ثقافة

عجائبية الشخصية والمكان في رواية الصامت للكاتب شفيق التلولي 

عجائبية الشخصية والمكان في رواية الصامت للكاتب شفيق التلولي

بقلم: أ.د. محمد صلاح أبو حميدة/ ناقد وأستاذ جامعي 

من المسلم به أن الكاتب الناجح هو من يحاول دوماً أن يقدِّم جديداً في أعماله الأدبية, ويعملَ على استخدام أدوات فنية تحدث طزاجة في إبداعاته، وتخالف ما هو مألوف وسائد لدى الملتقى.

والعجائبية هي مزج بين عالم الواقع وعالم الخيال، وافتراق لكل ما هو واقعي وطبيعي، وخلقُ عالم معاكس له، يبعثُ على الحيرة والدهشة في ذهن المتلقي، ويدفعه إلى التغلغل في عالم النص الأدبي.

وكما يقول تودورف: يلجأ الأديب إلى الفن العجائبي وكل ما هو فوق الطبيعي من أجل كسر طابوهات المجتمع، وتجاوز مسلماته وقوانينه التي تضطهد الإنسانَ وتَشُلُ حريته, إنها تعمل على تقويض الصورة الثابتة للشخصية، والعمل على هدم مرجعياتها الواضحة، ومن ثمَّ إعادة تشكيلها بصورة غرائبية تتجاوز قوانين الواقع الطبيعية؛ حيث يتم تحويل الشخصيات المرئية إلى شخصيات غير مرئية, وتعمل هذه المخلوقات على خرق العرف الطبيعي وخلق قوانين جديدة، ومشهد عجائبي يثير الدهشة، ويسري الوصف فيها على الإنسان والحيوان والنبات.

وإذا توقفنا أمام رواية “الصامت” للكاتب شفيق التلولي، فإنَّ ما يميِّزها خروجُها على أساليب السرد المألوفة وتجريبُها أساليبَ سردية جديدة مُبهرة, حاول الكاتب أن يقدِّم تجربة جديدة، ومحاولة جديدة في بناء عمله الروائي، متخذاً من الفن العجائبي وكل ما هو غريب ومدهش، وسيلة لبناء عناصره وأحداثه الروائية.

فالعجائبية في رواية الصامت إحدى التقنيات التي حاول الكاتب الإفادة منها وتطويعَها لخلق فضاء روائي يتسع لأبعاد تجربته الروائية الممتدة. فالرواية تطرح أبعاداً متعددة “وطنية، وفلسفية، وجمالية، وغرائبية” عبر فضائها الحكائي، مما يشي بسعى الكاتب إلى تطوير أدواته وتقاناته الروائية بشكل مطرد، وعدم التقوقع داخل ما هو سائد، أو مألوف في الكتابة الروائية.

وتعد رواية الصامت رواية عجائبية في كثير من جوانبها؛ لأن السرد فيها قائم على فكرة عجائبية تضمنتها مخطوطة الصامت، وما ارتبط بها من أحداث غريبة، وما كشفت عنه من صراعات وأحداث مستقبلية قبل وقوعها.

وبذلك فقد حقَّق الكاتب بمحاولته التجريبية هذه، ما تسعى إليه الرواية العجائبية من اتخاذ كل ما هو غريب وغير مألوف في مواجهة ما هو واقعي ومألوف، وخاصة عندما يشعر بعجزه عن مواجهة أحداث واقعية، إلى جانب ما تحقق من إثارة وشغف وتشويق للقارئ.

فرواية الصامت تقوم في جوهرها حول بؤرة دلالية تنطلق منها كل أحداث الرواية وتشعباتها؛ وهي مخطوطة الصامت التي توثق لسلالة عائلة فلسطينية يندرج منها البطل المنسي، سكنت فلسطين منذ أزمنة بعيدة تعود إلى ما قبل الميلاد، وبذلك فإن الاحتفاظ بهذه الوثيقة إنما يدحض ادعاءات اليهود وأحقيتهم في فلسطين، ويكشف عن زيف روايتهم التي نسجوها من خيالاتهم وأطماعهم السياسية.

والكاتب في تصويره لأهمية هذه المخطوطة وسريتها وحرصه الشديد على الاحتفاظ بها، أضفى عليها عناصر غرائبية تمزج الواقع بالخيال، فهي تؤرخ لوجودٍ فلسطيني ممتدٍ في فلسطين، وهذا أمر منطقي وطبيعي، ولكنَّه- الكاتب- مزج ذلك بالخيال إذ جعل الوثيقة تنطوي على رؤية غيبية للأحداث المستقبلية، فكل فعل يقوم به المنسي يجد صداه مسجلاً في المخطوطة، وكل تجاوز يقع فيه حذَّره منه جَدُه الصامت في الوثيقة من قبل، علاوة على أن مخطوطة الصامت التي وجدت محفوظة في الشرقية في مصر هي جزء من المخطوطة الأم، والجزء الآخر كان مخبأ في تجويف شجرة الجميز في بيت دمرا لدى المنسي، “وباكتمال المخطوطة بجزئيها يلتئم شمل العائلة بعد شتات العقود وتنجلي هويتهم ليصبحوا قادرين على مواجهة الأنواء في خضم الصراع حول نسب العائلة”ص 34، ولكنَّ بين الجزئين اختلافاً وتبايناً, فمخطوطة الصامت تشتمل على رموز غريبة غير مقروءة، وهناك عبارات غير مفهومة، في حين أن مخطوطة المنسي تبدو أكثر سهولة ويسراً في القراءة والفهم. وهو ما دفع السارد إلى التشكيك في صحة تلك المخطوطة التي وقعت في يدي الإنجليز أثناء اعتقال المنسي لديهم، وهو ما يشي بما يلعبه الانجليز من دور في تزييف الحقائق، وصياغة رواية جديدة تنسجم مع أطماعهم، وأطماع اليهود في فلسطين.

ومما يلاحظ أن الكاتب ألحَّ في التعبير عن أهمية مخطوطة الصامت وحضورها في كل مفاصل الرواية، إلى حد يَشعُرُ فيه القارئ بشيء من التكرار الممل أحياناً، ولكننا يمكن أن نلتمس له عذراً ومبرراً، بأنه أراد أن يلفت انتباه القارئ، وخاصة الفلسطيني، إلى أهمية الوثائق التي بحوزته وتتعلق بوجوده في فلسطين– شهادات ميلاد، شهادات ملكية الطابو، شهادات ووثائق تاريخية ومخطوطات قديمة، وأن التفريط بها أو ببعضها هو تفريط بحقيقة وجوده على هذه الأرض، مهما طال الزمان أو قصر.

واهتمام التلولي بتاريخ فلسطين ومحاولة بلورته في صيغة سردية ليس من أجل تمجيد الذات أو استرجاع الماضي، وإنما من أجل مساءلة الذات حول ما جرى، وما يجري، وكيفية الخروج من الواقع المؤلم إلى عالم أكثر رخاء واستقراراً.

وقبل الدخول إلى عالم الشخوص في الرواية دعونا نقف قليلاً أمام العنوان؛ باعتباره العتبة الأولى من عتبات النص التي تشير إلى مضمونه، وبطاقة الهوية التي يُعرف ويتميز بها عن غيره من النصوص، وفي الوقت نفسه لا بد أن نسلِّمَ بأن دلالة العنوان تظل مراوغة وعصية على التحديد قبل الدخول إلى عالم النص، وتثير في ذهن القارئ العديد من الاحتمالات والتأويلات الممكنة، وهو ما يثيره عنوان رواية ” الصامت” إذ إن تأمل العنوان يثير في أذهاننا عدة تساؤلات منها: من هو الصامت ؟ ولماذا؟ وهل الصامت هو العالم الذي مات ضميره، ومازال يرقُب الأحداث التي تجري في فلسطين دون أن يحرك ساكناً؟ أم هو الفلسطيني الذي يحتفظ بشهادات ملكيته للأرض دون أن يقوم بما يجب عليه إزاء ضياع الوطن وتشريد شعبه؟ أم هو الفلسطيني الذي مازال يحمل بين جنباته حلم العودة، وينتظر من يخلصه من واقعه الأليم إلى واقع أجمل وبلا جدوى؟ أم هو من أذهله الموقف فصمت وظل مشدوهاً ومشتت الأفكار والرؤى أمام ما يجري من أحداث جسام؟ كل هذه التساؤلات مشروعة ويتيرها العنوان ويثير غيرها من تساؤلات. ولكن كي يحسم القارئ أمره تجاه تلك التساؤلات لابد أن يلجأ إلى المتن الروائي وتعالقه مع العنوان، فنرى أن الصامت هو أحد أبطال الرواية، وجَدُّ البطل الرئيس فيها “المنسي”، ولكن الاسم يحمل دلالة عكسية لما تقوم به هذه الشخصية، وتبوح به من حقائق وأسرار، فهي تبوح بكثير من الحقائق التي تتعلق بسلالة أسرته وذريته من بعده في مخطوطته التي خطها بيده وأودعها عند زوجته ناعسة، بمعنى أن العنوان يحمل دلالة عكسية لما جاء في المتن الروائي من ناحية، ولمغزى الرواية الذي يسعى إليه الكاتب من ناحية ثانية، وهو أننا لا ينبغي أن نصمت نحن الفلسطينيين مكتفين بالاحتفاظ بمفتاح العودة وقواشين الطابو وغيرها، ولا ينبغي للعالم أن يصمت على الظلم والقهر الذي يتعرض له الإنسان الفلسطيني على أرضه ووطنه.

