مجتمع

ريان ولعبة الإعلام 

ريان ولعبة الإعلام

صفاء حميد- اليمامة الجديدة

تسمّر ملايين العرب أمام شاشات التلفزة على مدار خمسة أيام، ليتابعوا حكاية طفل مغربي من مدينة شفشاون- التي بالمناسبة ربما يسمع فيها الكثير منهم للمرة الأولى-.

سقط الطفل ريان في بئر يمتد بالأرض مسافة تزيد على ثلاثين متراً ولا يتجاوز قطره محيط جسد الطفل بأكثر من بضعة سنتيمترات.

في العتمة والبرد والخوف، رصدت الكاميرات أنفاسه الخافتة ونظرات عينيه التائهتين لتبثّ الصورة فتلهب أرواح الملايين على امتداد هذه البلاد ليتضامنوا مع طفل لا رابطة دم ولا قربى تجمع بينه وبينهم، ولا كان من الممكن لهم أن يعرفوه لولا هذه الشبكة الرقمية التي تغطي كل شبر في العالم.

خاف الناس مع ريان، وارتجفت أجسادهم برداً، وضاقت عليهم أسرّتهم كما يضيق بالبئر صاحبه، وتجاهلت الشاشات كل الأخبار لتصبٔ تركيزها على نقل كل مستجدات هذا الحدث، منذ لحظة البدء بالحفر، وحتى اللحظة الأخيرة حين قالوا: مات ريان.

يسجل العالم آلاف الوفيات -الناجمة عن الكوارث- في صفوف الأطفال كل عام، الفقر والمرض والحروب وانفجار الألغام، كلها قد تكون سبباً في قتل أطفالك لو كنت تعيش في فلسطين أو سوريا أو إفريقيا مثلاً.

في السنة الفائتة قتل في سوريا 360 طفلاً، وشهدت فلسطين قتل 79 طفلاً في السنة نفسها.

موت الأطفال عملية يومية مستمرة، لا تقتلهم الآبار وحدها، تقتلهم مئات العوامل الأخرى أيضاً، وبينما تسلّط الكاميرات المؤدلجة الضوء نحو زاوية ما، تقف مواربة عدساتها عن زوايا أخرى.

لا يتمتع الإعلام قط بالمصداقية التي يدّعيها، خاصة في زمن الهاشتاغ والمشاع الرقمي، والتكالب على المشاهدات والوصول، يصنع الإعلام القصة التي تنعشه وتجبر الناس على أن يترصدوا لك ما تنشره وسائله، ويتابعوا دقائق الأمور فيها.

هل تهتم الكاميرات بالفتى أم بالبئر؟

في الواقع، لا تكترث الكاميرات لأمر الفتى الصغير الذي ينزف روحه في قعر مظلمة، تكترث لأمر البئر، لا تصف لك الظلام والجوع والبرد والخوف والدموع والعيون الشاخصة، تصف لك عمق البئر واتّساعه وآلسة الحفر، وأين وصلت الآلات في هذه اللحظة وأين ستصل بعد ساعتين، وكم احتمال حصول انهيارات، هذا ما يهمّ الكاميرات، لأن الناس يتحركون بالتشويق أكثر مما يتحركون بالمشاعر.

وهذا هو السبب نفسه، الذي يجعل الكاميرات لا تسلّط الضوء مثلاً وبالآلية نفسها على حكاية الطفل السوري فواز قطيفان والذي أظهره مقطع مصوّر تحت سياط جلاد لا يرحم جسده الغض.

فهم لا يعرفون في أي مكان يحتجز فواز، ولا يعرفون أبعاد الغرفة ولا إعدادات الموقع، كما أن فواز حي وقد سمعوا صوته يصرخ، هو ليس عالقاً بين الحياة والموت، وهذا لن يشكل مادة إعلامية دسمة.

رحال فواز كحال آلاف الأطفال في العالم، والذين لا يملكون بئراً ولا يملكون ما يجعل قصتهم محط إثارة وتشويق، فهم يموتون فقط دون مقدمات، بالرصاص أو بالقنابل، أو بالمرض.

إن لعبة الكاميرات والإعلام المخيفة هذه، صارت تحكم عالمنا كما لم يُحكم يوماً، العالم الذي اعتاد أن يُحكم بالحديد والنار،صار محكوماً بالعدسة والشاشة، تعلي من شأن القضية التي ترغب وتهمل القضية التي تطاوع مزاجها أو ترفع نسب مشاهداتها.

زر الذهاب إلى الأعلى