رواية ظل الريح: بوح الخيال والأدب القوطي في متاهة برشلونة

رواية ظل الريح: بوح الخيال والأدب القوطي في متاهة برشلونة
بقلم: إيمان أبو شعبان/ فلسطين
تعد رواية “ظل الريح” للأديب الأسباني كارلوس زافون من أهم روايات الأدب العالمي، وهي تنتمي حسب النقاد إلى الأدب القوطي، الذي يمتزج فيه الرعب بالخيال والرومانسية. وهو نوع من الأدب كان شائعاً في مرحلة مابعد عصر النهضة في أوروبا. وقد اختار الكاتب أن يكتب روايته وفق هذا اللون الأدبي القديم، رغم أنه ألبس روايته بعض أدوات الحداثة.
تُرجمت الرواية إلى أربعين لغة، وبيع منها ملايين النسخ. والرواية هي الرواية الأولى لسلسلة من أربع روايات أطلق عليها الكاتب اسم “مقبرة الكتب المنسية”. والروايات هي: “ظل الريح”، “لعبة الملاك”، “سجين السماء”، و”متاهة الأرواح”.
تقع الرواية في حوالي 550 صفحة، وهي رواية زاخرة بالشخصيات والأحداث والدهشة والصور الأدبية الخيالية. كما رصد فيها الكاتب التحولات الاجتماعية والسياسية والحياتية بعد الحرب العالمية الثانية، واختار مدينة “برشلونة” الإسبانية مسرحًا وفضاءً للأحداث.
ربما سأعرج أثناء الحديث على بعض عناصر الرواية مثل الشخصيات والأحداث والزمان والسرد واللغة والحبكة. ولكني سيكون تركيزي منصبًا على عنصر المكان، الذي شكل ركنًا وازنًا وأساسيًا في الرواية. أقصد هنا المكان بشكل عام، والذي يتمثل في مدينة برشلونة، كذلك الأماكن داخل الفضاء الذي تتحرك فيه الرواية مثل البيوت والشوارع والمكتبات والميناء وغيرها.
باختصار، تدور أحداث الرواية حول فتى مراهق يصطحبه والده في رحلة غريبة داخل مدينة برشلونة ليجد نفسه داخل مكتبة تكون عدداً لا حصر له من الكتب. يطلب الوالد من ابنه الفتى (دانيال) أن يختار كتاباً معيناً ويتعهد بالحفاظ عليه مدى الحياة. وسط دهشة الابن، يختار رواية لكاتب مغمور يدعى (خوليان كراكاس). يأخذ الرواية معه لمنزله ويقرأها في ليلة واحدة، رغم كونها طويلة جداً. يجد نفسه معجباً بالرواية وبكاتب الرواية، ومهتماً بمعرفة معلومات عنه. يخبره والده أن صديقه (برسوله صاحب مكتبة) ربما يعرف شيئاً عن الموضوع.
تتتابع الأحداث ليجد دانيال نفسه في خضم مغامرات وأحداث ومفاجآت في أماكن مختلفة، وعدد كبير من الشخصيات الهامة والثانوية. ويلعب القدر لعبته فيبدع الكاتب في حبكته لتتقاطع قصة خوليان مؤلف رواية “ظل الريح” مع قصة دانيال مع تغيير في النهاية.
فيما يتعلق بالمكان في الرواية، فقد تعددت الأماكن، مثل أسبانيا، فرنسا، الأرجنتين، ولكن أهم الأحداث جرت في عدة أماكن داخل مدينة برشلونة. والمكان كما يراه باشلار في كتابه “جماليات المكان”، الذي وصل إلينا من خلال ترجمة غالب هلسه، ليس مسرح الأحداث فحسب ولا الفضاء الذي تتحرك فيه شخوص الرواية، رغم أن الفضاء كما يراه النقاد يعتبر أهم وأشمل من المكان. لكن المكان هو ركن وعنصر أساسي في بناء الرواية.
ولعل أهم مكان في الرواية، والذي تنطلق منه الأحداث، هو مقبرة الكتب المنسية، والتي اختار منها دانيال كتابًا أو رواية “ظل الريح”، وفي إشارة إلى دلالة هذا المكان الغريب المغلق، والذي يدل على الغموض والإحتواء وشعور متناقض بالخوف والأمان والخيال والانتماء، وقد اختار الكاتب هذا المكان كبداية لروايته لكونه يتضمن تلك المتناقضات في آن واحد في وحدة متشابكة.
ومن الأماكن ذات الدلالة الهامة والتي وردت في الرواية عدة منازل، منها منزل دانيال، ومنزل صديق والده (برسولوه)، والمنزل الذي تربى فيه خوليان كراكاس، ومنزل بائع القبعات، والقصر الذي شهد حبكة قصة كل من دانيال وخوليان وهو قصر والد خوليان. تلك المنازل المغلقة والتي تدور خلف جدرانها أحداث الرواية.
مثلاً، منزل دانيال الذي يلفه الدفء والحياة الوادعة الرتيبة يختلف عن منزل برسولوه الذي ضم مزيجاً من التحف والكتب والعواطف. أما منزل بائع القبعات والذي شهد طفولة خوليان، ذلك الطفل المشاكس المتمرد، فقد اكتسب سماته من سمات سكانه، فقد كان منزلاً فوضوياً يتشاجر سكانه باستمرار (زوج والدة خوليان ووالدته). أما ذلك القصر، قصر والد خوليان وشقيقيه، فقد كان مكاناً مناسباً للرعب والعواطف المشبوبة والنهايات غير المتوقعة.
ومما نراه في اختلاف الدلالات لتلك المنازل أو الأماكن المغلقة، أن الكاتب أمسك بزمام أحداثه وشخوصه وأماكنه، سواء كانت مغلقة أو مفتوحة، لنشاهد اختلاف الدلالات من منزل إلى آخر.
هناك أماكن أخرى كالشوارع في مدينة برشلونة وميناء المدينة، الذي أجاد الكاتب في وصفها في حالات الصحو والمطر، رغم أنها لم تكن مهمة سهلة لأنه وصف المدينة قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية.
تلك الشوارع التي شهدت المطاردات والمؤمرات، والتي عكست السمات الشخصية لأبطال العمل من خوف وارتباك وغموض وتصميم. أما ميناء المدينة، والذي وصفه الكاتب وصفاً دقيقاً، والذي كان في بعض الأحيان ملاذاً لحيرة بعض أبطال الرواية، والذي يتمثل في النزوع إلى الوحدة والابتعاد عن الصخب.
هناك أيضاً أماكن لم يركز عليها الكاتب مثل فرنسا والأرجنتين، والتي شهدت تحولات في سير الأحداث والتطور الدرامي للشخوص. باريس شهدت هروب خوليان وميله لكتابة الروايات التي لم يقرأها إلا عدد قليل. كما شهدت انتظاره لحبيبته، ليكون نتيجة كل ذلك في هذا المكان الذي شهد هزائمه، انقلابه على نفسه وموهبته ليحرق مكان الذي احتوى كتبه ويحترق وجهه، ويعيش بشخصية وأوراق ثبوتية لشخص آخر في الظل، مع زوجة ذلك الشخص.
الأرجنتين التي كانت مسرحًا للبحث عن خوليان بهدف التخلص منه، وكأن فرنسا والأرجنتين كانتا المكانين للشعور بالنهاية والفشل والابتعاد عن الذكريات، رغم الاجتهاد والمثابرة والإيمان بالموهبة.
هناك بعض الأماكن التي شهدت بعض الحوارات والأحداث، منها الأماكن المفتوحة التي توحي بالحرية والانطلاق، ومنها الأماكن المغلقة التي توحي بالسرية والتفكير واكتشاف العاطفة وأبعاد بعض الشخوص وطريقة تفكيرهم وممارستهم للحياة، كالجامعة في برشلونة ومحل دانيال ودور السينما والمقاهي.
وهكذا نرى كيف أن المكان شكل رافعة هامة للأحداث وحركة الشخوص وتشابك العناصر من زمان ومكان وحبكة وسرد ولغة. وصلتنا من خلال الترجمة الممتازة لتنتج هذا العمل المتميز.
تلك كانت بعض الأمثلة لأهم الأماكن التي حملت معها دلالاتها وخلقت العلاقات المنطقية وربما غير المنطقية أحيانًا بين عناصر الرواية.