مجتمع

سكوت الليل: خالد جهاد

سكوت الليل

خالد جهاد/ كاتب فلسطيني

كثيراً ما تنتابنا الرغبة في التعبير عن مشاعرنا بكل ما تحمله دون الخوف من عواقب هذا البوح، فيشبه ذلك إتصال أحدهم ببرنامج ليلي يُبث عبر أثير الإذاعة في ساعةٍ متأخرة، ليحكي ما يخشى أن يحكيه للناس في وضح النهار، فالليل ارتبط بالأسرار، والخوف، والحب، والوحدة،والشوق، والحنين والألم والرغبة وارتبط أيضاً في أذهان الناس بالكثير من الشبهات وعلامات الإستفهام والأسئلة التي لا تملك إجابة واضحة لها، فحتى لو عاش أي منا أياً من تلك المشاعر تحت شمس الظهيرة سيشعر تلقائياً بأنه متوارٍ خلف ظلامٍ دامس.

فلا يستطيع أغلب البشر أن يتحكم في مشاعره وقلة هم من يقدرون على فهم أنفسهم عدا عن فهمهم لغيرهم ومحيطهم، وربما تبدو المشكلة بمنتهى البساطة والصعوبة في آن، حيث أن منبع المشكلات هو مفهومنا وانطباعنا الذي كوناه عنها من أصغر الأمور إلى أعظمها وأشدها تعقيداً، مما يدفع الأكثرية إلى التماس الحل الذي يجسد الأمان بشكل أو بآخر لدى من نراه على درايةٍ أكبر ونظرةٍ أشمل وأعمق، فتلجأ إلى الطبقة المثقفة والمتعلمة وربما المتدينة أحياناً، وتختار من بينها من تراه الأقرب لها أو القادر على فهمها دون التعالي عليها، ومن ترى فيه حساً إنسانياً صادقاً تتوسم فيه النزاهة والشفافية، بعيداً عن الهالات المصنعة عبر الإعلام والتي يتم الإعداد للكثير منها سلفاً.

وكان من بين أهم العوامل المسببة للإحباط وانهيار الذوق وتدني الأخلاق وتراجع القيم هي السلوكيات التي انتهجها الكثير من الفئات المحسوبة على الأوساط العلمية والثقافية والمتدينة، فسببت حالة من الإهتزاز الواضح واختلال البوصلة وانهيار الثقة لدى الناس في أغلب البشر والأشياء بعد أن كانت تراهم كقدوة، فأصبحت تعتبر بسببهم أن كل شيء بشكلٍ أو بآخر تحول إلى مجرد سلعةٍ قابلة للبيع والشراء، يفوز بها من يقدم تنازلات أكثر ويدفع ثمناً أكبر للوصول إلى هدفه أياً كان حتى وإن كان غير مشروع، وأصبح لدى الكثيرين توقعٌ لأي شيء وأي تغيير من البعض، ليتلون ويزيف الحقائق ويلبسها ثوباً جديداً يناسب الوجهة الجديدة أو المصلحة التي يعمل لحسابها بلسان ولغة ونمط المرحلة بعد أن صعد الكثير منهم وحقق مكانةً بين الناس تحت مسمياتٍ وشعارات إنسانية وأحياناً دينية أو تقدمية أضفت بريقاً على أسمائهم وساهمت في صنعها، وعلى قدر التوقعات تكون الخيبات أكبر وأشد وطئةً ولها وقعٌ سلبي على عامة الناس عند انكشاف وجهٍ مناقض للوجه الذي عرفوه.

وتختلط الأمور كثيراً في الأذهان لإختلاط المسميات وإصرار كثر على وضع تصنيفات غير حقيقية للآخرين، فيخلط الغالبية بين المتعلم والمثقف ويستسهلون إطلاق المسميات عليهم، فمفهوم (المتعلم) الذي يحتاج إلى مراجعةٍ وتدقيق ليس بدقيق، حيث إنه مرتبطٌ فقط بنتيجة التحصيل العلمي دون عوامل مختلفة أكثر أهمية من جهة، وبين من يقدر على تحمل تكاليفه المادية من جهة أخرى، فلا يعني حصول أي شخص بالضرورة على مؤهلٍ علمي إجادته للعمل به، بل تعني إنهاء مناهج تعليمية بنجاح وهذا شيء جيد، فيؤكده أداؤه لاحقاً أو ينفيه، كما لا يعني ذلك إمتلاكه للوعي أو الثقافة فهما يُبنيان من الإطلاع بشكل مستمر وتراكمي وواسع ينعكس على رؤية الشخص وتفكيره وسلوكه، كما أن ممارسة الكثيرين لطقوس وفرائض دينية تجعل البعض يعتقد أنهم متدينون، ونظراً لغرق المجتمع في الشكليات تبنى المفاهيم بشكلٍ خاطىء وتنسج صورةً غير واقعية متوقعةً منها أن توافق أفكارهم التي تنزه الفئات المتعلمة أو المثقفة أو المتدينة عن أي خطأ متناسيةً أن المشكلة بدأت من مخيلتها.

فلا تتخيل على سبيل المثال أن هناك كثير من أصحاب الدرجات العليا والألقاب اللامعة قد يكون ذا ذوقٍ هابط في اختيار ما يتابعه من أعمالٍ تنسب إلى الفن والثقافة والأدب فيما هي أبعد ما تكون عنه، وأقرب إلى السوقية والإبتذال والسطحية والتفاهة، ويجهل البعض تدني الألفاظ والعبارات التي يتداولها بعض هؤلاء الأشخاص واحتوائها على قدر كبير من المصطلحات الإباحية والتلميحات الجنسية بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة بشكلٍ دائم وتحولها إلى حالةٍ من الهوس وكأنه أمر طبيعي، والذي قد يتطور أحياناً إلى تحرش جنسي لفظي أو جسدي يتم التعتيم عليه، وحتى أن البعض لا يخجل من الحديث عن متابعته لأفلامٍ إباحية وسط زملائه الذين يشاركونه الضحك مابين مشاركٍ ومستمتع، ومابين مستمعٍ بإهتمام ولكن في صمت كي لا يترك هذه المتعة ولا يحسب عليه أنه يشارك فيها (من وجهة نظره) إذا تم انتقاد هذه الأجواء من زملاء آخرين يرفضونها ويعتبرونها غير لائقة، وتنتهي أحياناً هذه الحوارات ببعض العبارات الدينية والعظات التي تقال بشكل فلكلوري وتمثيلي عابر كجزءٍ من (التكفير عن الذنوب)، دون أن نغفل تحقيق البعض لمكاسب شخصية على حساب القيم التي تأخذ قواماً مطاطاً يناسب الأهواء ويرضي جميع الأذواق.

وتبدو صعوبة المشكلة بسببنا أولاً، لأننا دائماً في حالة انتظار للحل والمنقذ الذي قد يقودنا إلى بر الأمان، وفي حالة توقف عن التفكير والسماح للغير بالتفكير بالنيابة عنا أو حالة خوف من آراء الناس حتى وإن لم نكن مخطئين، وفي حالة توقع من الآخر الذي قد يعجز عن تحقيق ما نرجوه إما لأنها خارج إرادته أو حتى خارج اهتماماته، وحالة تنزيه لبعض الفئات رغم أنه لا يوجد إنسان منزه عن الخطأ، ولإعتقادنا بأن مفهومي العفة والعهر مرتبطان فقط بالجسد بمعزل عن العقل والقلب والروح واللسان ويرتبط بالنساء دون الرجال، رغم أن الأديان ترفض ذلك فيما تمارسه مجتمعاتنا التي تعرف نفسها دوماً بالمتدينة والمحافظة، ولإعتقادنا بأن مفهوم الدعارة هو واحد بينما هو متشعب وشامل ونصيب الذكور منه لا يختلف عن نصيب الإناث، ولإعتقادنا الخاطىء أن الليل مرتبطٌ بالخطايا فيما لا تعرف الخطايا زماناً أو مكاناً، فلربما كان سكوت الليل هو ما دفع الناس لإخفاء عيوبهم ودسها في جيوبه، وتحميله أوزار أفعالهم وقناعاتهم التي اقترفوها في كواليسه منتحلين صفته وشخصيته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى