ملفات اليمامة

سميح محسن يكتب لـ”ملفات اليمامة”: عن المشهد الثقافي الفلسطيني الراهن


عن المشهد الثقافي الفلسطيني الراهن

بقلم: سميح محسن/ كاتب وشاعر 

هل يُبَشِّر المشهد الثقافي الفلسطيني الراهن بخير؟!

أن تبدأ الكتابة حول المشهد الثقافي الفلسطيني الراهن بهذا السؤال الذي قد يحمل في بعض دلالاته صيغة الاستنكار يعني أنك تدخل في مواجهة مفتوحة مع واقع مُرّ. وهل السؤال في رسم المؤسسة الرسمية وحسب، أم أنّه يتسع ليشمل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ذات الشأن، ليصل إلى الكتّاب والأدباء والفنانين وغيرهم من صُنّاع الرأي العام، وإلى المؤسسات والاتحادات التي ينضوون تحت لوائها؟!

عندما نطرح هذا التساؤل، وبهذا القدر من المرارة، كأننا نقدّم النتائج والحكم سلفاً على المقدمات والأسباب، وهذا الطرح بالتأكيد غير علمي، وغير منطقي. ولكنّ المتابع لتفاصيل هذا المشهد، ومن داخله، وعلى ما يربو على أربعة عقود من الزمن، قد يخرج بهذا الحكم القاسي على واقع الحركة الثقافية الفلسطينية الراهن.

الكاتب الفلسطيني بين زمانين

قبل ما يزيد عن قرن من الزمن، وعندما بدأت تظهر على السطح خيوط المؤامرة الكونية على الشعب الفلسطيني وأرضه، ارتبط المثقف الفلسطيني بشكل عضوي مع الهمّ الوطني، وكانت فلسطين بوصلته في إبداعاته المتنوعة، وإن تناولها كلُّ واحد منهم من خلفيات سياسية وأيديولوجية آمن بها. لقد واكب الكتّاب والأدباء والفنانون والمفكرون الفلسطينيون المراحل والتطورات التي مرّت بها القضية الوطنية صعوداً وهبوطاً، وعبروا عن كل مرحلة من مراحلها حتى غدا المُنتَج الأدبي والفكري الفلسطيني بمثابة كتاب تاريخي لكل مرحلة من تلك المراحل دون التنازل عن الشروط الإبداعية للكتابة.

في مرحلة ما قبل النكبة كانت السمة البارزة على هذا المُنتَج الدعوة للثورة والتمرد والمقاومة واستشراف ما يمكن أن تؤول إليه الحال في فلسطين. وفي مرحلة ما بعد النكبة غلب الحنين على هذا المُنتَج المكتوب خارج فلسطين المحتلة عام 1948، وبخاصة الشعري منه، بينما تميّز الشعر المكتوب داخلها بالدعوة للثورة والتمرد ورفض الواقع الجديد، وتجلى ذلك في ما عرّفنا به الكاتب الشهيد غسان كنفاني بأدب المقاومة، وغدا هذا الأدب مدرسة شعرية قائمة بذاتها، وتركت بصماتها الواضحة على الحركة الثقافية التي نشأت في الأرض المحتلة عام 1967، وامتدت تلك البصمات وتأثيراتها إلى البلدان العربية الأخرى حيث ازدادت فلسطين حضوراً أكثر من ذي قبل.

في تلك المرحلة لم يكن قد تبلور جسم فلسطيني رسمي مستقل بذاته حتى يبني المؤسسات الثقافية الخاصة به، وكان الكتّاب والمثقفون الفلسطينيون ينشرون ما ينتجونه من نصوص في الصحف والمجلات العربية بشكل عام. وإن تحدثنا عن عمل منظم يمكن الإشارة إلى تجربة الكتّاب في الداخل المحتل عام 1948 حيث لعبت صحيفة (الاتحاد) ومجلتا (الغد) و(الجديد) دوراً هاماً وبارزاً في نشر ما كان ينتجه الكتّاب الفلسطينيون هناك. وعندما أصف ذلك الجهد بأنه كان منظما ذلك لأن تلك المنشورات أسسها، وأشرف عليها الحزب الشيوعي الذي لعب دوراً لا يمكن إغفاله في رعاية ثقافة المقاومة، والحفاظ على الهوية العربية الفلسطينية في تلك المرحلة التي وجد الشعب الفلسطيني نفسه يعيش في جغرافيات متعددة وغير متصلة. وفي الضفة الغربية لعبت مجلة (الأفق) التي كانت تصدر في مدينة القدس قبل احتلال شطرها الشرقي دوراً هاماً في نشر نتاجات عدد من الكتّاب الذين أصبحوا فيما بعد من ألمع وأهم الكتاب الفلسطينيين.

مع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وانطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، وبناء مؤسسات المنظمة في الشتات، وبخاصة في بيروت، وإصدار الصحف والمجلات الحزبية، وإقامة مؤسسات ثقافية ومراكز بحثية التحق للعمل فيها كتّاب وأدباء وصحافيون ومفكرون من مختلف البلدان العربية، ما أثرى ذلك الحركة الثقافية الفلسطينية، وحوّل فلسطين من هوية وطنية إلى هوية نضالية. وشهدت تلك السنوات، بما لها وما عليها، حضوراً لافتاً لفلسطين وقضيتها، وغدت حاضرة في الحركة الثقافية العربية من مشرقها إلى مغربها. وفي تلك المرحلة لعبت دائرة الثقافة والإعلام في المنظمة، والاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين دوراً هاماً في إبراز ونشر ثقافة المقاومة، وساعدها في ذلك حاضنة عربية تمثلت في الأحزاب اليسارية بشكل رئيسي، وحاضنة دولية تمثلت في دول المعسكر الاشتراكي آنذاك والأحزاب اليسارية حول العالم. إنّ هذا الحضور ما كان له أن يكون بمعزل عن انحياز المبدع الفلسطيني الكامل لقضيته الوطنية.

لا يعني ذلك أنّ تلك المرحلة كانت من الذهب الخالص، وأنّ حرية الرأي والتعبير لم تُمَسْ، وبخاصة إذا تعلق الأمر بتوجيه نقد لممارسات القيادات السياسية الفلسطينية، ولنا في هذا المجال ما كان يتعرض له الشهيد ناجي العلي من مضايقات، بل وتهديد أيضاً. بل إن كاتب هذا المقال تعرض للتهديد على خلفية مقال نشره في صحيفة (الرأي العام) الكويتية عشية عقد المؤتمر الرابع لاتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين في شهر نيسان (أبريل) عام 1984 في العاصمة اليمنية (صنعاء).

عن الراهن

في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ارتبط معظم الكتّاب والأدباء والمفكرين والفنانين (المثقفين) الفلسطينيين بحركات وأحزاب سياسية، بل إنّ عدداً من المثقفين العرب الذين لجأوا إلى (الثورة) في بيروت طوعاً، أو هرباً من قمع أنظمة الحكم في بلدانهم انضموا إلى تلك الحركات والأحزاب التي شكّلت مظلة لهم، وعملت على تقديمهم للرأي العام. بل إنّ بعضها سعى، وبضيق أفق، على ربط أبرز المبدعين بها وكأنّهم ملكية خاصة، وليسوا ملكاً للشعب الفلسطيني وحركته التحررية والثقافية، إن لم يكن للحركة الثورية والثقافية للبشرية جمعاء. وفي الوقت نفسه لم يكن هؤلاء ينكرون انتماءاتهم السياسية ومنطلقاتهم الأيديولوجية وطرح أنفسهم كمثقفين عضويين حسب مفهوم المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي، إلا أن فلسطين وقضيتها كانت دائماً فوق انتماءاتهم السياسية والحزبية.

لا يتسع هذا المقال لتتبع المآلات التي وصل إليها العديد من مثقفي تلك المرحلة. فعلى مستوى الانتماء التنظيمي فكّ كثيرون منهم علاقاتهم بتنظيماتهم السياسية، وعلى صعيد الكتابة الإبداعية ذهبوا إلى أماكن أخرى. وهاتان قضيتنان مطروحتان للنقاش. فعلى مستوى القضية الأولى نطرح العديد من الإسئلة: هل كانت العلاقة بين المثقف والحزب السياسي (السلطة) نفعية؟! وهل كانت تلك العلاقة مؤسسة على منطلقات سياسية وأيديولوجية واجتماعية أمّ أنّها كانت مؤسسة على اعتبارات أخرى؟! وهل كان هذا الانفكاك ناتجاً عن خلاف سياسي وأيديولوجي مع أحزابهم أو عن شيء آخر؟! وهل للأحزاب دور في ذلك؟! وهل كانت الأحزاب تضع قيوداً على مثقفيها فعملوا على كسرها وخلعوا عن أكتافهم عباءتها؟!

وأما على المستوى الثاني فنطرح العديد من الأسئلة أيضاً: هل اكتشف هؤلاء أن فلسطين وقضيتها تشكلان قيداً على إبداعاتهم؟! وهل ربطوا مفهوم الأدب المقاوم بالبندقية فقط وسعوا إلى تحرير هذا المفهوم وتوسيع مديات فضاءاته؟! أم أنّ مشاريعهم الكتابية ذهبت إلى أماكن أخرى ظنّا منهم أنها تفتح أمامهم نوافذ أخرى نحو الشهرة والعالمية وركضاً وراء إمكانية الحصول على جوائز ذات شأن معنوي ومادي؟! أم أنّ خفوت حضور القضية الفلسطينية على المستويين العربي والدولي جعلهم يغرقون في الكتابة عن الخاص بشكل معزول عن العام، وغرقوا في الكتابة عن الذات؟! وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذه الأسئلة لا تشمل جميع المبدعين حيث أنّ العديد منهم لم ينزلوا عن جبل فلسطين بحثاً عن مغانم. قد تعني تلك الأسئلة ذلك الجيل من المثقفين الذين ارتبطوا بشكل أو بآخر بمرحلة ما قبل اوسلو أكثر من غيرهم من الكتّاب والمثقفين.

آخر القلاع

مع تصاعد حضور الرواية النقيض، وتبني بعض المطبعين لها على حساب الرواية الأصيلة، ومع انسداد أيّ أفق لحل سياسي حتى وفق رؤية اتفاق اوسلو، وفشل القيادة السياسية الفلسطينية في اجتراح رؤى ثورية للخروج من المأزق الذي أوصلت الشعب الفلسطيني إليه، وعجزها عن تلبية الشروط الدنيا لتعزيز الصمود على الأرض إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، كثر الحديث عن ضرورة تعزيز الرواية الفلسطينية، واعتبار الثقافة آخر القلاع في تعزيز الهوية الوطنية الفلسطينية على أرضها التاريخية. فماذا عملت المؤسسة الرسمية الفلسطينية لتعزيز هذا المطلب؟!

إن تحقيق هذا الأمر منوط بالكتّاب والمثقفين دون غيرهم، فماذا قدّمت المؤسسة الرسمية لهم، وبخاصة للمعارضين لسياساتها؟! هل قامت بتوفير سبل عيش كريم لهم حتى ينشغلوا بالقراءة والبحث والكتابة والإبداع؟! هل صانت الحريات العامة، وبخاصة حرية الرأي والتعبير، أم قامت باعتقال كتّاب ومثقفين وناشطين مجتمعيين والمساس بكرامتهم الإنسانية على خلفية مواقفهم السياسية ونقدهم لممارساتها غير الديمقراطية؟! وما هي الميزانيات التي تخصصها للجهات التي تتولى مسؤولية إدارة الشأن الثقافي؟! وماذا تشكّل نسبتها من نسبة الميزانيات المخصصة لأجهزة الأمن التي لم تستطع توقيف مُطْلِقِ نار في الأعراس، أو الحدّ من ارتفاع نسبة الجريمة في المجتمع، فضلاً عن غياب أيّ دور لها في حماية الناس من تغوّل قوات الاحتلال وتوحش المستوطنين؟! وهل المؤسسة الرسمية معنية حقاً في إحداث أيّ تغيير في سياساتها، سواءً تلك المتعلقة بعلاقتها مع الاحتلال، أو تلك المتعلقة بالشأن الداخلي، وفي مقدمة ذلك الاحتكام للشعب من خلال إجراء انتخابات دورية، شفافة ونزيهة، لتجديد النظام السياسي الذي أصبح مصاباً بالشيخوخة؟! وهل أحزاب المعارضة، اليسارية منها بالذات، وهي الأكثر قدرة من الجانب النظري على إحداث تغيير ثوري في المجتمع، معفاة من المسؤولية عن الحال التي وصلنا إليها؟!

هل لا أمل؟!

مما تقدّم يبدو أننا نعيش حالةَ لا أمل لنا في النجاة من أوزارها، ولكنّ الأمل لا ينقطع للنهوض من هذه الحالة. إنّ الرهان على دور المثقفين الثوريين في إحداث التغيير المطلوب لم يزل قائما، فهناك كوكبة من الكتّاب والأدباء والمفكرين والمثقفين يواصلون المضي في الطريق التي اختاروها، وأعلنوا منذ بداياتهم الأولى، ومنذ عقود من الزمن، انتماءهم الذي لم، ولن تشوبه شائبة إلى فلسطين، وانحيازهم الكامل والصريح إلى قضيتها، وإلى الطبقة التي كانت، ولم تزل تحمل تلك القضية على أكتافها، وقدّمت من التضحيات ما لم تتحمله جبال على حملها. الرهان يظل على تلك الكوكبة التي لم تزل قابضة على الجمر، ولم تنزل عن الجبل بحثاً عن مغانم خاصة وضيّقة، وذلك رغم سوء الحال.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى