ثقافة

سطوة الثنائية في (ديوان لا قيامة لك الآن) للشاعرة يسرا الخطيب

سطوة الثنائية في (ديوان لا قيامة لك الآن) دراسة سيميائية

بقلم: شهيناز أبو شبيكة

بقرائتنا لديوان (لا قيامة لك الآن) للشاعرة والأديبة يسرا الخطيب، تسيطر علينا سعة ثقافة الشاعرة، وعمق خبرتها بأسرار الحياة وخباياها، وإحساسها الكبير بهموم شعبها، وحملها للقضية الفلسطينية وروح الانتماء الوطني، ومعاناتها بسبب ضياعه وانقسامه وحصاره، والحروب التي حطت عليه . 

نلمس في هذا الديوان الشعري سطوة الثنائية في كل أجزاءه وثناياه بين اليأس والتفاؤل، بين الحزن والفرح، بين السواد والبياض، حيث احتوى الديوان على خمس وثلاثين قصيدة متنوعة، لكل قصيدة عنوانها الخاص، والقارئ لهذه القصائد يكتشف أنها جاءت على الهيئة الثنائية وارتبطت ارتباطاً وثيقاً مع عالنوان الرئيس للديوان (لا قيامة لك الآن) والذي كان بمثابة أيقونة دالة للمتن، حيث أوجز مضمون النص دون تفصيل، ولمح بمكنوناته دون إفصاح،  وشكل جسراً للعبور إلى ثنايا النص الشعري، فجاءت هذه القصائد على قسمين ثنائيين: القسم الأول انساب خلف العنوان الرئيسي وكأنها أجزاءً منه، فقد حملت هذه القصائد أسماءً تشي بالسقوط والانهزام والموت، مثل( تسقط الفراشات، لا قيامة لك الآن، تاريخ فاسد، ليلة حرب، وزر الغواية، اغتيال فرح، تناص في الوجع) لتصب جميعها في المحور الرئيسي للعنوان الذي جاء ليبرز حالة الشاعرة وما سيطر عليها من حزن ووحدة ويأس، فأسدلت الشاعرة كم السواد في هذه القصائد لتعبر عن حالتها الشعورية المسيطرة عليها .

 أما القسم الآخر للقصائد فتمثل في مقاومة الشاعرة لما تواجهه من أحداث وما سيطر عليها من حزن وكأنها تقول رغم كل الصعاب إلا أنني باقية مقاومة صامدة لا أنكسر، فحمل هذا القسم من القصائد بعض الأسماء منها ( أنا والدرويش، سلامٌ حتى مطلَعِ الفجر، ثلجٌ ساخن، نغرق ثم نطفو، نجاة، مازلت حياً، أصادق غيمةً، صدق الرؤية، لأنك أنت) نلحظ من عناوين القصائد في القسمين ثنائية التشاكل بين الحزن والفرح، بين القوة والضعف، بين اليأس والتفاؤل .

 وقد استخدمت الشاعرة التقنية الثنائية للبياض والسواد لتضع القارئ أمام تجربة فضائية شعرية لديها القدرة على توظيف الدلالات، حيث صاغت من ديوانها الشعري بناء تشييدي يتطلب قارئاً جريئاً متفاعلاً يعمل على قراءة السواد وتأويل البياض بمقتضى السياق العام للنص

فنلحظ اكتساح السواد لهذا الديوان، فجاء متمثلاً بدلالته الثنائية الإيجابية والسلبية، ففي قصيدة تسقط الفراشات تقول الخطيب:

تتساقط الخيبات

تهطل عليك تباعاً

كما العوسج

تنمو ارتباكاتك

ينتحر الياسمين

على جدرانك

الآيلة لسقوط الأمل

يغرقك في قاع الخيبات

وأنهت القصيدة بـ:

لا مطر يبللك

لا حلم يحتويك

جدران هشة تلفك

وغيوم الخيبات

تخيم على فضاءك

هل تتخيل معي كم الخيبات والحزن واليأس المسيطرة على الحالة الشعورية للشاعرة فالخيبات تتتابع والسقوط مؤكد للجدران الهشة

وفي قصيدة (قصائد إلى مدينتي) فتقول:

غزة لا تجيدُ إلا كنسَ أحلامها

من طرقاتها السوداء وأرصفتها العارية

تغادرنا الصباحات الجيدة

أقفالها صدئة

ابتلعت بحارها مفاتيح الدخول

خرائطها الممزقة تغربل

لأعلق أنا

بأحاديث الخسارات والرحيل

تسقطنا أمواتاً

والحياة مجازاً مرسلاً للموت

فقد حملت هذه الكلمات مجاهيل الحياة وضبابيتها، من خسارات وأحلام ضائعة للشاعرة ولمدينتها ذات الطرقات السوداء .

وتستكمل الشاعرة حزنها بكلماتها عن الغياب والفراق لأخيها ووالديها فتقول في قصيدة (أنا والدرويش):

ولكن يا ابن أمي

أنهكني الوصول

فأنا مثلك

لا أب لي

يقربنا من البعيد

وأعودلذات السؤال العنيد

أما أن له أن ينتهي

هذا القصيد

وقد استكملت هذا الغياب والوحدة والقلق في قصيدة (أول الرذاذ) فتقول:

يحيل المكان رماداً ويذرو أحلامنا المشتهاة

كما السراب

هالاتنا السوداء

إنها ذبول الفرح

في عين أدمنت النحيب

مع عتمتة ليلٍ قلق

من حضورك الغائب تاركاً ظله الشاحب

على جدرانٍ تُسوَّر

وطناً من مقابر

وأكملت الشاعرة كلمات الشوق في قصيدة (صمتٌ يليق بغيابكِ) لتبث شوقها لأمها القوية الثابتة كشجرة السنديان العتيقة .

وجاء السواد في دلالته السلبية عند الخطيب ليعبر عن الانقسام الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني فنلحظ في قصيدة (تاريخٌ فاسد) التشتت وعدم الاتزان والفرح المغتال الذي لم يكتمل  فتقول:

تاريخ بعينه

يقلقني

يطاردني

يتعقبني

كأنه يستعجل موتي

يبدد هدوئي

فيفسد دلال صغيرتي

وأبحث وسط نحيبها

عن راحةٍ قد لا تجيء

فصغيرتها غزة لا تجد راحتها ولا أمنها ولا أمانها

وقد أكملت هذا التشتت والضياع في قصيدتي (على محمل الجد، وبئر ثانية) حيث جاءت ذاكرة الشاعرة منهكة ومثقلة بالذكريات المريرة والأحداث الدامية المرعبة فسردتها بكل أسى ووحشية،  فجاء الأسود ليجسد الفزع والرعب والدمار الذي سببه الحرب فقالت الخطيب في قصيدة (ليلة حربٍ) :

يتساقط علينا الموت

من جيوب السماء

بلا حساب

نتشظى على أرصفة الموت

نتناثر

دمعات

صرخات

ارتفاعاً في دقات القلب

على مدار الموت أبثكم

 خوفنا / قلقنا / دمنا / موتنا / جوعنا / كوابيسنا / قهرنا/ عذابنا / وأنا انتظر الموت / القصف / الانفجار / الموت . كل هذه الكلمات تشعرنا بالضيق واليأس والهموم المثقلة على كاهل شعبا الفلسطيني والتي عبرت عنها الشاعرة .

  أما الثنائية الإيجابية للون الأسود في ديوان (لا قيامة لك الآن) فجاءت متمثلة بالقوة والثبات فجسدتها قصيدة (عناق) التي تقول فيها:

لا شيء يدثرنا

إلا زهدنا

كغصنين عاريين

في شجرة

قررت الصمود

في أرض الله

فعلى الرغم من هذا الحزن والهم والوحدة إلا أن الشاعرة صامدة رافضة للانكسار

وتنقلنا الخطيب بأسلوبها الممتع القوي إلى ثنائية البياض، فنلحظ أنه جاء في دلالته الإيجابية لوناً للثلج رمزاً للأمل والتفاؤل فتقول في قصيدة (ثلجٌ ساخن):  

سماءنا الغائمة تندف ثلجاً

كأن يلامسُ وجوهنا الموجوعة

يجلو عن عيوننا غبارَ الوهمِ

ينبه عصبنا الحائر في الذاكرة

عله يمحو ببياضه

أيامنا الخاسرة

ثم تقول: ويتكفل بياض الثلج

بغسل ظلالِ العابرين

يرطب قامةً ما

يرويها أملاً

قبل أن تؤول إلى ترابٍ

وتكتمل هذه الإيجابية للبياض في قصيدة (قلبٌ من زجاج) ففيها البرق الخاطف الذي يشع بالدفء ليستقبل فرح الشاعرة، ويغربل الوقتَ، ويكسر الصمت، فقد كانت الشاعرة موفقة بالربط بين قصائد الديوان مما يؤكد لنا أنها على وعي تام بما تكتب فقد جعلت دلالات اللون الأسود والأبيض تتآزر وتنسجم ؛ لتؤدي ما وضعت من أجله من أهداف .

 أما في قصيدتي (ما زلت حيا، إلى هديل.. رفيقة الروح) انتقلت الشاعرة إلى الثنائية السلبية للون الأبيض فتمثل لوناً لدموع الحزن والفقد والفراق والكفن .

ولا أنسى الأضداد الذي سيطر على طول الديوان وأخص بالذكر صفحة رقم 68 في قصيدة (ثرثرةٌ ممنطقة) فقالت (المسافات /الوصول، الفرح /الحزن، الميلاد/الموت، الكلام/ السكوت، الصمت/ الضجيج، النهار/الليل، اليقين/الشك، الخير/ الشر، الغناء / العويل، البيوت /القبور) فلم يكن اختيار الشاعرة لثنائية البياض والسواد مع الأضداد المنتشرة في الديوان اعتباطياً بل بذكاء حاد، يجذب المتلقي جذباً مشوقاً يدفع به بلطف إلى أعماق العمل الأدبي فقد لعبت الشاعرة بأسلوبها على اصطياد القارئ بشباك العشق المغلف بلوني البياض والسواد، وحققت الانسجام والتناغم والإثارة بتفجيرها طاقات اللغة لتخلق لوحة متكاملة ذات صوت وشكل ولون  .

فقد أنهت الشاعرة ما يقارب من عشرين قصيدة بأمل، وتفاؤل، وقوة، وعزيمة، وإصرار على رفض الواقع، والسعي لتغييره، حيث ختمت الشاعرة ديوانها بقصيدة (لأنك أنت) فقد تشبثت الشاعرة بحبها لوطنها وألقت الوجع على حواف القصيد، مدججةً بالحنين، تتخطى السراب؛ لتبقى هي ووطن الشعر سيدة الكلام المباح، أبدعت الشاعرة بديوانها مستخدمة نايها الحزين، فصدحت بآذاننا دندنة الأغنيات في ليالي الوجع والحنين، وهمست لنا بوشوشة البحر وشوقِه للراحلين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى