نصوص

قصة قصيرة بعنوان: كرامات

قصة قصيرة بعنوان: كرامات

صفاء حميد

وجه مغموس بالحكاية، هذا كان وجهها و هكذا عرفته دائماً، وجه مستديرٌ بعينين زرقاوين صغيرتين، أنف مدبب و فم شديد الاتساع إذا ما ابتسم، وجهٌ تجري فيه الخطوط في كل اتجاه صانعة رسومات و أشكالاً تخالها أنهاراً جفت منذ الزمن القديم متحولةً إلى خنادق مفرغة من الحياه.
كلما قلتَ سلمى، أطلت من شبابيك ذاكرتك صبيةٌ في الستين، تقرأ في وجهها حكايتها، حكاية البلد كلها التي لم يبق عليها شاهد عداها.
خرجتُ اليوم ماشياً كعادتي كل صباح، و حيث أنني لا أصدف أحداً في الغالب،ظننتها شبحاً.
ترتدي ثوباً أبيض بأكمام معقودة في نهايتها و تضع غطاء رأس أخضر، و تمشي بخفة و ظهر مستقيم صاعدةً الطريق الممنوعة.
لم نعرف سلمى بغير كونها سلمى، لا أهل، لا زوج، لا ولد.
لم نعرف متى سكنت بلدتنا، ولا من أين جاءت؟
ولم أعرفها إلا حين حملتني أمي إليها طفلاً في الرابعة لا يكف عن البكاء قبل ثلاثين سنة.
قالت النسوة لأمي خذيه لسلمى إن لها كرامات.
سلمى تخف صاعدة على الطريق الممنوعة، تيقنت أنّها هي ، لا أحد يمشي بهذه الخفة عداها.
ذكرتني خفة مشيها و صباها المبالغ به في الستين وجه والدي يعود غاضباً  إلى البيت بعد موت أمي بسنتين و يزمجر شاتماً: بنت ال… ، ماذا تظن نفسها لترفضني مجدداً؟
من الذي لم يشتهِ قرب سلمى؟
لا أحد، لكن الوحيد الذي تجرأ و طلب القرب كان أبي.
و سلمى ظلت سلمى لا تقترب من أحد ولا تسمح بأن يقترب منها أحد.
سلمى التي تصعد الآن الطريق الممنوعة، رفضت والدي ثلاث مرات، انطوى بعد ثالثتها على نفسه مكتئباً يرفض كل طعام و شراب حتى لم يكد يحيا بعدها شهرين.
صرخت دون أن أعي: سلمى.
فالتفتت، الوجه ذاته الذي شاهدته للمرة الأولى منذ ست و خمسين عاماً، وجه الحكاية، وجه البلد.
تبسمت و عادت لتكمل طريقها.
ركضت وراءها منادياً: سلمى.
لم تلتفت إلي.
كلّ الأطفال حملتهم أمهاتهم إلى سلمى،وكلّهن قلن إن لها كرامات،يأتيها الطفل باكياً و يعود من عندها لا يعرف للدمع طريقاً، ولم يعرف أحد لغز سلمى لكنهم قدروها كما يقدّرون الغيب.
على قمة الطريق الممنوعة صارت الآن، ولا أزال في منتصفها أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، خائف على سلمى مما وراء الجبل، و خائف على نفسي من سلمى.
جددت ندائي لها دون طائل.
عدت إلى الركض وراءها، اللعنة على الخوف سألحق بك ولو لآخر الدنيا يا سلمى، و ستطفئين ظمأ والدي إليك، ظمأ كل رجال البلد الآن، النساء اللواتي يبتن الليل يبكين أن لا أحد يندس في فراشهن آخر النهار سأنقذهنّ اليوم، الأطفال الذين لم تنجبهم البلد منذ سنين طويلة سأستدعيهم من أرحام أمهاتهم اليوم.
سأعرف اليوم لغزك أو سأقتلك.
دارت كل الأفكار الشيطانية في رأسي وأنا ألحق هذا الجسد الخفيف للسيدة التي قطعت خوف الأطفال و دموعهم كل هذه السنوات، و قطعت معهم قدرة الرجال على إحضار أطفال جدد، سلمى التي لها علينا كلّ أفضال الأرض، تزرع فتثمر الأشجار، تدعو فيهطل المطر، تغني فيرقص الناس، تلتفت فتشتعل القلوب، تمر من طريق فينكسر تحت قدميها كزجاجة عطر.
اليوم يا سلمى سينتهي كل شيء.
وقفت على قمة الجبل رفعت بصري إلى السماء، كنت خائفاً هذه المرأة قد تدعو الله فيسقط السماء علي قطعاً، لكن السماء كانت صيفية رائقة و شمسها تتمطى في إحدى الجهات.
ببطء أنزلت بصري ووجهته إلى ما وراء الجبل، منحدر حاد ينتهي بأرض سهلة شديدة الخضرة مقارنة بهذا الوقت من السنة، و هناك رأيتها جالسة في منتصف الأرض وقد أرخت شالها و ثيابها، فبرز تحتهما جسد غضٌّ و شعر شديدُ السواد، سيدة في الستين عادت في ثوانٍ إلى عشريناتها، تبكي و تنهج، ومن حولها يرتفع العشب و تنتثر الأزهار.
ليس فيلماً سينيمائياً ولا مشهداً خيالياً، كنت أراها أمامي حقاً سلمى و لكن في العشرين من العمر، وحولها تحولت الأرض إلى بستان.
شيء تحرك في يدي نظرت إليها،يد فتى في الرابعة نبتت مكانها، رفعت يدي إلى وجهي تحسسته أملس بلا شعر ولا تجاعيد، وجه طفل في الرابعة.
المشهد صار مألوفاً فجأة كأنني عشته سابقاً ،ركضت أسفل الجبل وأنا أنادي: مامااا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى