مقالات

واسيني يعزف سرداً روائياً على وقع البيكاديللي 

واسيني يعزف سرداً روائياً على وقع البيكاديللي

بقلم: رجب عطا أبو سرية/ روائي فلسطيني 

واسيني الأعرج روائي عربي جزائري متفرد, من أكثر من زاوية, فهو الأكاديمي, المحاضر في جامعة وهران, لكنه ليس على خطى الأكاديميين الذين عادة ما يكونوا نقادا, وليس مبدعين, وهو الروائي المثابر الذي تابع الكتابة الروائية خلال أربعة عقود, دون توقف, أي أنه وقف حياته لمشروعه الروائي, فتحقق به, مع أكثر من ثلاثين نصا روائيا, كتبها تباعا, وبشكل متواتر, وهو الروائي المغاربي, لكنه دائم الحنين إلى المشرق العربي, حيث حاز على تحصيله الجامعي من جامعة دمشق, وربما كان الوحيد من بين الروائيين العرب, وحتى روائيي العالم, الذي نوع فضاءاته الروائية, الجغرافية خاصة, بحيث دار بعض منها في مسقط رأسه الجزائر, وبعضها في سوريا ولبنان وحتى فلسطين, كما أنه وهو الكاتب الجزائري الذي كتب رواياته بالعربية, إلا أنه لم يظهر عداءا للفرانكفونية, رغم انحيازه للعروبة وللعربية, وكذلك هو واحد من المثقفين العرب, المنفتحين على العصر وعلى الآخر, أي التقدميين, بكل معنى الكلمة, المنحازين للحياة, والذين يقفون قولا وفعلا ضد التزمت والتطرف والانغلاق.

واسيني الأعرج, واحد من الروائيين العرب القلائل, الذي ظلوا حاضرين وناشطين ثقافيا, ليس في بلده وحسب, ولكن في مجمل خريطة الثقافة العربية, فلا يكاد ينعقد معرض كتاب أو مؤتمر ثقافي, إلا ويشارك فيه واسيني, كما انه لا ينقطع حتى عن المشاركة في المسابقات الروائية, ويفوز فعلا ببعض جوائزها المهمة والقيمة, لكل هذا يمكن اعتبار واسيني الأعرج أيقونة الرواية العربية المعاصرة, بمجمل منجزه الروائي وبحضوره الثقافي وبشخصه السمح الجميل.

يلاحظ خلال إطلالة عامة على روايات واسيني, أنها تحترم الصوت النسوي, باعتباره موروثا روائيا منذ “ألف ليلة وليلة” وسرديات شهرزاد, كذلك حكايا الجدات, وهو قد جعل من النساء بطلات وراويات للعديد من رواياته التي وشت بذلك منذ عتبات نصوصها, أي منذ العناوين: “أصابع لوليتا, امرأة سريعة العطب, أنثى السراب, سيدة المقام, حارسة الظلال, أحلام مريم الوديعة, نساء كزانوفا, مي .. ليالي ايزيس كوبيا, وعازفة البيكاديللي.

إضافة لسوناتا لأشباح القدس, ومي ليالي ايزيس كوبيا, كتب مؤخرا واسيني روايته “عازفة البيكاديللي” وذلك ضمن فضاء المشرق العربي, كذلك كتبها احتفاء بذكرى المسرح البيروتي الذي شهد عروض أهم مسرحيات الأخوين رحباني وفيروز, وتعبيرا عن حبه “التاريخي” لسفيرة النجوم وجارة القمر, والتي بدأت منذ كان يافعا, فركب القطارات متابعا عروضها في المدن الجزائرية خلال أول زيارة لها للبلد العربي, بعد استقلاله في ستينيات القرن الماضي.

نقول هذا, لأنه واضح تماما, بان ماسي البيكاديللي, والذي هو بطل الرواية مع العازفة لينا, هو تقريبا واسيني في الواقع, (هذا التداخل وشت به الصفحة 130 من النص ضمن المقطع الثامن) وقد تداخل السرد الذاتي هنا مع السرد الروائي المتخيل, من خلال الحيلة التقنية المحددة بمحاولة ماسي القادم من باريس إلى بيروت ليكتب كتابا عن البيكاديللي ما بين حريقي 2000, 2020, وذلك في تناول لمعركة الحياة مع الموت, التي طالت باريس الشرق, بيروت.