أولاً- عجائبية الشخوص:

لقد نوَّع الكاتب في توظيف شخصياته؛ منها العجائبية: كالمنسي والصامت وعابر السبيل، ومنها حقيقة واقعية مثل ناعسة، وبركات، والشيخ سلامة، وزينب، وصفية، ودالية وغيرها.

وما يهمنا اليوم هو التطرق إلى الشخصيات العجائبية وسبلُ توظيفها، وما تحمله من دلالات رمزيةٍ وإيحائيةٍ تثري العمل الروائي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الشخصية العجائبية تتشكل من عناصر واقعية وأخرى غير واقعية، وإن كانت الأخيرة هي الأبرز في تكوينها وبروزها.

من أهمها:

1- شخصية الصامت: هو الجد الأكبر للمنسي، وولي من أولياء الله الصالحين، يرقد في مقامه بالصالحية في محافظة الشرقية بمصر، كتب مخطوطته التي حفظ فيها سلالة أهل فلسطين التي تعود جذورها إلى أزمنة بعيدة، وأودعها أسراراً ونصائح تحفظ لأهله البقاء، وتمنحهم القوة والقدرة على مواجهة المصائب، وتعد مستنداً ووثيقة تاريخية تحفظ حقهم في فلسطين.

وتبدو شخصية الصامت شخصية عجائبية تمتلك من القدرات الغيبية واستشراف المستقبل ما يجعلها فوق قدرة البشر، فهي تعرف كل الأسرار والأحداث التي ستقع مستقبلاً لسلالتها، وقد أودعها في مخطوطة محفوظة لدى المنسي بعد أبيه الشيخ سلامة، ولكن الغرابة تكمن في قدرة الصامت على استشراف المستقبل، ومعرفة الأحداث التي يمر بها المنسي ومَن بعدَه، حتى الأسماء والشخوص التي وردت في المخطوطة تأتي وتتجسد في الواقع دون اختلاف، فهي تمتلك قوة غيبية تجعلها شخصية غير طبيعية وغير واقعية، وفي مزج الكاتب بين ما هو واقعي في شخصية الصامت، وما هو غير واقعي ما يجعل هذه الشخصية تتحكم في كل مجريات الأحداث، وما يترتب عليها من نتائج، فيقف المتلقي مشدوهاً أمام حقيقتها إن كانت شخصية حقيقية أم خيالاً وطيفاً غير مرئي يطلع على الأسرار والمستقبل الذي ينتظر سلالته من أهله.

(( الصامت لا يتكلم ليلاً حتى وهو على قيد الحياة كان كثير الصمت يتكلم بعد ما يوحى إليه كما أنه صاحب خطوة تُسمع في سكون الليل وعند الفجر وإن مَن يُطرق السمع ملياً يرى طيفه بهندامه الأبيض وعمامته الخضراء)) ص34.

فالصامت يحمل من الصفات البشرية وغير البشرية ما يجعله كائناً مختلفاً عن الأشخاص الذين نعرفهم في الواقع، فهو لا يتكلم ليلاً، وإن تكلم إنما يوحى إليه، أي أن هناك قوةً غيبيةً تطلعه على أسرار الغيب والمستقبل، وأنه يترأى بطيفه ولباسه لكل من يسمع خطواته ليلاً، وليس ذلك إلا من أجل أن يضفي عليه الكاتب قدرة خارقة، تمكنه من تحريك الأحداث والشخصيات كيفما يشاء، وفي الاتجاه الذي يرغب فيه. يقول على لسان دالية: (( كيف بالله عليكَ أن أمضي إلى مقام جدكَ الصامت وأخاطبَه فيكلمني بعد أن مات منذ مئات السنين وأضحت عظامه مكاحل ألا توافقني أن عصر الأنبياء ولَّى)) ص35.

ومن الجدير بالذكر أن السارد أطلق اسم الصامت أيضاً على المنسي الذي تتبع رحلته مع عابر السبيل إلى أسوان بصعيد مصر وقال: (( هنا يرقد الصامت/ المنسي في فلسطين لا تنسوه من الدعاء هنا يرقد إلى أن ينام هناك)) ص169. وليس ذلك إلا إشارة إلى أن المنسي كان صورة من جَدِّه الصامت الذي كان يسير على هديه وتوصياته التي ضمَّنها مخطوطته.

2- المنسي: هو الشخصية الرئيسية التي تدور حولها أحداث الرواية، وهو خليفة الصامت من ذريته، وهو ابن الشيخ سلامة وأصغر أخوته بشَّر به جدُه الصامت وأنه سيكون له شأن كبير، وليس بمقدور أحد أن يغلبه بسهولة، وهو معروف بشجاعته وفروسيته ورباطة جأشه، علاوة على أنه صاحب خطوة مباركة ورثها عن جده الصامت بعد أن مسح الشيخ سلامة على رأسه كما أوصاه الصامت ذات رؤيا 97ص، شارك في محاربة الإنجليز والصهاينة والدفاع عن يافا والقدس وانضم إلى جماعة القسام وقاد جماعته من بعده، وكانت له قدرة على الاختفاء والهرب دون أن يُمسك به جنود الإنجليز.

وإمعاناً في العجائبية يحيط الكاتب شخصية المنسي بأحداث غريبة تبتعد به عن الواقع والمنطق، فحين قبض عليه الانجليز والصهاينة وألقوه في البئر، ثم التقطه عابر السبيل، ظلت روحُه تسكن البئر وتخيفُ كل من يقترب منه أو ينظر إليه، وهو يتكلم في غيبته كأنه حاضر، إذ طلب من زوجته صفية في منامها زيارته ليخبرها عن سر المخطوطة التي دونها جده الصامت. كذلك حين حاول الهروب من السجن هيأ الكاتب له ظروفاً غريبة تسهل إمكانية هروبه من السجن، وإن كانت لا تنسجم مع الواقع، فيقول:

(( ينتظر انتصاف الشهر الهجري وسماع عُواء الذئب عندئذٍ يكون حراس السجن في سبات عميق، فيرتدي قِلادة علق بها حِجاباً كان الصامت قد أودعه إياها قبل أن يختفي طيفه، يمكِّنه من الاختفاء والهروب من السجن دون أن يراه السجانون بعدما يتخدرون إثر عُواء الذئب، وينفث فيهم ما يجعلهم نياماً كالسُكارى فيغشاهم فهم لا يبصرون..))132.

فانتصاف الشهر، وارتداء القلادة والحجاب، ونوم الحراس إثر عُواء الذئب، ليس لها ما يبررها في الواقع، ولكن الكاتب أراد بها أن يرسم مشهداً فانتازياً يخلط فيه بين الواقع واللاواقع، كي يُضفي على شخصية المنسي طابعاً عجائبياً يمنحه قدرة لا يستطيع أحد أن يثنيها عن فعلها.

لقد نسج الكاتب حول شخصية المنسي حكايات خرافية عجائبية تتردد على ألسنة الناس بما يجعل من شخصيته كائناً غريباً لا مكان له إلا في الوهم أو الخيال؛ فحين انتهت معركته مع الانجليز قيل أنه هرب مع الحاج أمين الحسيني للبنان، وقيل إنه مكث في الكهف الذي أوى إليه ثمانية أعوام ويزيد، وفي رواية أخرى أنه شوهد يصعد بفرسه أعلى قمة جبل الجرمق، أو أنه انطلق فوق قمم الجبال حتى وصل قمة جبل الشيخ بسورية، فتجمد هو وفرسه، وظل طوال الشتاء إلى أن حلَّ الصيف نفض عنه الجليد وصعد بفرسه، طار لعلو وتبخر وشوهد البخار يتلاشى في الفضاء…فغرائبية الشخصية جاءت من الأحداث التي ارتبطت بها، أو نُسجت حولها، لتمتع القارئ وتشد انتباهه، وتمنحَ تلك الشخصيةَ هالةً وقوةً تُمكِّنها من مواجهة الواقع الصعب، والانتصار عليه.(انظر ص 142)

ومن ناحية أخرى، فإن شخصية المنسي ترمز للإنسان الفلسطيني الذي تمتد جذوره التاريخية في فلسطين إلى زمن بعيد، ودافع عن أرضه ضد المحتل بكل ما يستطيع، ولكنَّه حين رحل عنها إلى مصر بسبب ملاحقة الانجليز وبطش الصهاينة، خلافاً لوصية الصامت، نزلت اللعنة بقومه، تلك اللعنة التي لا تزول إلا بعودته حياً أو ميتاً يقول السارد على لسان المنسي: ” أنا المنسي من فلسطين، إن مرَّ بي الفاتحون من قومي، فليحملوا رفاتي وألقوه في تلك البئر، تتبدَّد اللعنة التي حلَّت بقومي، تشرق الشمس، وتنجلي حروفُ مخطوطة الصامت” ص 173

3- دالية الكرمي: فتاة جميلة لأب فلسطيني وأم لبنانية ومسقط رأسها تشيلي، تبحث في علم المخطوطات، تعد رسالة الدكتوراه، تراءت للسارد في حلمه وهمست في أذنه: (( جئت لك من بلاد بعيدة أحمل في جَعبتي كنوزاً ثمينة جلبتها من صندوق العجب بعد أن وجدته على شاطئ بحر عتيق بحر شقه الأنبياء ومر من فوق ظهره الملوك، نجا من نجا وغرق منهم من غرق صندوق يقال إنه من عهد الأساطير، أنا فتاتك فانتظرني.)) ص 25 ثم بعد ذلك تتراءى له هذه الفتاة في وضح النهار صوب الأفق البعيد حيث تماس زرقة السماء بصفحة الماء(( واجهتني فتاتي زائرة الليل يا للغرابة كيف أراها في عز النهار وأنا يقظ)) 28. ثم لتكتمل الأبعاد الفانتازية؛ إذ بهذه الفتاة التي تراءت له ليلاً ونهاراً دون أن يعرفها أو يسبق له معرفتها، إذ بها تلتقيه عبر الفيس بوك وتترك له رسالة تُعرِّف على نفسها وتطلب منه المساعدة في الحصول على المخطوطة التي بحوزة أسرته لتكمل بحثها التي بدأته.ص30 .

هذه الأحداث المتعاقبة تثير الدهشة والتساؤل، وتبعث على الغرابة كيف يمكن أن نصدق أن ما رآه في حلمه يمكن أن يتجسد تماماً في يقظته، وكيف تتوارد الخواطر والرؤى لتبحث الفتاة في المخطوطة التي يبحث هو عما فيها من أسرار.. فزيارة فتاة أحلامه في حلمه، ثم رؤيتها في حلم اليقظة في نهاره، ثم التواصل معها حقيقة وواقعاً في مواقع التواصل، ثم سفرهما معاً تجاه صحراء سيناء، ولا دليل لهما سوى الشمس التي يكون مغيبها إيذاناً لهما بالوصول إلى مدينة دهب التي يقصدانها بالمسير… أشياء لا تحدث إلا في الخيال وفي عالم غير واقعي.

4- عابر السبيل: إمعاناً في المشاهد العجائبية رسم الكاتب صورة عابر السبيل الذي التقط المنسي من البئر ورحل به من فلسطين إلى أسوان في مصر قبل 60 عاماً، وكي يضفي على الشخصية جانباً من الغرابة تمكنهما من الإفلات من قبضة الصهاينة؛ تقع المعجزة بأن لا يروهم إلا كظل يشبههما فترتعد فرائصهم خوفاً من أن تصيبهم لعنة الظل، فتوقفوا عن اقتفاء أثرهما وعادوا إلى مستعمرتهم ص148؛ وكان عابر السبيل يركب جملاً وبصحبته المنسي، وقد شوهد وهو يمشي فوق سطح الماء صوب الجنوب، كان يطلق عليه أهل دهب الجمل الطائر، وعادة ما كان أهل دهب يخيفون به أولادهم كي لا يخرجوا مساء ليلهوا ويلعبوا، كانوا يقولون لهم: (( إن خرجتم بعد المغيب يحط الظلام بلعناته، ويأتي إليكم الجمل الطائر ويأخذكم على ظهره ويطير بعيداً، يخيفهم ويمنع خروجهم ويتركهم يتأملون ذلك الجمل الطائر يحلق فوق ماء بحر دهب)) 154.

وكي يمعن في الصيغة العجائبية عليهما، وكيف وصلا إلى دهب من فلسطين قال السارد على لسان أحد المعمرين؛ كان الصهاينة يطاردونهما (( فاستسلم للشمس التي حملتهما وراحت تغوص في عمق البحر بينما لا حول ولا قوة سوى أن يشق عُرْضَه مع الشمس حتى حطت الشمس حيث مغيبها في بحر دهب)) 155.

فما أضفاه عليه من عجائبية جعلته يتحرك ويقطع مسافات بعيدة في لمح البصر، وجعلت من الكائنات الأخرى وسائل مساعدة لإنجاز ما يبحث عنه وتحقيق حلمه.

ثانياً- عجائبية المكان:

يعد المكان مكوِّناً أساسياً من مكونات العمل الروائي، إذ لا تقع أحداث الرواية ولا تتحرك شخوصها خارج المكان أو الزمن، لذلك يستمد المكان أهميته وخصوصيته من خلال علاقته بالشخصيات والأحداث الروائية وتفاعله معها بصورة إيجابية؛ فكل مكان حسب لوتمان يفرض طقوسه وخصوصيته على الفرد الذي يوجد فيه، فهو ملزم وخاضع لتلك القواعد التي تحكمه وتفرض كينونتها عليه.

من هنا لعب المكان في رواية الصامت دوراً فاعلاً في نمو الأحداث وتحريكها، فهو الحيز المكاني الذي تتصارع فوقه الشخصيات، ولهذه الأهمية افتتح الكاتب روايته بذكر المكان الذي يمثل تقابلاً بين واقعين الماضي الجميل والواقع المؤلم اللعين، وأصبح الوطن الفردوس المفقود بعد أن نزلت به لعنة الهجرة واغتصاب الأرض.

وإذا كان الكاتب شفيق التلولي قد نوَّع في أدواته الفنية واستخدم الأسلوب العجائبي في بناء أحداثه وشخصياته، فإن هذا الأسلوب قد امتد أيضاً إلى المكان، وأصبح المكان عنده مزيجاً من الواقع والمتخيل، مما يحقق عنده انسجاماً تاماً بين عناصر الرواية وطرق تشكيلها.

ومن الأماكن التي طغى عليها الطابع السحري العجائبي في الرواية هي:

1- البئر: وهو بئر القرية التي يشرب منه الناس، وتملأ نسوة القرية جرارهن من مائه. ص91، ولكن الكاتب أحاط البئر بهالة من الخرافات والغرائب التي تحمل الفزع والخوف لكل من يقترب منه.ص14

فهو ليس ككل بئر، إنه مستودع الأسرار، ومسكن روح المنسي التي استقرت فيه، وموطن للرعب والخوف لكل من يقترب منه من غير أهله، وكأن الكاتب اتخذ منه رمزاً للبقاء والتمسك بالأرض والوطن، والتخلي عنه، أو تركه سيجلب لأهله اللعنة والتيه في المعمورة، ويحل الغضب بهم من كل جانب، يقول على لسان المنسي:” لا تهربوا لا تتركوني وحيداً في بئري تلك، ستغضب شجرة الجميز يهتز جذعها تصيح أغصانها تحل عليكم اللعنة إن تخليتم عنها وعني وعن تلك البئر التي فيها حكايتكم..)) 87. فالبئر/ المكان، وشجرة الجميز، والمنسي/ الفلسطيني هي مكونات الوطن التي لا ينبغي التخلي عنها، وإن التفريط بواحدة منها هو تفريط بالكل، ومن ثم تحُلُّ اللعنة على أصحاب الأرض، ويسيحون في الأرض غرباء، ويصبحون على ما فعلوا نادمين. ولذلك تحققت نبوءة المنسي حين فرَّ أهل الأرض منها وتركوا ما فيها، من شدة الخوف والرعب، بعد أن عاث العدو الصهيوني في الأرض فساداً وقتلاً وتدميراً.

