنا عدداً من مكاتب منظمة التحرير وقابلنا بعض مسؤوليها. سليمان ذهب ذات صباح إلى مطار بيروت، لاستقبال خالد محيي الدين القادم من القاهرة. كان مبتهجاً لأنه سيقابل هذا الرجل الكبير الذي تعرف إليه قبل سنوات (أنا انتسبت منذ الأيام الأولى إلى نادي السينما الذي اعتاد عرض أفلام سينمائية ثورية، يعقبها نقاش مستفيض معني بالترويج للسينما البديلة. شاهدت عدداً من العروض المسرحية، منها العرض المسرحي الغنائي “ميس الريم” لفيروز ونصري شمس الدين، وعرض مسرحي مفعم بالتشاؤم بسبب تهميش المواطن، ليعقوب الشدراوي، إن لم تخني الذاكرة، وسوف يتوقف ذلك كله بعد شهرين أو أكثر قليلاً).

كذلك، التقط لنا مصورون صوراً عديدة بالملابس الجديدة. واحدة منها ما زلت أحتفظ بها، وقد التقطت لنا عند شاطئ البحر، ويظهر فيها: سليمان وشقيقته رقية، محمد حسن الكاشف، ضمين حسين عودة، عبد الله السرياني، ومحمود شقير.

غادرنا الفندق بعد أيام، إلا أنه ظل علامة فارقة في رحلة الإبعاد من أرض الوطن، وسنعود إليه في إحدى الليالي، سليمان وأنا، ونحن عائدان من موسكو. ستكون بيروت مسرحاً لاشتباكات متقطعة تندلع في بعض أحيائها، معلنة عن حرب أهلية ستدوم بعد ذلك سنوات. سنمضي الليلة في صالة الفندق، في انتظار أن يطلع النهار وتتضح الحالة الأمنية في المدينة (تلك الليلة اختلطت في رأسي الصور. أحياناً، أتذكر كتاب “عشرة أيام هزت العالم” لجون ريد، وأتمثل بعض ما جاء فيه، ومن ثم أسقطه على بيروت المزدحمة الآن بالمتاريس وبالمقاتلين، وأحياناً أخرى، أشعر كما لو أننا ندخل في متاهة لن نخرج منها سالمين).

أقمنا في شقة تقع في الطابق الرابع من بناية كبيرة في منطقة لم أعد أذكر اسمها. كنا نغادر مكتب الجبهة الوطنية الفلسطينية الواقع في حي أبو شاكر المكتظ بمكاتب منظمة التحرير والتنظيمات الفلسطينية الأخرى، نتجه نحو الشرق ونمشي مدة عشر دقائق لكي نصل إلى تلك الشقة. كان عزام عبد الحق ومحمود قدري اللذان أبعدا إلى لبنان قبلنا بأشهر، يسكنان في هذه الشقة، وقد سكنت معهما، أنا وعبد الله السرياني.

الشقة هادئة، ومن شرفتها كان بوسعنا أن نرى بيوت الحي وهي تتجاور في اكتظاظ لا فظاظة فيه. والحي لم يكن صاخباً مثل أحياء أخرى في المدينة. نرى الشارع المحاذي للبناية، حيث تمر سيارات بين الحين والآخر، ويمر قليل من الخلق أثناء النهار. وكنا نمارس حياتنا في الشقة ببساطة ودون ادعاءات، نغسل ملابسنا بأيدينا، نشتري طعامنا من السوق، ولم يكن ثمة مجال لقراءة الكتب، ربما لأن وضعنا لم يكن مستقراً. كان لدي إحساس بأنني أقيم بشكل مؤقت في هذه الشقة، وأنا الآن في انتظار أن أعثر على شقة أخرى، لكي أحضر زوجتي وأطفالي ليعيشوا معي هنا إن تمكنت من ذلك.

مكث سليمان في بيروت أسابيع عدة، ولم يسكن معنا في هذه الشقة. سكن في مكان آخر، لكنه زار الشقة التي نقيم فيها مرتين أو ثلاثاً. في إحدى المرات جاء لكي يقود اجتماعاً حزبياً عقدناه في المساء، وفي مرة أخرى جاء لكي يتسامر معنا، وكان معنا في تلك الليلة رفاق آخرون ممن أبعدوا من الوطن، وأقاموا في بيروت (عربي عواد أبعد قبلنا بسنة واحدة أو أكثر قليلاً، وكان له حضوره الملموس هنا، وبدا متحمساً لبناء فصيل مقاوم تابع للحزب، وغالباً ما كان يظهر في المناسبات الوطنية أمام حشود من المثقفين والطلبة والمقاتلين، يلقي مع غيره من قادة المقاومة خطابات سياسية متميزة).

كانت أياماً مؤقتة بالنسبة لسليمان الذي لم ترقه كما يبدو هذه الكثرة من مكاتب المقاومة، وبعض المظاهر البيروقراطية التي تسود فيها، وكذلك مظاهر التشبيح السياسي الذي برع فيه بعض الفلسطينيين، أو ربما كان ما زال متشبعاً بروح العمل النضالي الذي جربه في الأرض المحتلة حتى وهو في بيت سري بعيداً عن أعين المحتلين، فلم يألف هذا الجو الذي بدا جديداً أو غريباً عليه في بيروت، وهو الذي سوف يألف أجواء منظمة التحرير ويتعايش معها إلى حد ما، فيما بعد في تونس بسبب تغير الظروف.

في أول فرصة سانحة، ركب السيارة واتجه إلى عمان. أقام فيها بضع سنوات، وكانت له صلات يومية مع الأرض المحتلة وما يجري فيها من نضالات.

زر الذهاب إلى الأعلى