أول ما يمكن ملاحظته في “عازفة البيكاديللي” بأنها جاءت كنص روائي سردي موازي لعرض تاريخي لما كان عليه البيكاديللي, وهو المسرح الذي أخذ اسم الشارع اللندني الشهير, ويقع في شارع الحمراء ببيروت, والذي عرضت فيه معظم مسرحيات الأخوين رحباني وفيروز, ذلك المنجز الفني, الذي يعتبر أحد أهم المنجزات الثقافية اللبنانية والعربية خلال القرن العشرين, الذي شهد حركة التحرر العربي, بما قدمته من منجز ثقافي تحرري, وضع العرب على خارطة الثقافة العالمية الحديثة, بعد عصور الجهل والتخلف والغياب.

وقد اعتمد نص “عازفة البيكاديللي” على ثنائية تقليدية, هي ثنائية ماسي ولينا, الكاتب الذي يعد كتابا عن حريق بيروت, والفنانة التي كانت تعزف البيانو قبل افتتاح المسرحيات الفيروزية, واللذين استند النص على واقعة المضاجعة العابرة التي تمت بينهما قبل أكثر من 40 سنة, حين جاء ماسي من دمشق لبيروت لحضور مسرحية “بترا” عام 1978, وكان هو طالبا بجامعة دمشق وهي بعمر 18 سنة, كانت على موعد لفض بكارتها مع حبيبها يونس, الذي نصحها بتناول حبة هلوسة لتخفف عنها وطأة فض البكارة, وحين انتظرته ولم يأت التقطت ماسي أو ألتقطها, لكن المهم أنها ذهبت معه لغرفته في الفندق القريب, وكان حبيبها لليلة واحدة!

هذه الممارسة تعرف في الغرب “one night affairs”, مع اختلاف الوظيفة, ففي الغرب تقع الممارسة بين شخصين بشكل عابر, غالبا ما يكونان متزوجين, أي لا يسعيان إلى مساكنة أو صداقة دائمة, بل إلى تجديد الزواج الذي صار مملا, المهم أن واسيني بنى خطه الدرامي على هذه الواقعة, وافترض وجود علاقة بين ماسي ولينا, لكن بتقديرنا هذه العلاقة بقيت خارج النص, أو في مخيلة الكاتب, حتى لو كان الحدث واقعيا, والكاتب اعتبر الشخصيتين محور النص, واعتمد الحيلة التقنية, متمثلة بكتابة لينا مذكراتها, لتكتب جزءا من النص, في موازاة إعداد ماسي لكتابه عن حريق البيكاديللي, ليشكل الخطان معا “فوكس” الرواية, بسرد ما يحيط ببطلي النص, من وقائع وأحداث وشخصيات.

المشكلة هنا والتي جعلت من الخط السردي أفقيا, أي دون تصاعد درامي, وبذلك قللت كثيرا من التشويق المهم لقراء الروايات, كانت تكمن في أن العلاقة بين ماسي ولينا انقطعت بعد تلك الواقعة, التي ظهرت كمجرد حادثة, فلينا تزوجت من انطوني, وماسي ذهب إلى فرنسا وتزوج هناك, ولم يتواصلا معا, لدرجة أنها لم تتأكد من أنه هو حين عاد لبيروت ولمحته في البيكاديللي, أما هو فلم يبحث عنها, ولم يهتم بها, أو حتى لم تخطر بباله, ذلك أن كل السرد الذي دار حول هذه الوقعة جاء ضمن سردية لينا, وهذا طبيعي وصحيح تماما, أي أنه من الطبيعي أن لا تنسى المرأة من فض بكارتها, وإن كان شريكا عابرا, وحتى وإن كانت هي في شبه غيبوبة ومهيأة لتلك الواقعة مع شخص آخر, أما هو فمن الطبيعي أن لا يتذكرها, باعتبار أنهما لم يكونا على علاقة حب, أو أن أحدهما كان مشروعا للزواج من الآخر.

وقد أستل الكاتب أسماء أبطال روايته من التاريخ, أو من الموروث العظيم لبلادنا, إن كانت المشرق أو المغرب العربي, ف”سيرتا”, صديقته الفيسبوكية, التي اخبرها بمجيئه لبيروت ليعد كتابه عن حريق المرفأ, كانت جزائرية مثله, وكانت ويا للصدفة الخيالية صديقة لينا, وكان اسمها سيرتا, أي قسنطينة المدينة التي تقع في الشرق الجزائري, وكانت عاصمة مملكة نوميديا التي جمعت ليبيا وتونس والجزائر, أما ماسي فهو تصغير اسم ماسينيسا, ملك ماسيسيل الشرق الذي هزم سيفاكس ملك ماسيسيل الغرب ليوحد مملكة نوميديا, كذلك استل اسم انكيدو حبيب أيما ابنة لينا, من ميثولوجيا العراق, أما أيما فهو اسم مستل من تراث المنطقة, وهو يمكنه أن يحيل إلى إيمان, أو إلى الغرب المسيحي “إيمي” الألماني تحديدا, الذي يعني المحبوبة, وربما يحيل إلى العبرية والذي يعني فيها ذات الشخصية القوية, وقد كانت أيما ابنة لينا هكذا قوية ومحبوبة في الرواية, أما فيما يخص السرد, فقد منح الكاتب الحرية للشخصيات لتتحدث بنفسها وفق ضمير أنا الراوي, باستثناء ماسي, الذي تحدث عنه بمضير هو, ربما لأنه يدرك في أعماقه بأن ماسي إنما هو الكاتب/الراوي نفسه, وذلك حتى لا يكتب سيرة ذاتية, والحقيقة أن حرفية الكاتب هنا ظهرت بقوة, وجعلت من السرد الذاتي رواية وليس سيرة ذاتية أو مذكرات خاصة. وضمن تقنيات النص اعتمد الأعرج في هذه الرواية لغة سهلة ومتداولة, تعبر عن كون بطلها ماسي يعد كتابا صحفيا, وقد احتوت لغة الرواية على جمل ومصطلحات من اللهجة اللبنانية حيث كان يدور الحوار بين بعض الشخصيات, التي كانت بالطبع معظمها لبنانيا, باستثناء ماسي وحارس البيكاديللي السوداني أولا ومن ثم المصري تاليا.

يمكن القول بأن “عازفة البيكاديللي” هي عزف سردي روائي بالحروف, كما لو كانت نصا شعريا يعبر عن “نوستاليجيا” الحنين للماضي, الذي كانت عليه الثقافة العربية قبل أربعة عقود, وأنه جاء كمقولة تؤكد انتصار الحياة بأدواتها الفنية على الموت بكل أشكاله, والحريق منها, وأن النص الذي كتب بعد تجربة روائية طويلة لصاحبه, قد كتب بحرفية إنشائية بالغة, لكن مع ذلك, ولأن نقطة الضعف تمثلت في أفقية النص, أي ان السرد سار بشكل افقي دون تصاعد درامي, نظرا لانعدام التضاد بين قطبين في النص كان يمكن أن يكونا ماسي ولينا, أو القوة الخفية التي كانت وراء حريق البيكاديللي وربما حريق المرفأ, وجورنال المحقق مثلا, وبذلك سار السرد وفق خط أفقي غير تصاعدي, كذلك نظرا لهشاشة مقولة النص, أو عدم ظهورها بقوة, رغم مشروعيتها, وهي أن الموسيقى باعث للحياة, تتفوق على القتل والموت. ورغم تضمين النص خط الحب الخاطف بين ماسي ولينا عازفة البيكاديللي, لكن النص لم يبنى على انه معالج لتلك الغاية, ولا لهذه العلاقة.

فإن النص لم يفتقر للتشويق وحسب, بل وانتابه الملل إلى حد ما, خاصة وأن النص كان طويلا نسيبا_أطول مما يكتبه الروائيون الشباب هذه الأيام_ وقد احتوى على تضمينات كثيرة, من نصوص الأغاني, إلى مفردات الموسيقى وبعض الحوارات والقصائد بالفرنسية, كذلك معلومات عن العطور وتفاصيل حريق البيكاديللي ومرفأ بيروت, كما أنه انتهى نهاية سعيدة على طريقة الأفلام المصرية خاصة والعربية عامة, كل هذا أرهق الى حد ما _بتقديرنا_ النص الذي رغم ذلك كان رواية جيدة, نظرا لأنها مكتوبة بحرفية الخبير, ونظرا لأنها تحمل اسم واسيني الأعرج.

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى