رسائل بتول ومريم: رحلة داخل الذات

رحلة داخل الذات: رسالتان مليئتان بالتأمل
إلى مريم الخطيب،
أكتب لك من منتصف شارع خالد بن الوليد، وأكاد أعانق عمود الكهرباء خشية أن أنسى ما أريد أن أحدثك به. قبل قليل، التهمت كرواسون، وشعرت بالسعادة وهي تتشعب في عروقي. كان يتبقى أن أنتقل إلى فرنسا لأكلها بالطريقة التي تحلو لي. هنا، الناس يقتلهم الاتيكيت الكاذب وينتظرون مني أن أكل الكرواسون بشوكة وسكين! ومع أسفي الشديد، فقد خضعت لرغبتهم هذه المرة. وأنا كنت فقط أريد أن أسبح في الرقاق المتساقطة.
إذن، أنتِ من أولئك الذين لا يسمون الأشياء. ربما عدم تسمية الأشياء يمنحها حريتها، لكن في الوقت ذاته يحرمها من هويتها. وأنا لا أريد أن أنتزع من الأشياء حقها في التفرد. فريدة ليست أي نبتة صبار، إنها فقط فريدة، وتريسي ليست مجرد مصباح برندة يأكلها برد الشتاء وحر الصيف. لنسم الأشياء، يا مريم، لنمنحها حقها في الحياة والوجود.
ما ينقصني هو التجارب الجديدة بعيداً عن رتابة محاضرات الجغرافيا القاتلة. ما ينقصني هو أن أرفع رأسي عالياً وأنظر إلى كل الأشياء التي اعتدت رؤيتها كل يوم. للمرة الأولى، ها أنا أنتبه إلى سقوف البيوت والحجارة التي ترصع الطوابق العليا، والشجرة كيف يعبر بين أغصانها عصفور بكل رشاقة ويغني، والبراءة التي تسكن قلوب الأمهات. هذا ما ينقصني، يا مريم، أطعمة جديدة ورأس مرفوعة.
كنتُ أفكر في أمري مع الشعر كما أخبرتك من قبل، وكم بدى مضحكاً وغريباً وملّحاً بالنسبة لي فكرة إنشاء عيادات للشعر، يزورها الشاعر الذي أصاب روحه مرضٌ، ويصف الطبيب له وصفاتٍ معينة بحسب علته فيعود معافاً كما كان في آخر أمسية. لو أنهم يقومون بذلك، فرع في كلية الطب، يسمى طبابة الشعراء، كنا سنكون معافين الآن.
لو أنشئ ذلك الفرع، هل كنتِ ستلتحقين به بدلاً من طب الأسنان؟
بتول أبو عقلين (غزة 19/ آذار/2023)
عن العالم والشعر، وأشياء أخرى
19آذار 2023
إلى الأوركيد
أكتب، وأخاف أن يهرب المطر مني.
تعلمين تلكَ الفتاة التي سقط شالها وبلَّ المطر شعرها، بيدها وردة، ورقائق كرواسون على ثوبها، وعلى شفتيها آيسكريم، وبيدها ورق وقلم وتسمع موسيقى هاربة من مقهى مهجور وترقص مع المطر.
هذه أنا وأنا على وسادتي.
اتكأ على ما حل من يوم الطويل المليء بكل شيء، والذي لا أذكُر منه شيئًا سوى إنني كنت أتحدث مع صديقي درويش تحت المطر في شارع الشفا، سألته لماذا نحن هنا؟
قال لي: نحن من نحن، ولا نسأل من نحن.
سأقطع كتاباتي لهذه الرسالة وأذهب لأصور البرق لأنه تسرب إلى شباكي ليلاً وترك على سجادتي ظلاً مليئاً بالضوء.
11:31 مساءً
……..
لن أسمي الأشياء، فالمطر يعصف بنا ونحن في مشرع الربيع، أهلذا حق تفرد الطبيعة؟
لربما شيطاني النائم سأسُميه حين يستقيظ.
أيضا، لربما أنا لست بشاعرة ولا كاتبة.
أنا فقط يبلل المطر ثوبي، ينام قلمي على أُحجية الطبيعة تدهشني الأشياء ببساطتها، أرسلُ رسائلي مع الطير، وأحب الورد الذي بجانب الطريق، وابتسم لطفلٍ مُنهك من حمل حقيبته المدرسية.
كل ما أكتبه هو أنا.
أنا التي أبحث عنها.
أنا لست بشيء سوى أنني مريم أو أنا.
كنت أمازح الدكتور وأقول له عندما يشتكي مريضي من سعر خلع ضرس العقل سأقول له:
“يا أعدل الناس إلا في مُعاملتي
فيك الخِصام وأنت الخصم والحكم.
أعيذُها نَظَراتٍ منكَ صادِقَةً
أن تَحسَبَ الشَحمَ فيمَن شَحمُهُ ورَمُ.”
ضحك وهز رأسه؛ لربما هذه المرة أهُذي مرة أخرى.
سأكون طبيبة بالشعر هذا سر مهنتي الذي سيميزني عن ملايين الأطباء. لا تُخبري أحد بسر مهنتي، وستكون عيادتي مكتبة ثقافية، وسأترك الخيار للمريض عملية جراحية أم مُعلقة شعرية؟
عزيزتي الأوركيد:
اطلبي المغفرة من ذاتكِ. هل تعلمين اليوم انتزعني رغبتكِ في تذوق طعم باريس فقط لمجاراة الذوق العام الخفي؟ وجود الله وطلب السماحة منه دائما يُنسينا أن نُحاسب أنفسنا ونطلب منها السماح أولاً حتى تخرج ذاتنا إلى الله بريئة حتى لو من ذاتها.
اغفري لنفسكِ؛ لكي يُرفع عملكِ مغفوراً إلى الله.
أهكلتُ روحي وأنا أبحثُ عنها في زقاق مدينتي والسقف وبين الورود، حتى بين الطير ولكنني نسيت أن أبحث عنها داخلي.
داخلنا يتسع العالم وأكثر.
يتسع تجربة حية نعيشها ونحن على فراشنا.
صوت العصافير يخرجُ من داخلي قبل أن يمتزج صوتها بالطبيعة، والشجر، والسماء حتى تسَّترق زراقِها من حبرَّي الذي أكتبُ بهِ رسائلي.
والماء لا لون له مثل روحي.
وحتى ريحة الأوركيد سأنسبها لخاصتك. لذلك، تعطري جيداً الأوركيد لص جيد سيسرق منكِ رائحتك.
نحن الطبيعة، الشعور، البساطة، والتجربة.
نحن من نحن.
دعينا في يوم نأكل الكرواسون وسأجعل فتاته تتساقط عليَّ كالخريف يبعثر ملابسي الجديدة وسأنظفها بماء المطر.
وإن ذبلت، سأعلق خيبتي على الطبيعة وأقول كل شيء يذبل.
12:38 صباحًا.