2- مقام الخضر: هو مقام يقع في مدينة دير البلح جنوب فلسطين، وينسب إلى رجل صالح اسمه الخضر كان محط الزوار الوافدين إليه للتبرك به وإضاءة الشموع بداخله، وهو مكان أثري يعود إلى العصر الروماني، ويعد أقدم إرث تاريخي في فلسطين؛ يحتوي على بعض النقوش اليونانية والأعمدة الرخامية والأقواس والتيجان الضاربة في القدم، واستمر بقدسيته حتى بعد دخول الإسلام إلى غزة ..ص 146 ، وتأتي غرائبية المكان من الرسالة التي أودعها عابر السبيل فيه؛ إذ أوصى وليَّ المقام بعدم فتح الرسالة إلا بعد مغيب الشمس، عندئذ تكون قد حملتهما-عابر السبيل والمنسي- إلى ما بعد البحر، أما إن فتحت قبل مغيبها سيَغرقان في عُرض البحر قبل وصولهما، ويتفشى الحبر فلا يستطيع أمينها قراءتها، وحتى بعد وصولهما لا يجب فتحها إلا بعد المغيب كي لا تلحق بهما اللعنة ويختفي أثرُهما. ص 151 تلك الأفكار لا مكان لها في الواقع وتشذ عن المنطق والمعقول، وتصبح وظيفتها في السرد إضفاء جانب من الغرائبية الممتعة التي تفسر لنا بعض الأحداث التي تجري، ولا نجد لها تفسيراً في الواقع.

3- شجرة الجميز: وتعد من فضاءات الأمكنة في الرواية باعتبار تجويف جذعها مكاناً لاحتواء مخطوطة الصامت التي خبأها المنسي فيه، وهي شجرة فرعونية أعطتها ناعسة زوجة الصامت لابنها بركات ليزرعها في فلسطين، وقد أحاطها الكاتب بهالة من العجائب جعلت منها كائناً غريباً ومرعباً لتمتد فكرة العجائبية إلى معظم عناصر العمل الروائي؛ يقول عنها السارد على لسان حارس المقبرة، موجهاً كلامه لصفية جدة السارد أمين: (( كان عليك ألا تأتي إلى هنا في الوقت الذي تثمر فيه شجرة الجميز ألم تعرفي أنها تحمل سبعة بطون في السنة في كل بطن تثور أغصانها وترتعد عند المخاض وقتئذ يخرج من جذعها طيف)) 16.

فإضفاء الغرابة على شجرة الجميز ما هو إلا تقنية عجائبية لجأ إليها الكاتب ليفسر أموراً يعجز عن تفسيرها في الواقع الخارجي، وليثير الدهشة والتشوق في ذهن المتلقي؛ فيزداد شغفاً في متابعة الأحداث وتفسيرها.

يقول: (( إن روحاً سكنت تلك الشجرة تهيم حولها كلما حملت ما إن يقطف أحد المارة من ثمرها حتى تنزف ويسمع لها أنين، لا يعرف أحد سر الشجرة)) 16.فشجرة الجميز ليست نباتاً كما هو معروف ، بل تحمل خصائص الكائن الحي/ الإنسان، فهي تغضب وتنزف وتئن، وتلك صفات عجيبة وغريبة لتلك الشجرة.

ولذلك عندما وقعت معركة قرب دمرا بين الصهاينة والفلسطينيين، وقُتل فيها مَن قتل خشيت تلك المجموعة الصهيونية من دخول القرية وقت موسم حمل شجرة الجميز، فعندما دعا أحدهم إلى اقتحام القرية رد عليه الآخر: (( لا لا للدخول وقت موسم حمل شجرة الجميز سمعت أنه عند تخوم هذه القرية روحاً تسكن تلك الشجرة ربما تطاردنا لعنتها)).ص 18 ومن ثم عادت المجموعة أدراجها خوفاً من أن ينقض عليهم أهل القرية.

وتكاد رؤية الكاتب تتجلى بكل أبعادها في دلالة هذه الرموز النباتية والطبيعة والبشرية التي وظَّفها في بنيته السردية؛ إذ إن شجرة الجميز تشكل رعباً وخوفاً لمن يحاول الاقتراب منها، وكذلك البئر وروح المنسي التي تحوم في المكان، ليقول لنا إن المحتل الصهيوني إذا حاول اغتصاب الأرض فلن يهنأ بذلك، وسيلفظه نباتها وحجرها وإنسانها، وستظل تشكل لهم في مجموعها اللعنة التي تخيفهم وترعبهم وتقض مضاجعهم أمد الدهر.

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى